بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: من صور صورةً فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح

          96-قوله: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، / فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ(1)...) الحديثُ. [خ¦2225]
          ظاهرُ الحديثِ يدلُّ على أنَّ الذي يصوِّرُ الصورةَ أنَّه(2) يُعذَّبُ أبدًا، والكلامُ عليهِ مِن وجوهٍ:
          منها: هل هيَ على العمومِ في كلِّ الصورِ مَن لهُ روحٌ ومَن(3) لا روحَ لهُ؟ ومنها: هلِ التأبيدُ على ظاهرِهِ فيكونُ مثلَ الكافرِ سواءً؟ ومنها: إنْ تابَ قبلَ الموتِ هلْ يُغفَرُ لهُ أم لا؟(4).
          فأمَّا(5) الجوابُ عنِ الأولِ: فأمَّا مَن لا روحَ لهُ(6) فلا يدخلُ تحتَ الحديثِ؛ لِقَولِهِ ◙ : (حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ) فخرجَ مِن عمومِ اللفظِ(7) مَن صوَّرَ(8) صورةً لا روحً لها بتحديدِه ◙ بنفخِ الروحِ(9) فيها، وقد ذُكِرَ ذلكَ عَن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ.
          وأمَّا الثاني: وهوَ(10) هلِ التأبيدُ على ظاهرِه؟ فيُعارضُنا قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116]، وهذا دونَ الكفرِ(11) فهوَ في جُملةِ (مَن يشاءُ) فيكونُ المَعنى فيهِ واللهُ أعلمُ مثلُ قَولِه تَعَالَى في مَن قتلَ المؤمن(12) متعمدًا: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ} [النساء:93] قَالَ أهلُ السُّنَّةِ: (فجزاؤه): إنْ جازاهُ، وقد تقدَّم لنا(13) البحثُ(14) في هذا.
          ومثله أنَّهم هم الذينَ يَخْرجون بشفاعةِ أرحمِ الراحمينَ حينَ(15) يقولُ اللهُ تَعَالَى: «شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ والرُّسُلُ والْأَنْبِيَاءُ، وبَقِيَتْ شَفَاعَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِيْنَ، ثم يَقْبِضُ مِنَ(16) النَّارِ قَبْضَةً فَيُخْرِجُ مِنْهَا كلَّ مَنْ كانَ(17) حَبَسَهُ القرآنُ»(18).
          والذين حبسَهم القرآنُ على ضربينِ: كفارٌ وأهلُ معاصٍ، مثلُ مَن تقدَّمَ ذكرُهم، العدلُ يقتضي أنْ لا يُغفَرَ لهم، وأمَّا أهلُ الكفرِ فلا مغفرةَ لهم / لقولهِ تَعَالَى: {اخْسَئُوا فِيهَا ولَا تُكَلِّمونِ(19)} [المؤمنون:108].
          والآيُ والأحاديثُ فيهِ كثيرةٌ وإجماعُ المسلمينَ على ذلكَ، فيكونُ الفريقُ الآخرُ همُ الذينَ تنالُهم تلكَ الرحمةُ وهو وجهٌ يجتمعُ بهِ الآيُ والأحاديثُ ولا يقعَ بينَهما تعارضٌ إنْ شاء الله.
          وفيهِ دليلٌ على جوازِ التعليمِ دونَ سؤالٍ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن إِخبارِ النَّبِيِّ صلعم بهذا الحديثِ.
          وهنا بحثٌ، وهوَ: هلْ(20) هذا العذابُ العظيمُ هوَ في الذنب العظيم(21) لعلَّةٍ تعرفُ أو هوَ(22) لِعلَّةٍ لا يعرفها(23) إلا هو ╡ (24)؟ إنْ قُلنَا: تعبُّدًا(25) فلا بحثَ، وإنْ قلنا: قَد نفهمُها غلبةَ ظنٍّ بمقتضى إخبارِ الشارع ◙ في غيرِ(26) هذا فما هيَ؟
          فنقولُ واللهُ أعلمُ: لأنَّه تشبَّهَ بصفة بل بصفتين(27) مِن صفاتِ اللهِ ╡ عظيمتينِ، وهما: العظمةُ والحكمةُ؛ لأنَّ الخلقَ واختلافُهم(28) دالٌّ على عظمةِ اللهِ ╡ وعظيمِ حكمتِه، وقَالَ(29) صلعم حكايةً عنهُ جلَّ جلالُه: «العَظَمَةُ رِدَائِي والكِبْرِيَاءُ إِزَارِي(30)، فَمَنْ نَازَعَنِي(31) في واحدٍ مِنْهُمَا قَصَمْتُهُ»(32)، فإذا كانتْ صفةٌ واحدةٌ جاءَ في التشبُّهِ بها هذا الوعيدُ(33)، فكيفَ بشيءٍ يدلُّ على صفتينِ عظيمتينِ؟ فيحقُّ هذا لِمَا فيهِ مِن قلَّةِ الأدبِ.
          والفقهُ في هذا الحديثِ: التصديقُ بهِ؛ لأنَّ ذلكَ مَع كونِهِ مِن حقيقةِ الإيمانِ يوجِبُ الردعَ والزجرَ عن هذا الفعلِ، ومِن أجلِ هذهِ الفائدةُ أخبرَ سيِّدُنا صلعم بهذا الحديثِ وأمثالِهِ.
          وفيهِ دليلٌ لطريقِ / أهلِ الصوفيةِ(34) في ذمِّهم الدعوى وإنْ كانَتْ حقيقيةً خيفةَ النقصِ وهم لا يشعرونَ، فتكونُ سببًا للحرمانِ، يؤخذ ذلكَ مِنْ قَولِهِ ◙ : (فَإِنَّ اللهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ)، ولأنَّه قد جاءَ في حديثٍ آخرَ: «يُقَالُ لَهُ: أَحْيِ مَا خَلَقْتَهُ»(35) فإنَّه يُطلبُ بتمامِ الدعوَى فلا يُتمُّها فَيُعَذَّب على كذبِ دعواهُ لأنَّه لمَّا صوَّرَ(36) ما يشبهُ ما خلقَهُ الخالقُ جلَّ جلالُه فقد ادعوا بحالهم أنهم يخلقون مثله(37).
          فيُقَالَ له: مِن تمامِ دعواكَ أنْ تُحيِي مَا صوَّرتَ وإلا فأنتَ كاذبٌ في دعواكَ، والكذبُ(38) جزاؤُه العذابُ الأليمُ، فلو كانَ يكذبُ على غيرِ دعوَى(39) لكانَ يُعذَّبُ ولا يُجعلُ لهُ شرطٌ في رفعِ العذابِ لتمامِ خَلقِ ما صوَّرهُ بنفخِ الروحِ فيهِ وهوَ لا يُطيقُ ذلكَ، كما جاءَ في حقِّ الكذَّابِ الذي يُشَقُّ شِدْقُه، لكنَّ شُؤمَ الدَّعوى زادَه عظيمَ البلاءِ(40).
          وفيهِ دليلٌ على تصديقِ ما كانَ الصدرُ الأولُ عليهِ، وهوَ الحقُّ فإنَّهم كانُوا ينظرونَ الشخصَ في حالِه لا في مقَالِهِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أنَّ المصوِّرَ الصورةَ ما هوَ بلسانه يدَّعِي أنَّه يخلقُ، فلمَّا كانَ فعلُه(41) يدلُّ على ذلكَ لم يُرْعَ في ذلكَ مقَالُه، وإنْ كانَ يعترفُ في حالِ حياتِه أنَّ هذا ليسَ بحقيقةٍ، لكنْ لا ينفعُه ذلكَ، ويُؤخَذُ بما يدلُّ عليهِ لسانُ حالِهِ، وممَّا يُقوِّي ذلكَ ما رُوِيَ عنهُ صلعم أنَّهُ إذا(42) كانَ يُذْكَرُ شخصٌ عندَه وهو غائبٌ لا يعرفُه يقول: «كَيْفَ / هُوَ في عَقْلِهِ؟»(43) يعني: في عقلِه عنِ اللهِ وتصرُّفِهِ.
          ويترتَّبُ عليهِ مِنَ البحثِ أنَّ(44) مَن أرادَ اللُّحوقَ اتَّبعَ ولم يبتدِعْ، يَصِلُ حيثُ وصلُوا وإنْ لم يدَّعِهِ، وإن ادَّعى ولم يتَّبعْ(45) حصلَ لهُ التوبيخُ والخسرانُ، وقدْ قَالَ أهلُ التوفيقِ: مَن ادَّعَى ما ليسَ فيهِ فضحَتْهُ شواهدُ الامتحانِ.
          وقد قَالَ: نفسُكَ على الدَّعْوَى فحاسِبْها،ولا تدَّعِ ذاكَ(46) فتُضَيِّعهـــا.


[1] في (ج) و(م): ((يعذبه))، وزاد في (ل): ((حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدً. فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ، فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ، كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، مِنَ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، هَذَا الحَدِيثُ)).
[2] في (ل): ((فإنه)).
[3] في (ج) و(م): ((ما له روح وما)).
[4] قوله: ((ومنها إن تاب قبل الموت هل يغفر له أم لا)) ليس في (م).
[5] في (م): ((وأمَّا)).
[6] قوله: ((ومنها هل التأبيد.... لا روح له)) ليس في (ج).
[7] زاد في (م): ((وكل)).
[8] قوله: ((صور)) ليس في (ل).
[9] في (م): ((◙ بالروح)).
[10] قوله: ((وهو)) ليس في (ج) و(م).
[11] قوله: ((الكفر)) ليس في الأصل (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[12] في (ج) و(م): ((مؤمنا)).
[13] قوله: ((لنا)) ليس في (ج) و(م).
[14] في (ل): ((بحث)).
[15] في (ل): ((حيث)).
[16] في (ج) و(م) و(ل): ((في)).
[17] قوله: ((كان)) ليس في (ج) و(م).
[18] أخرجه أحمد ░11127▒، ومسلم ░183▒ ░302▒ من حديث أبي سعيد الخدري.
[19] في (ج) و(م): ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)).
[20] في (ج): ((وهو أن يقال)).
[21] في (ج): ((هل هو)) بدل قوله: ((هو في الذنب العظيم))، وفي (ل): ((هل في الذنب علة)).
[22] في (ل): ((أم هذه)).
[23] في (ج): ((أم هو لعلة لا يعلمها)).
[24] العبارة في (م): ((وهنا بحث:وهو أنْ يقال هذا العذاب العظيم هل هو لعلةٍ تعرف أو هو لعلةٍ لايعلمها إلا هو ╡)).
[25] في (ج) : ((فإن قلنا تعبدا))،في (م): ((فإنْ قلنا إنَّه تعبدٌ)).
[26] قوله : ((غير)) ليس في (ل).
[27] في (ج) و(م): ((أعلم وذلك أنه تشبه بصفتين)).
[28] في (ج) و(م): ((على اختلافهم)).
[29] في (ج) و(م) و(ل): ((وقد قال)).
[30] في (ج) و(م): ((الكبرياء ردائي والعظمة إزاري)).
[31] في (ل): ((عاندني)).
[32] أخرجه أحمد ░7328▒، وأبو داود ░4090▒، وابن ماجه ░4174▒ من حديث أبي هريرة.
[33] زاد في (م): ((العظيم)).
[34] في (ج) و(ل): ((الصوفة)).
[35] أخرجه أحمد ░6241▒ من حديث ابن عمر.
[36] العبارة في (ج) و(م): ((حديث آخر:يقال للمصورين أحيوا ما خلقتم فيطلبون بتمام الدعوى فلا يتمونها فيعذبون على كذب دعواهم لأنهم لما صوروا)).
[37] في (ط) و(ل): ((فقدِ ادَّعى بحاله أنَّهم يخلق)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[38] في (ل): ((والكذاب))، وفي (ج) و(م): ((فيقال لهم: من تمام دعواكم أن تحيوا ما صورتم وإلا فأنتم كاذبون في دعواكم والكذاب)).
[39] في (م): ((يكذب على غيره بدعوى)).
[40] في (ج) و(ل): ((البلوى))، وفي (م): ((كما زادته عظيم البلى)).
[41] زاد في (م): ((أنَّه)).
[42] قوله: ((إذا)) ليس في (م).
[43] أخرجه الطبراني في مسند الشاميين ░965▒، والبيهقي في شعب الإيمان ░4645▒ من حديث أبي الدرداء.
[44] كلمة: ((أن)) ليست في (ط) و(ل).
[45] في (م): ((ولم يبلغ)).
[46] في (ج) و(م): ((ذلك)).