بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت ؟

          290- قوله صلعم : (يُجَاءُ بِنُوحٍ ◙ يَوْمَ القِيَامَةِ...)(1). [خ¦7349]
          ظاهرُ الحديث الإخبار بفضْلِ هذا النَّبي صلعم وفضل / هذه الأمَّة، وأنَّهم الشهود على مَن تقدَّمهم مِن الأمم. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: كيف يشهد متأخِّرٌ(2) على متقدِّم؟ وما الحكمة في ذكر نوح ◙ مِن بين سائر الأنبياء ‰ أجمعين؟ وهل(3) الأمَّة كلُّها بَرُّها وفاجِرُها يشهدون، أو لا يشهد(4) إلَّا مَن هو لذلك أهْلٌ؟
          أمَّا قولنا: كيف يشهد متأخِّر على متقدِّم؟ فقد جاء في حديث غير هذا أنَّ هذه حُجَّة قوم نوح صلعم يقولون: يا ربَّنا وكيف يشهدون علينا، وهم آخر الأمم؟ فيقول الله ╡ لهم: «كيف تَشْهَدُون عليهم وأَنْتُم آخِرُ الأمم؟ فيقولون: رَبَّنا إنَّا(5) وَجَدْنا فيما أَنْزَلْتَه في كتابِكَ علينا أنَّ نوحاً ◙ بَلَّغ أمَّته»(6).
          وفيه دليلٌ على تَساوي الأحكام فيما بين النَّاس على حدٍّ وَاحد، القويِّ والضعيفِ، والرفيع والوضيع. يُؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (يُجَاءُ بِنُوحٍ ◙ ) أي: إنَّه يُساق للحكم، وهو حيث هو / مِن مكانة الرسالة، ثم إنَّه يُطلب منه الشهود، ولا يُخلَّى عنه إلَّا بعدَ قبولِ شهادتهم، وقد جاء: أوَّل مَن(7) يُساق للحساب إسرافيلُ ◙ الذي العَرْشُ على كاهلِهِ، والعَرَق(8) يتحدَّر على جبينه، فيقول الله جلَّ جلاله: «ما صنعتَ في عَهْدي؟ فيقولُ: يا ربِّ بلَّغْتُهُ جبريلَ. فيُؤتى بجبريلَ فيقولَ له الحقُّ جلَّ جلاله: هل بلَّغَكَ إسرافيل عهدي؟ فيقول: نَعَم يا ربِّ. فيُخلَّى عن إسرافيل. ويُسألُ جبريلُ فيقولُ ╡ له: ما صنعتَ في عَهْدي؟ فيقول: يا ربِّ بلَّغْتُهُ الرُّسل. فيُؤتى بالرُّسل فيُقالُ لهم(9) صَلواتُ الله على جميعِهِم: هل بلَّغَكُم جِبريلُ عَهْدِي؟ فيقولون: نَعَم. فحينئذٍ يُخلَّى عن جبريلَ».
          فأوَّل من يُسأل مِن الرُّسل نوح ◙ ، فيكون مِن قصَّتهِ ما هو نصُّ الحديث، فلا يخلَّى عنه إلَّا بعد قبول شهادة هذه الأمَّة، ثمَّ الذين(10) بعدَه كذلك واحداً بعد واحد.
          ويعارضنا هنا قوله ◙ : «أوَّلُ مَن يُحَاسبُ مِن الأمم أَنْتُم، وأوَّلُ مَن يجوزُ من الأممِ الصَّراطَ أمَّتي(11)» أو كما قال ◙ .
          فالجواب: أنَّه ليس(12) تعارض، لأنَّ حسابَ الأمم عَلى نوعين، وبذلك يجتمع الحديثان، ولا يبقى بينهما تعارض. وهو أنَّ (النَّوع الأوَّل) أن تُسأَل الأمم هَل بلَّغهم(13) الرُّسل عَن الله أم لا؟ فهذا الَّذي يتقدَّم(14) جميع الأمم فيه على هذه الأمَّة، لأنَّهم هم الشهود عليهم، ولا(15) بدَّ مِن حضورهم إلى آخر الأمم.
          و(النَّوع الآخر): هو سؤال الأمم كلَّ شخص(16) منهم مفرداً(17) / عن عمله، بمقتضى شريعته. فهذا الذي تكون هذه الأمَّة أوَّلَ مَن تُحاسب عليه، وسيِّدنا صلعم شاهد عليهم.
          وأمَّا قولنا: ما الحكمة في أنْ ذَكَرَ نوحاً ◙ دون غيره مِن الرُّسل صلوات الله وسلامه عليهم؟ فيحتمل أن يكون إنَّما ذكر نوحاً ◙ لأنَّه أوَّل الرسل، فإذا كانت هذه الأمَّة(18) تشهدُ على الأوَّل مِن الأنبياء فمِن باب أولى(19) غيره، واستغنى عن ذكر الغير صلوات الله عليه وعليهم أجمعين بذكر آيةٍ أخرى، أو هي(20) عامَّة. فهذا مِن الاختصار والبلاغة.
          وأمَّا قولنا: هل الأمَّة تشهد كلُّها برُّها وفاجرُها، أم(21) لا يشهد إلَّا مَن هو أهل لذلك؟ ولفظ(22) الحديث محتمل، لأنَّ العرب قد تسمِّي البعضَ باسم الكلِّ، لكن التَّخصيص يظهر(23) فيه مِن وجهين:
          أحدهما: مِن الحديث الذي أوردناه، شاهداً في قولهم «وَجَدْنا في الكِتَابِ الذي أَنْزَلْتَ». فهذا لا يكون جواباً إلا ممَّن(24) يكون له علم بالكتاب، وكثير مِن هذه الأمَّة لا يعلمون مِن الكتاب شيئاً، ومِن طريق النظر مَن يكون مِن هذه الأمَّة(25) إذ ذاك في نوع مِن أنواع العذاب المتقدِّم ذكره في(26) الأحاديث، كيف يستشهد بهم، وكيف تُقبل لهم شهادة؟.
          وبمتضمن(27) الآية أيضاً بقوله: {وَسَطاً} أي خياراً، فلا يشهد منها إلَّا خيارها(28)، وكما لا يُقْبَل هنا إلَّا العُدولُ الخيار كذلك هناك لقوله / تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]. فلما كان هنا(29) لا يُؤخذ إلَّا المرضيُّ الحال فلا يُؤخذ هناك ضدُّه. هذا(30) لا تقضيه الحكمة.
          وفيه(31) إشارة لطيفة وهي أنَّ إعلامَك بهذه المرتبة الرفيعة عنايةٌ بك لتحافظ عليها، لعلَّك تكونُ ممَّن يشهد إذ ذاك، لأنَّه يُرْجى مِن فضل الكريم أنَّ مَن قُبلت شهادته أنه(32) يسامحه ويتفضَّل عليه بالخلاص مِن ذلك الهول العظيم.
          وفيه تنبيه إلى أنَّ الشُّهود _وإن اختلفت مراتبُهم في الرِّفعة_ إذا لم يخرجوا مِن دائرة العدالة قُبلوا كلُّهم. يُؤخذ ذلك مِن قول نوح ◙ حين سُئل عن شهوده قال: (مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ)، فجعله صلعم مِن جملة الشهود، وبه صحَّت العدالة(33) لِمُتَّبِعيه.
          وفيه دليل على أنَّ المخالف للسُّنَّة لا يكون ممَّن يشهد معه، ولا يشهد معه إلَّا مَن اتَّبعه بالإحسان(34)، لأنَّ أولئك هم العُدول(35). يقوِّي ذلك قوله ◙ : «كلُّها في النَّار إلَّا واحدةً: ما أنا عليهِ وأَصْحَابي» فمَن يكون في النَّار أنَّى له بالوسط مِن الأمَّة والتعديل؟ هذا في تجريحه(36) أتمُّ دليل.
          تنبيه: يا أخا البطالة والتلويث انتبه، الحاكم قد زكَّاك، وأنت بما ارتكبته مِن قبيح(37) الأوصاف تجرح(38) نفسك، وبذلك تفرح، فقد خضتَ بحر المهالك، وعلى عَقِبك مِن / الخير نَكَصْتَ.
          وفيه دليل على أنَّ أقوى الأدلة في الأحكام كتابُ الله تعالى، يُؤخذ ذلك مِن تركِ سيِّدنا صلعم تمام الكلام الذي أبداه، وأتى بالآي(39) مِن الكتاب العزيز، ومما(40) يقوِّي ذلك قول معاذ له صلعم، حين وجَّهه إلى اليمن، قال له ◙ : «بماذا تَحْكُمُ؟ قال: بكتابِ الله تعالى. قال: فإنْ لم تَجِد؟ قال: بسنَّة رسول الله صلعم، قال: فإنْ لم تَجِد. قال: أجتهدُ رأيي. فقال صلعم : الحمدُ لله الذي وفَّق رسولَ رَسُولِهِ إلى ما يحبُّ اللهُ ورَسُولُهُ» أو كما ورد. وفَّقنا الله في(41) جميع الأمور إلى ذلك بمنِّه(42) وأسعدنا به


[1] في (ب): ((عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقالُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فقال رسول الله صلعم : فَيُجَاءُ بِكُمْ، فَتَشْهَدُونَ. ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}_ قال: عدلا_ إلى قوله {...شَهِيدًا} [البقرة: 143])).
[2] قوله: ((متأخر)) ليس في (ت).
[3] في (ت): ((هل)).
[4] في (ج): ((يشهدون))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[5] قوله: ((إنا)) ليس في (ب).
[6] زاد في المطبوع: ((وفيه دليل على أنَّ حُكم الله تعالى بيننا في الآخرة على ما هي أحكام الشرع هنا، يؤخذ ذلك مِن طلبه ╡ الشهود مِن نوح ◙، وهو العالِم بصدقه، ومِن استفسار الشهود كما ذكرنا.
وفيه دليل لمذهب مالك ⌂، في أنَّ القاضي لا يحكم بعِلْمِه، فإذا كان العالِم الذي لا يَخفَى عليه شيء لا يحكم بعلمه فيما بيننا ذلك اليوم، فكيف بالغير؟)).
[7] في (ب): ((ما)).
[8] في النسخ: ((والوحي))، ولعل المثبت هو الصواب والله أعلم.
[9] في (ب): ((للرسل)).
[10] في (ب): ((الذي)). وفي (ت): ((إلا من بعد قبول شهادة هذه الأمة ثم الذي)).
[11] في (ب): ((يجوز الصراط من الأمم أنتم)).
[12] زاد في (ت) و(ب): ((بينهما)).
[13] في (ت) و(ب): ((بلغت)).
[14] في (ب): ((فبهذا الي تقدم)).
[15] في (ت) و(ب): ((فلا)).
[16] في (ج): ((شخص)) تكرر. كذا في (ت) تكرر.
[17] في (ت) و(ب): ((منفرداً)).
[18] قوله: ((الأمة)) ليس في (ج)، والمثبت من (ب) و(ت).
[19] في (ت) و(ب): ((أحرى)).
[20] في (ت) و(ب): ((بذكر الآية آخراً وهي)).
[21] في (ب): ((أو)).
[22] في (ت) و(ب): ((لفظ))، وبعدها في (ب): ((الحديث يحتمل، لأن العرب تسمي)).
[23] في (ب): ((ظهر)).
[24] في (ج) و(ب): ((من))، والمثبت من (ت).
[25] في (ج): ((النظر من يكون في هذه)) ليس في (ج).
[26] في (ب): ((من الأنواع العذاب المتقدم في)).
[27] في (ب): ((ولتضمن)).
[28] زاد في المطبوع: ((أو كما أشرنا إليه أوَّلاً، لأن الحكم هناك كالحكم هنا)).
[29] في (ج): ((فإذا كان هذا)).
[30] في (ب): ((وهذا)).
[31] في (ب): ((وهذه)).
[32] في (ب): ((من فضل الله الكريم أن من قبلت شهادته أن)). وقوله: ((أنه)) ليس في (ت).
[33] في (ب): ((الدلالة)).
[34] قوله: ((ولا يشهد معه إلَّا من اتبعه بالإحسان)) ليس في (ج)، والمثبت من النسخ الأخرى. وفي (ت): ((تبعه بإحسان)).
[35] زاد في المطبوع: ((وغيرهم أطراف، لا وسط ولا عدول)).
[36] في (ب): ((بل هذا في تجريحه)). وفي المطبوع: ((ترجيحه)).
[37] في (ت): ((قبح)).
[38] في (ج): ((تخرج))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[39] في (ب): ((بالآية)).
[40] في (ج): ((من الكتاب وفيها مما)).
[41] في (ج): ((من))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[42] زاد في (ب): ((وكرمه)).