بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين

          157- قوله: (عَنِ النَّبِيِّ صلعم : أَنَّهُ كَانَ إِذَا(1) لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ...) الحديث. [خ¦3159]
          ظاهر الحديث(2) يَدُلُّ عَلَى أنَّ السُّنَّةَ في القتال غُدْوَة النهار أو عَشِيَّة، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأَوَّل: إن هذا القتال غُدوة أو عشيَّة لعلَّة أم لا؟ فإن قلنا: إنَّه لغير عِلَّة، فلا بحث ويبقى(3) تعبُّدًا، وإن قلنا: إنَّه لعِلَّة فما هي العِلَّة؟ الظاهر أنَّه لعِلَّة، والعلَّة فيه على ضربين: محسوسة ومعنوية، والمحسوسة على ضربَين(4) عامة / وخاصة(5).
          فالعامة هي ما يكون في هذين الوقتين، أعني أوَّل النهار وعشيته(6) مِن هبوب(7) الأرواح وقوى الأبدان مِن عاقل وغير عاقل، ونشاطها إذ ذاك لِمَا في الوقتين مِن برودة(8) الهواء وجَمام النفوس مِن الراحة المتقدِّمة، فمتقدم راحة الغدو استراحة اللَّيل(9)، لأنَّه جعل سَكنًا، ومتقدم راحة العشي(10) استراحة القائلة، لأنَّ استراحة القائلة(11) مِن السنَّة، لقَوْله ╕: «قِيْلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيْلُ» هذه هي العامَّة.
          وأمَّا الخاصة التي هي للعاقل دون غيره فما يحصل له مِن قوة اليقين(12) ونشاط النفس، بما لها في هذا الفعل مِن الأجر العظيم لنكاية العدو، ولأنَّ(13) قوى الأبدان العاقلة وغير العاقلة(14) مِن أعظم مواد(15) النكاية للعدو.
          وأمَّا المعنوية فما في الوقتين مِن الزِّيادة في الإيمان وقوة المدد(16) المعنوي، وهو في النصر أقوى(17) مِن الحسِّي، فأمَّا قوة الإيمان، فإنَّ هذين الوقتين(18) إثر تعبُّد وطاعة لله تعالى، والإيمان(19) يقوى عند التعبُّد والطاعات كما يضعف عند المخالفات، وأعظم موجبات النصر هو الإيمان، لأنَّ الله تعالى يقول في كتابه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] فقوة الإيمان أعظم في(20) مواد النصر مِن المحسوسات للوعد بالجميل(21).
          وقد رُوِيَ أن عمر ☺ بعث سريَّة مِن السرايا ثمَّ جاء(22) البشير بالنصر والفتح، فقال: أيَّ وقت كانت المقاتلة(23)؟ فقالوا: غَدوة، فقال: ومتى كان النصر؟ فقالوا: عشيَّة(24) فبكى ☺ حتَّى بلَّت دموعه لحيته، / فقالوا: كيف تبكي والنصر لنا؟ فقال: والله ما الكفر يقف أمام الإيمان مِن غَدوة إلى عَشيَّة إلا مِن أمرٍ أَحْدثتموه أنتم أو أنا، فلم ينظر إلى النصر إلا بقوة الإيمان.
          وأمَّا قوة المدد المعنوي أيضًا، فهو مِن(25) وجهين: وقد نصَّ ╕ عليهما في غير هذا الحديث فأحدهما(26): الريح، لأنَّه ╕ قال: «نُصِرْتُ بالصَّبَا» حتَّى لقد ذهب بعض العلماء أنَّه لم يكن قَطُّ نصرٌ بغير ريح، والصَّبَا ريح ليِّنة شرقية، وقد قيل: إنَّها مِن الجنَّة، وما كان مِن الجنَّة فهو للمؤمنين عَون، وعلى الكافرين وبال.
          أمَّا الوجه الآخر: فهو الدُّعاء مِن المؤمنين، لأنَّه قد جاءت زيادة في رواية غير الحديث(27) الذي نحن بسبيله: «ويَدْعُو لَكُمْ إِخْوَانُكُم المؤمنونَ» وقال ╕ في حديث ذكر فيه فضيلة الدُّعَاء: «الدُّعاءُ(28)جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ» فيجب أن يغتنم هذا الوقت الذي يكون فيه هذا المدد العظيم.
          ويترتَّب على هذا مِن الفقه أن يدعو المرء بعد صلواته(29) وفي الأوقات التي يرجو(30) فيها القبول لإخوانه(31) المؤمنين شرقًا وغربًا ليكثر لهم المدد الذي يُرجى به النصر.
          وقد روي أنَّ عبد الملك بن مروان خرج في بعض غزواته فسأل عن بعض صالحي الوقت فَطُلِب فوجده(32) في مسجد متوجِّهًا يصلِّي، فقال: اُخرجوا على بركة الله، سبَّابته(33) في القبلة عندي خير مِن كذا وكذا فارس، فلما بلغوا(34) الحصن الذي أمَّلوا انهدَّت شقة مِن سُورِه ففرح الجيش، فقال: ليس ذلك منكم، وإنَّمَا هو ببركة تلك / السبَّابة التي في القِبلة.
          الوجه الثَّاني مِن البحث المتقدِّم: فيه دليل على أنَّ الحكم بالغالب(35) في ارتباط العادات، لأنَّه قال: (انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ، وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ) وهذه الريح قد تكون في ذلك الوقت وقد لا تكون، لكن(36) لَمَّا أنْ كان الغالب عليها أنَّها تأتي في ذلك الوقت وهو بعد الزوال حُكِم لها به وانتُظرتْ إليه.
          الثَّالث: أنَّ النادر لا يعمل عليه، لأنَّه قد يوجد الريح في بعض الأيام في غير هذا الوقت فلم يُنَط به الحكم لندارته.
          الرَّابع: قوله: (انْتَظَرَ) يَرِد عليه سؤالان: (الأَوَّل) أن يقال: لِمَ أتى(37) بهذا اللفظ وعدل عن غيره مِن الألفاظ؟
          (الثَّاني): أن يقال: لِمَ قال: (انتظر)، ولم يقل: (انتظرنا)، ومعلوم(38) أنَّ الانتظار كان مِن الجيش كلِّه؟
          والجواب عن الأَوَّل: أن قوله: (انْتَظَرَ) فيه إشعار بأنَّهم أخذوا أُهبة القتال واستعدُّوا ولم يغفلوا، وهذا مثل قَوْله ╕: «لَا يَزَالُ العَبْدُ في صَلَاةٍ(39) مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ» ومعلوم أنَّ المراد مَن كان متطهرًا في المسجد ينتظر الصلاة، وأمَّا مَن كان ينتظر الصلاة في بيته فلا يطلق عليه باعتبار ما أراده الشَّارع ╕ أنَّه ينتظر الصلاة(40) وكذلك هنا سواء، أتى بِقَوْلِهِ: (انتظر) ليبيِّن ما قررناه(41).
          والجواب عن الثَّاني: أنَّ المقصودَ مِن الجماعة: رئيسُهم(42) والمعوَّل عليه فيهم(43) فإذا انتظر الرئيس(44) انتظرَ(45) الكلُّ، فأتى بهذه الصيغة تعظيمًا للنَّبي صلعم وتأدُّبًا معه كما هو الواجب.
          الوجه الثالث من البحث المتقدِّم: هل يتعدَّى الحديث للقتال المعنوي أم لا؟
          الظاهر تعدِّيه إذ إنَّ حكم المعاني عنه ╕ يُؤخذ كما يُؤخذ / عنه حُكم الظاهر، وقد تقدَّم مِن هذا ما فيه كفاية للحُجَّة بالتعدِّي في غير ما حديث، وتعديه يحتمل وجوهًا، ويجمعها وجه واحد وهو: أنَّ أوَّل النهار في المحسوس هو أوَّل(46) بدء ظهور خلقه، فكذلك الوقائع الحسية والمعنوية أعني مِن التصرُّف والخواطر غير المستقيمة يُبَادَر عند ظهورها إلى قتالها، ومقاتلتها(47) هي إزالتها لقَوْله ╕ في المارِّ بين يدي المصلي: «فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» ومعناه: فَلْيَدْفَعْه ولْيُزِيله(48)، لأنَّ أوَّل الوقت في وقوع المخالفة أو الغفلة يكون(49) الإيمان فيها أقوى مِن وقت التمكن فيها(50).
          وأمَّا نسبة العشيِّ في المعنوي فهو الذِّكْر بعد الغفلة، لأنَّ بالذِّكْر يُستحيا(51) الإيمان وقد قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] والفرق بين القتالين أنَّ الأَوَّل يكون بالدفع كما ذكرنا، والثاني بالتوبة والإقلاع، والتوبة هنا هي حقيقة النصر، والذِّكْر بعد الغفلة هي الريحُ المبشِّرة بالنصر(52) المذكور.
          وأمَّا الصلاة في المعنوي فهي(53) ما تقدَّم مِن مقتضى(54) رحمة المولى لإثارة(55) ريح التذكار بعد الغفلة الموجبة(56) للتوبة وهي حقيقة النصر، لأنَّ الصلاة مِن العباد دعاءٌ، والصلاة مِن الله تعالى رحمة فمن سبقت له الرحمة خُتِمَ له بالنصر.
          وأمَّا الانتظار في المعنوي فهو استصحاب دوام انكسار القلب، إمَّا لوقوع غفلة أو لوقوع مخالفة، / لأنَّ النَّبيَّ صلعم قال إخبارًا عن ربِّه ╡ يقول: «اطْلُبُونِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهم مِنْ أَجْلِي» لأنَّ انكسار القلب مِن أجل الربِّ مِن أجلِّ الطاعات، لأنَّه لا يدخله رياء، وهو أرجى الوسائل(57) بمقتضى الوعد الجميل، لأنَّ معنى قوله تعالى: (اطْلُبُونِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهم) أي: هو معهم، فإذا كان معهم فهو يلطف بهم ويوقظهم مِن الغفلة ويحرِّك لهم أسباب التوبة، ويمنُّ عليهم بالنصر والغنيمة، جعلنا الله مِمَّن لَطَف به(58) وأدخله في حفظ عنايته.


[1] في (ج): ((عن النعمان بن مقرن شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم كَانَ إِذَا...)).
[2] في (م): ((القساوة في القلب كان أكله مكرها ثم هذه النسبة جميع الأشياء الكراهة فيها والتحريم بحسب ما كان فيها من الضرر ومن رزق النظر بالنور يحسبه محسوسا ومعنويا على ما ذكره العلماء والفضلاء والله الموفق عن النعمان بن مقرن شهدت القتال مع رسول الله صلعم كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات ظاهر الحديث)).
[3] في (م): ((وبقي)).
[4] قوله: ((محسوسة ومعنوية، والمحسوسة على ضربَين)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[5] في (م): ((خاصة وعامة)) بتقديم وتأخير.
[6] في (م): ((وعشيه)).
[7] في (ط): ((إيهاب)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (م): ((من برود)).
[9] في (م): ((فتتقدم راحة الغدو واستراحة الليل)).
[10] صورتها في (م): ((العشا)).
[11] قوله: ((لأن استراحة القائلة)) ليس في (م).
[12] صورتها في (م): ((النفس)).
[13] في (م): ((العدو لأن)).
[14] قوله: ((وغير العاقلة)) ليس في (ج).
[15] في (م): ((مراد)).
[16] في (م): ((المراد)).
[17] في (ط): ((قوى)). بل هي كالمثبت.
[18] في (ط): ((القوتين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[19] في (م): ((الوقتين أمر تعبد لله والإيمان)).
[20] في (م): ((من)).
[21] في (ط) و (م): ((الجميل)) والمثبت م (ج).
[22] في (م): ((جاءه)).
[23] في (ط): ((المقابلة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] في (م): ((أي وقت كانت المقاتلة قال غدوة قال ومتى كان النصر قال عشية)).
[25] في (م): ((أيضا فمن)).
[26] في (م): ((وأحدهما)).
[27] في (م): ((الدعاء للمؤمنين فإنه قد جاءت زيادة في رواية غير هذا الحديث)).
[28] قوله: ((الدعاء)) ليس في (ط) و(ج).
[29] في (م): ((صلاته)).
[30] في (م): ((يرجى)).
[31] في (م): ((لإخوانهم)).
[32] في (م): ((فوجد)).
[33] في (م): ((سبابة)).
[34] زاد في (م): ((إلى)).
[35] في (م): ((في الغالب)).
[36] قوله: ((لكن)) ليس في (م).
[37] قوله: ((أتى)) ليس في (م).
[38] في (م): ((الثاني لم انتظر ولم يقل انتظروا ومعلوم)).
[39] في (م): ((صلاته)).
[40] قوله: ((ومعلوم أن المراد من كان متطهراً... الشَّارع ╕ أنَّه ينتظر الصلاة)) ليس في (م).
[41] في (م): ((وكذلك سؤالنا بقوله انتظر ليتبين ما قررناه)).
[42] في (م): ((رأسهم)).
[43] قوله: ((والمعوَّل عليه فيهم)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[44] في (ج) و (م): ((الرأس)).
[45] في (ط) و(ج): ((انتظروا)).
[46] في (م): ((المحسوس وأول)).
[47] في (م): ((ومقابلتها)).
[48] في (ج): ((ويزيله)).
[49] قوله: ((يكون)) ليس في (ط) و (م) والمثبت من (ج).
[50] في (م): ((التمكين فيهما)).
[51] في (م): ((يحيى)).
[52] في (م): ((المنتشرة وبالنصر)).
[53] في (م): ((فهو)).
[54] قوله: ((مقتضى)) ليس في (م).
[55] في (ط): ((لإيثار)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[56] في (ط): ((الموجب)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[57] في (م): ((وهو من أجل الوسائل)).
[58] قوله: ((به)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.