بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: كان النبي يكره أن يأتي الرجل أهله طروقًا

          207- قوله: (كَانَ النَّبي صلعم يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجل أَهْلَهُ طُرُوقًا...) الحديث(1). [خ¦5243]
          ظاهر الحديث يدلُّ على كراهية النَّبي صلعم أنْ يأتي الرجل أهلَه على غفلة، وهم لا يعلمون بمجيئه، وذلك إذا كان في سفر. والكلام / عليه مِن وجوه:
          منها أنْ يُقال هل(2) هذه الكراهية لحكمةٍ تُعلَم أو لا تعلم؟ وهل مَن فعلَ ذلك الذي كرهه هُوَ صلعم(3) هل يكون على بابه مِن أنَّ فاعل المكروه لا شيءَ عليه والتارك له مأجور أم لا؟ وهل يتعدَّى(4) ذلك إذا فهمنا العلَّة أم لا؟
          فأمَّا الجواب على(5) قولنا: ما الحكمة فيه؟ فقد بيَّنها(6) صلعم في غير هذا الحديث فقال: «حتى تمتشط الشَّعثَةُ، وتندَهنَ المستحدَّة، وتَسْتَحِدَّ المُغْيِبَة(7)» لأنَّه صلعم كان ينظر لكلِّ ما(8) يكون فيه صلاح وتوادد(9) بين أمَّته فيرشدهم إليه(10)، فلمَّا كانت غيبة الرجل عن أهله توجب لهنَّ تركَ التطيُّب وتركَ التزيُّن في الغالب مِن عاداتهن، والطيب لبعض النسوة إذا لم يفعلن منه شيئًا(11) يبدو منهن أشياء لا تعجب الزوج، وربما يكون مِن أجلها الفراق بينهما أو تقع(12) في النفوس كراهية، وربما تسوء العشرة بينهما مِن أجل ذلك، فأرشدهم(13) صلعم إلى ما فيه ستر العيوب وسبب إلى التوادد وحسن العِشرة التي هي مِن الإيمان.
          وهنا بحث وهو: أنَّ زينة المرأة لزوجها لا تكون إلا بما هو على لسان العلم مِن التطيُّب بالطِّيب(14) المشروع لهنَّ، وبحسن(15) الثِّياب على قدْر حالهن مِن جِدَة أو غيرها، ولا يكون بتغيير(16) خلق الله تعالى ولا بمكروه ولا بتدليس، فإنَّ ذلك كله ممنوع شرعًا، ومَن حاول أمرًا بمعصية فهو أبعد له ممَّا يرجوه وأقرب إليه لِمَا يكرهه.
          وأمَّا قولنا: هل على مَن فعل(17) ذلك المكروه شيءٌ؟ فقد روي أنَّ بعض مَن كان في زمانه / صلعم وسمع تلك الكراهية أنَّه لَمَّا قفل مِن بعض أسفاره حمله الشوق إلى أهله أنْ أتاهم طُروقًا فوجد مع عياله غيرَه قد خلفه عليهم(18)، واشتهرت قصتهم وافتضحوا في المدينة.
          قال العلماء: هذا عِقاب له لمخالفته السُّنَّة، أعاذنا الله مِن مخالفتها بمنِّه، ولا عقاب أشدُّ ممَّا جرى على هذا المذكور مع العذر، فكيف حال مَن يفعله دون عذر؟
          وأمَّا قولنا: هل يتعدَّى الحكم في هذه(19) العِلَّة التي ذكرناها؟ فحيث(20) وَجدْنا وجهًا مِن الوجوه يكون فيه تسبب(21) إلى التوادد وحسن العشرة أو ستر العيوب، ولا يكون فيه مخالفةٌ(22) للسان العلم نَدَبْنا إلى فعله، ومِن هذا الباب نصَّ الفقهاء على أنه لا يدخل الرجل(23) بيته حتى يتنحنح، أو يتكلَّم، أو يعمل حركة ما(24)، ينبئ بها أهله أنَّه(25) داخل عليهم مِن أجل أنْ تكون(26) على حال لا(27) تريد أنْ يراها زوجها عليها.
          ومما يقوي ذلك أنْ(28) جاء بعض الصحابة فقال للنَّبي صلعم : «يا رسول الله(29)، أَسْتَأذِنُ على أمِّي؟ قال: نعم، فقال(30): يا رسول الله، وأنا أخدمها؟ فقال له رسول الله صلعم : أتحب أنْ تراها عُريانة؟، قال: لا، قال: فاستأذِنْ عليها إذًا»، ومِن طريق النظر، فإنَّ البشرية لها ضرورات وبعضها لا يحب أحدٌ أنْ يطلع عليه وهو فيها.
          وفيه دليل: على ستر العيوب ما كانت، يؤخذ ذلك مِن كونه ╕ كرهَ دخول الرجل على أهله طروقًا، وقد جعل بين الزوجين / مِن المكاشفة ما بينهما(31) واطلاع بعضهم على جميع(32) جزئيات صاحبه باطنة وظاهرة ما لا خفاء بها على أحد، حتى إنَّه لا يمكن أنْ يخفى عليه مِن عيوب صاحبه في الغالب شيء، فكيف(33) به في الغير؟ فذلك مِن باب أحرى، فالشأن أنْ يكون المرء شأنه سترُ عيوبه في الدنيا والآخرة، ومِن الحمق أنْ يسترها في الدنيا ويفضح نفسه في الآخرة(34)، وقد قال صلعم : «طوبى لمن شَغلَه عيبُهُ عن عُيوب النَّاس»، فإنَّ شُغلَه بعيبه هو اهتمامُه بزواله وتغطيتِه في الدنيا والآخرة، وطوبى: شجرة في الجنَّة مِن أحسن شجرها.
          وفيه دليل: لأهل السلوك الذين يقولون: (إنَّما الصَّدِيق الذي يهدي إليك عيوبك)، أي ينبِّهك عليها فتصلحها(35)، ومثل ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب ☺ أنه كان يكتب لعمَّاله: رحم الله مَن أهدى إلينا عيوبنا، فكتب له بعض عماله: إنَّه بلغني أنَّك لبست ثوبين وأكلتَ بإدامين، فقال له: أمَّا ما كان مِن الثوبين فلِبَردٍ أصابني، وأمَّا الإدامان(36) فكانا خلًا وزيتًا ولا أعود وجزاك الله خيرًا.
          فذوو الهمم السَّنِيَّة والفحولية(37) العَلِيَّة نسجوا(38) على منوالهم واستنوا بسنَّتهم(39)، وأخو التحنيث(40) ما عنده(41) مِن حال القوم وازع(42)، ولا بِرَبْعِه(43) مِن حَسيس. ومِن قائل: كن معنا بتهذيب نفسك ورُضْها على طريق القوم، وعليه فحاسبها(44).


[1] قوله: ((الحديث)) ليس في (ج) و (م).
[2] قوله: ((هل)) ليس في (م).
[3] في (ج) و (م): ((تعلم أم لا ومن فعل ما كرهه صلى)).
[4] في المطبوع: ((يتعين)).
[5] في (ج): ((عن)).
[6] في (ج): ((بينهما)).
[7] في (ج): ((حتى تمتشط الشعثة وتمتحك المغيبة)) وفي (م): ((حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)).
[8] في (ج): ((كلما)).
[9] في (م): ((وتواد)).
[10] قوله: ((إليه)) ليس في (ج).
[11] في (م): ((لم تفعل منه شيئا)).
[12] في (ج): ((ويقع)).
[13] في (ج) و (م): ((فأرشد)).
[14] في (ج): ((بالتطيب)).
[15] في (م): ((وليحسنن)).
[16] في (ج): ((بتغير)).
[17] في (ج): ((هل من فعل على)).
[18] في (ج): ((وقد خلفه فيهم)) وفي (م): ((قد خلفه فيهم)).
[19] في (م): ((الحكم بهذه)).
[20] في (ج) و (م): ((حيث)).
[21] في (ج) و (م): ((سبب)).
[22] في (ط) و(م): ((مخالفًا)).
[23] قوله: ((الرجل)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] قوله: ((ما)) ليس في (م).
[25] في (ج): ((تنبئ أهله وأنه)).
[26] في (م): ((يكون)).
[27] في (ج): ((ما)).
[28] في (م): ((أنه)).
[29] قوله: ((يا رسول الله)) ليس في (ج) و (م).
[30] في (ج) و (م): ((قال)).
[31] في (ج): ((ما منها)).
[32] قوله: ((جميع)) ليس في (ج).
[33] زاد في (ج): ((جاز)).
[34] قوله: ((ومن الحمق أنْ يسترها في الدنيا ويفضح نفسه في الآخرة)) ليس في (ج) وفي (م): ((الأخرى)).
[35] في (ج) و (م): ((فيصلحها)).
[36] في (ط): ((الإدامين)).
[37] في (ج): ((والفحولة))، وبعدها في (م): ((العلية يستحبوا)).
[38] في (م): ((يستحبوا)).
[39] في (ج): ((سنتهم)).
[40] كذا في (ط)، وهي مهملة في غيرها، وفي (المطبوع): ((التحثيث)) وشرحها بأنه الإسراع إلى النوم والاستغراق فيه.
[41] في (ج): ((عند)).
[42] صورتها في (م): ((وازاع)).
[43] في (ج): ((بريعة)).
[44] قوله: ((ومن قائل: كن معنا بتهذيب نفسك ورضها على طريق القوم، وعليه فحاسبها)) ليس في (ج) و (م).