بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أما ما ذكرت من أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها...

          214- قوله: (قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ(1) أَهْلِ الكِتَابِ...) الحديث. [خ¦5478]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ(2) يَدُلُّ على ثلاثة أحكام:
          أحدها: جواز الأكل في آنية أهل الكتاب بعد الغَسل إذا لم يُوْجَد غيرها.
          والثاني: جواز أكل ما صِدتَه بِقَوسِكَ أو بِكلبِكَ الْمُعَلَّم إذا ذكرتَ اسم الله تعالى أدركتَ ذكاتَهُ أو لم تدركها.
          والثالث: ما صِدتَ بكلبك غير المعلَّم فلا تأكل منه إلا ما أدركت ذكاتَه. والكلام(3) عليه مِن وجوه:
          منها: أن الآنية النجسة لا تَطْهُرُ إلا بالماء(4)، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أنَّه صلعم لم يُبِحْ له الأكل في آنية أهل الكتاب إلا(5) بعد الغسل، إلا عند الضرورة وهو عَدم غيرها، وأهل الضرورات لهم حكم خاص بهم.
          وقد اختلف العلماء في الآنية المتنجِّسة(6) ما عدا الزُّجَاج، فإنَّه لا يداخله ممَّا جعل فيه(7) شيء / فالغسل يطهِّره بإجماع(8)، وما عداه مِن الأواني التي قد يختلط ما جعل فيها ببعض أجزائها مثل آنية الخشب والحنتَم وما أشبههما على ثلاثة أقوال: قولٌ بأنَّها لا تطهر، وبأنَّها تطهر(9)، وبالتفرقة بأن يطول مكث الإناء في الماء الزمان الطويل(10) فتطهر، وإن كان قليلًا لا تطهر.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ الحكم في الأمور هو(11) للغالب(12) عليها، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن أَنَّه لَمَّا كان الغالب مِن أحوال أهل الكتاب أنَّ النجاسة تحلُّ في أوانيهم أُعطوا حكم النجاسة التي لا يمكن القدرة على زوالها، ومُنعوا مِن استعمالها(13)، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ◙ : (فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلاَ تَأْكُلُوا فِيهَا) ويلحق بهذا في الحكم أهلُ البَطالَة وتُحْمَل ثيابهم على النجاسة، لأَنَّهَا(14) الغالبة عليهم في كثرة أحوالهم، وقد عدَّ الفقهاء هذه العِلَّة في ثياب شارب(15) الخمر أنَّه لا يصلِّي بها حتى تُغسَل.
          ومنها: وجوب التسمية على الصيد يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن تكرارها في كل نوع مِن أنواع الاصطياد وإفصاحه ◙ في جميع الأنواع بقوله: (وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ).
          ومنها قوله: (بِقَوْسِي) وأباح له ◙ أكل ما صاد به إذا ذكر اسم الله عليه، أدرك ذَكاتَه(16) أو لم يدرك(17).
          وهل هذا خاصٌّ بالقوس دون غيره مِن السلاح؟ أو يُحمَل جميعُ السلاح عليه؟
          فإن قلنا:(18) يتعدَّى الحكم بوجود العِلَّة فجميع السلاح المُحَدَّدة التي / تفري وتَنهَر الدم يجوز ذلك بها، مثل الرمح والسيف والسكين وما أشبه ذلك، وقد نصَّ على جواز ذلك أهل الفقه في كتبهم على ما هو هناك مذكور.
          وكذلك(19) نقول في قوله ◙ : (وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ) يتعدَّى الحكم إلى غير الكلب(20) المعلَّم مِن جميع الحيوانات التي تفترس، أنَّه إذا كانت غيرَ مُعَلَّمة وصِيد بها الحكمُ فيها كالحكم في الذي صِيْدَ بالكلب(21) غير المعلَّم، وكذلك(22) ما صِيد بالآلة التي ليست بمُحَدَّدة مثل الحجر والعصا وما أشبه ذلك إذا صيد بها ما يُدرَك ذكاتُه مِن ذلك أُكِل، وإلا(23) لم يُؤكَل منه شيء.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ الحكم إذا أُنِيط بعِلَّة فعُدِمت(24) ارتفع الحكم.
          يُؤْخَذُ ذَلِك مِن قوله ◙ في الكلب غيرِ المعلَّم أنه لا يُؤكل ما صِيد به إلا إن أُدرك ذكاتُه، فدلَّ على أنَّ التعليم في الجارح يُبيح كلَّما صيد به وإن لم تُدرَك ذكاته.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ مِن حُسن جوابك للسائل(25) أن تعيدَ صيغة لفظه فيما سألك عنه وتجاوبه على كلِّ نوع على حِدة(26). يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن تكرار سيِّدنا صلعم بلفظ ما سأله السائل عنه وجوابِهِ(27) على كلِّ نوع منها على حِدَته بقوله ◙ : (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ آنِيَةِ(28) أَهْلِ الكِتَابِ) إلى آخر الحديث.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ ما لم يُتَحَقق / نجاسته يكره استعماله مِن غير ضرورة، ويجوز استعماله عند الضرورة(29) بلا كراهية، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن كون سيِّدنا صلعم منع الأكل في آنية أهل الكتاب مع وجود غيرها.
          لأنَّ تلك الآنية التي أُكِل فيها(30) ليست النجاسة متحقَّقة فيها بل هي مظنونة، فمنع ◙ استعمالها مع وجود غيرها، وأباحه عند الضرورة وهو عدم غيرها.
          وفي هذا الوجه دليل لأهل الصوفة، لأنَّهم يظنُّون في نفوسهم(31) كلَّ مكرٍ وخديعة، فلا يستعملون ما تشير به عليهم شيئًا إلا إن كان(32) موافقًا للكتاب والسُّنَّة بعد ما يلجؤون(33) في ذلك إلى مولاهم، خوفًا أن يكون تحت ذلك مكر مِن وجهٍ ما، كما(34) ذُكِر عن بعضهم أنَّ نفسَه(35) رغَّبته في الجهاد ووكَّدت ذلك عليه فقال لها: هذا عندي محال أن يكون هذا منك على وجهه، لأنَّ الجهاد مِن أكبر(36) القُرَب، ما أفعل ذلك حتى أسال الله تعالى في أمرك، فسأل مولاه سبحانه أن يُطلِعَه على ما أبطنته، فقيل له(37) في النوم: إنَّها قد سَئِمت مِن(38) القيام والصيام فأرادت أن تموت في الجهاد لكي تستريح مِن التعب، ويبقى لها(39) حسن الثناء بعد الموت، فقال لها: ما لي جهادٌ إلا فيكِ، ولا أزال أقتلكِ بالقيام والصيام حتى تموتي، لأنَّهم سمعوا وصدقوا(40) فيها قول مولاهم حيث قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].
          فمِن رحمته ╡ بهم أن ألهمهم(41) مخالفتَها وتهمتَهم / لها إلا حيث جاء الأمر بالنظر إليها في وجه ما، فنظرهم لها في ذلك الوجه ليس لها، وإنَّما هو مِن أجلِ(42) الأمر بذلك، فَمِنْ أَتَمِّ الشجاعة والرجولية مقاتلة العدو، ومِن أدب الجهاد قتال مَن يليك مِن الأعداء، وأقربُهم(43) إليك نفسك وهواك، ففيهما(44) فجاهد إن كنت ذا بأسٍ وشطارة، و إلا فوصف الخنوثة(45) بك أَوْلى.


[1] قوله: ((من)) ليس في (م). وفي (ج): ((قوم كتابٍ)).
[2] في (ج): ((الحديث ظاهر)).
[3] في (ج): ((الكلام)).
[4] العبارة في (م) و (ج): ((من وجوه منها التنزه عن استعمال أواني أهل الكتاب مع وجوده غيرها، الثاني أنه إذا لم يجد غيرها جاز استعمالها بعد غسلها بالماء)).
[5] قوله: ((إلا)) ليس في (م) و (ج).
[6] في (ج): ((النجسة)).
[7] في (ج): بين كلمة جعل و فيه حرف (أ) لم أفهم المقصود منه.
[8] قوله: ((بإجماع)) ليس في (م) و (ج).
[9] في (ج): ((بأنها تطهر وبأنها لا تطهر)).
[10] في الأصل(ط): ((الطول)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[11] قوله: ((هو)) ليس في (م) و (ج).
[12] في (ج): ((الغالب)).
[13] قوله: ((التي لا يمكن القدرة على زوالها ومنعوا من)) ليس في (م) و (ج).
[14] في (ج): ((أنَّها)).
[15] في (م): ((شاربي)).
[16] قوله: ((ذكاته)) ليس في (ج).
[17] في الأصل(ط): ((يدركوها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] في (م): ((فإذا قلت)) وفي (ج): ((فإذا قلنا)).
[19] في (ج): ((ولذلك)).
[20] قوله: ((الكلب)) ليس في (ج).
[21] العبارة في (ج): ((الحكم فيها فالحكم فالذي صيده لكلب)).
[22] في (ج): ((ولذلك)).
[23] في (م) و (ج): ((وإلا)). كالأصل.
[24] في (ج): ((الحكم نيط بعلة فقدِّمَتْ)).
[25] قوله: ((للسائل)) ليس في (م).
[26] في (ج): ((حدته)).
[27] في(ج) و (م): ((وجاوبه))، وبعدها في (م): ((على ذلك في كل)).
[28] زاد في (م) و (ج): ((آنية)). وهي في الاصل.
[29] العبارة في (م) و (ج): ((ويجوز استعماله عند الضرورة)). كذا في الاصل.
[30] قوله: ((أكل فيها)) ليس في النسخ، والمثبت هو الصواب والله أعلم، وهو موافق للمطبوع.
[31] في (م) و (ج): ((أنفسهم)).
[32] قوله: ((كان)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[33] في الأصل(ط): ((يلجؤوا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] قوله: ((كما)) ليس في (م).
[35] في (ج): ((بعضهم عن نفسه)).
[36] في (م): ((أقرب)).
[37] قوله: ((فقيل له)) ليس في (ج).
[38] في (ج): ((نية)).
[39] في (م) و(ج): ((لك)).
[40] قوله: ((وصدقوا)) ليس في (م).
[41] زاد في (م) و(ج): ((إلى)).
[42] في (ج): ((لأجل)).
[43] في (ج): ((ومن أقربهم)).
[44] في (ج): ((ففيها)).
[45] في النسخ: ((الخنوثية)) ولعل المثبت هو الصواب، وهو مطابق للمطبوع.