بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: كان رسول الله أجود الناس.

          164- قوله: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ...) الحديث. [خ¦3220]
          ظاهر الحديث الشهادة(1) لسيِّدنا صلعم بالتقدُّم في الخير والحقِّ وزيادته ╕ في الخير(2) في رمضان حين يدارسه جبريل ╕ القرآن والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ فيه دليلًا على تعظيم شهر رمضان، يؤخذ ذلك مِن كثرة نزول جبريل ◙ فيه لتدريس القرآن ليس إلا، ونزول القرآن هو أكبر الرحمات وأعمُّ البركات التي خُصَّت بها هذه الأمَّة.
          وفيه دليل: على أنَّ(3) تعظيم الأزمنة التي عظَّمها الله تعالى أو الأمكنة إنَّما هو بزيادة العبادة فيها، يؤخذ ذلك مِن فعل جبريل ◙ مع النبيِّ صلعم الذي كان في كل ليلة يدارسه القرآن، وما ذاك إلا لِيُنبِّه الأمَّة على كيفية التعظيم له، وقد قال صلعم فيمن قامه إِيْمَانًا واحْتِسَابًا: «غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وقال: «فَإِنْ شتَمَكَ أو سبَّكَ فقلْ: إِنِّي صَائِمٌ(4)» أو كما قال ◙ .
          وقد قال الله ╡ في حقِّ الأشهر / الحرم تعظيمًا لها: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ(5) فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] وعدم الظلم يتضمَّن الإحسان، وهو زيادة العبادة.
          وفيه دليل: على أنَّ تلاوة القرآن توجب زيادة الخير، لأنَّ الفعل هو ثمرة التلاوة، فإذا تلا ولم يفعل كان كشجرة بلا ثمرة(6)، ولذلك(7) كان صلعم إذا كان في تهجُّده إذا مرَّ بآية رحمة سأل(8)، وإذا مرَّ بآية عذاب استجار، وإذا مرَّ بآية تنزيه سبَّح وعظَّم حتَّى يحصل له حال ممَّا هو ذاكرٌ له، لأنَّ هذه هي أوصاف العبودية، وكذلك ينبغي في حديثه صلعم لأنَّه ╕ قال: «تركتُ فِيْكُم الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا ما(9) تَمَسَّكْتُم بِهِمَا كتابَ الله وعِترتي أهلَ بيتي» وعِتْرَتُهُ أهلُ بيته هم الذين يَرْوُونَ عنه ما قال، لقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ}(10) [الأحزاب:34].
          وفيه دليل: على تذكار الفاضل في الخير وإن كان يعلمه، يؤخذ ذلك مِن تدريس جبريل ◙ لسيِّدنا رسول الله صلعم القرآن كلَّ ليلة مِن(11) رمضان، وسيِّدنا صلعم يعلم ما في ذلك(12) وهو حافظ للقرآن، وذلك هو الذي ينفع فيه الموعظة والتذكار، لأنَّ الله جلَّ جلاله يقول: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13] وقال ╡ في ضده: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة:206].
          وفيه دليل: على أنَّ أعظم الموعظة والتذكار كلام الله تعالى، ولو كان شيء غيره أرفع منه(13) لفعله جبريل ◙ مع سيِّدنا رسول الله صلعم.
          وفيه دليل: على أنَّ ليل رمضان أفضل مِن نهاره، / يؤخذ ذلك مِن أنَّ جبريل ◙ لم يكن يأتي لرسول الله(14) صلعم إلا بالليل، وفي مجيئه له ليلًا إشارة إلى أنَّ التلاوة المقصود منها الحضور والفهم، لأنَّ اللَّيل فيه أشياء تُعِينُ على ذلك منها: التفرُّغ مِن جميع الأشغال(15)، ولذلك قال مولانا سبحانه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6].
          وفيه(16) أنَّ النفس قد ذهب عنها مجاهدة الصوم وتعبه فكان(17) أجمع لها، لأنَّها بالنهار مشغولة بما تحمله مِن مجاهدة الصوم: و{مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]، وإنْ كان سيِّدنا رسول الله صلعم حاضرًا في كل وقت لكن هذا تشريع لأمَّته، ومِن أجلِ(18) هذا النوع كره مالك _☼_ القراءة على القبور، لأنَّا مكلَّفون بأن نتفكَّر فيما قيل لهم وماذا لقوا، ونحن مكلَّفون بالتدبُّر في القرآن، والجمع بينهما في الزمن الفرد محالٌ، فآل الأمر إلى إسقاط أحد الأمرين.
          وفيه دليل: على جواز ضرب المثال ليفهم عن(19)المتكلِّم ما قصده، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا قال الصحابي عن سيِّدنا رسول الله صلعم : إنَّه كان أجود النَّاس، فماذا بقي له أن يخبر به عن كيفية زيادته في(20) أفعال الخير فعبَّرَ بالريح، لأنَّ الريح المرسلة إذا جرت دامت ولم تنقطع، وعبَّر عن خير(21) سيِّدنا محمد صلعم أنه / كان أكثر مِن الريح، لأنَّ الريح قد(22) تسكن وقتًا ما، والمرسَل منها دائمًا لا يفتر مُدَّةَ إرساله.
          ومما يقوِّي ذلك أنَّه ╕ كان في العشر الآخر مِن رمضان يشدُّ المئزر ويقول لأهله: «اطووا الفِراشَ» وهذا عند الزمان الذي يلحق النَّاسَ فيه الضعفُ وهو آخر الشهر، فكان(23) ╕ يزيد في التعبُّد إذ ذاك حتَّى يترك النوم مرة واحدة، ولا ذاك(24) إلا لقوة الباعث على الخير حتَّى يخرجه عن أوصاف البشرية، وفي هذا دليل لأهل السلوك الذين يقولون: (بالهمَم تُنال المقامات لا بالأبدان).
          وفيه(25) مِن الفقه أنَّه مَن أراد زيادة الخير فلينظر في الأسباب المقوِّية(26) للعزائم يأتيه العون، ولا يأخذ الأمور مِن خارج وينظر إلى الأشياخ ليس إلا، فإنَّه إنْ فعل لحقه الفتور والعجز الذي هو وصف البشرية، ولهذا أشار صلعم بِقَوْلِهِ: «طُوبَى لِمَنْ جَعَلَ همَّهُ هَمًّا واحِدًا» لأنَّه إذا جعل الهمَّ همًا واحدًا وهو هَمُّ الآخرة ذهبت عنه أوصاف البشرية وطلبها لحظوظها(27)، وخَفَّت عليه العبادة، وجاءه العون مِن حيث لا يحتسب.
          وفيه دليل: على فضل الصَّحابة رضوان الله عليهم وكثرة نباهتهم، يؤخذ ذلك مِن قول الراوي: (مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ) لأنَّ الريح(28) المرسلة هي ريح الخير، لأنَّ الله ╡ يقول: / {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57] وقال ╡ في الريح التي هي(29) نقمة {كَمَثَلِ(30) رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ(31)} [آل عمران:117] وقال ╡ في قوم عاد: {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:41] وقال تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة:6] فنعتها بالصفة المهلكة، فحيث ما وجدت ذكر الرياح مجملة أو نكرة، تجدها منعوتة بالإرسال ليس إلا، فهي خير، والضد تجدها مفردةً معرَّفةً(32) بما يَدُلُّ عَلَى المخوفات(33) كما ذكرناه آنفًا.
          ويترتَّب على ذلك مِن الفقه أنْ لا يمثَّل الخير إلا بخير مثله، وكذلك على الضدِّ، ولا يعكس الأمر في ذلك، والله الموفِّق للصواب، وفقنا الله بمنه(34).


[1] في (م): ((والتكليف وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمان عن ابن عباس قال كان رسول الله صلعم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فإن رسول الله صلعم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ظاهر الحديث شهادة)).
[2] في (م): ((بالتقدم في الخير ولحق وزيادة على السلام في الخير)).
[3] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[4] زاد في (ج): ((إِنِّي صَائِمٌ)).
[5] قوله: ((ذلك الدين القيم)) بياض في (ط)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[6] في (ج): ((ثمر)).
[7] في (ج): ((وكذلك)).
[8] في (ج) و (م): ((سأل الله تعالى)).
[9] في (م): ((بما)).
[10] قوله تعالى: {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ليس في (ط) و (م) والمثبت من (ج).
[11] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[12] في (م): ((عليه وسلم يأتي ذلك)).
[13] قوله: ((منه)) ليس في (ج) و (م).
[14] في (ج): ((ليأتي رسول الله)).
[15] في (ج): ((الاشتغال)).
[16] زاد في (ج): ((دليل)).
[17] في (م): ((وكان)).
[18] في (ج): ((ولأجل)).
[19] زاد في (ط) في هذا الموضع: ((النبي صلعم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] العبارة في (م): ((فماذا أبقى له أن يغير به عن كيفية زيادته في)).
[21] قوله: ((خير)) ليس في (ج).
[22] قوله: ((قد)) ليس في (ج).
[23] في (م): ((وكان)).
[24] في (ج): ((ذلك)) وفي (م): ((وما ذاك)).
[25] زاد في (م): ((دليل)).
[26] في (ج): ((القوية)).
[27] في (م): ((لخصوصها)).
[28] قوله: ((الريح)) ليس في (ج).
[29] قوله: ((هي)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[30] قوله تعالى: ((كمثل)) ليس في (ج) و (م).
[31] زاد في (م): ((وما ظلمهم الله)).
[32] قوله: ((معرفة)) ليس في (ج).
[33] في (م): ((المخلوقات)).
[34] في (م): ((الموفق للصواب بمنه))، و قوله: ((للصواب، وفقنا الله بمنه)) ليس في (ج).