بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان

          182- قوله صلعم : (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ...) الحديث. [خ¦3292]
          ظاهر الحديث يدل على حكمين:
          (أحدهما): الإعلام بأنَّ الرؤيا الصالحة مِن الله تعالى، و(الآخر): الإخبار بأنَّ الحُلُم مِن الشَّيطان، وتعليم المخرج منها، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أنْ يقال: ما معنى قوله (مِنَ اللهِ تعالى)؟ وما معنى (الصَّالِحَةُ)؟ وما معنى (الحُلُم)؟ والكلام على كيفية الاستعاذة منها، وما الحكمة في البصاق عن(1) اليسار؟
          فأمَّا الجواب عن قوله / ╕: (مِنَ اللهِ) أي: هي حقٌّ لا شكَّ فيها، لأنَّ كل ما هو مِن عند الله لا شك فيه(2) أنَّه حق، ولذلك قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
          وأمَّا قوله ╕ (الصَّالِحَةُ)(3) فكلُّ ما فيها خير، فهي صالحة في غالب الحال كما قال شعيب ╕ لموسى ╕: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] أي: لا(4) ترى مني إلا شيئًا(5) تُسرُّ به وفيه صلاح لك.
          وأمَّا قوله: (الْحُلُمُ) فالحلم(6) ما فيه تهويل للنفس(7) وتخويف، وهو على قسمين: ما فيه تخويف وتهويل على النفس، وليس يدلُّ بوضعه على شيء يضرُّ، ومنه ما يدلُّ على شيء يضر(8)، ومِن أجل ذلك قال صلعم بعد(9): (يَخَافُهُ)(10)، ليفرق بين ما يكون يدلُّ على ضرر وبين ما لا يدلُّ على ضرر، ولذلك قالوا للعزيز {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44].
          ويلزم على هذا مِن الفقه أنْ يكون الذي رأى(11) الرؤيا عارفًا بالتعبير(12)، وإلاَّ قد تكون الرؤيا في نفسها مَهُولَة، وهي تدلُّ على خير مثال ذلك: أنْ ترى شخصًا(13) يضرب آخر بالسوط ويوجعه ضربًا، فإنَّ الضارب يولي للمضروب معروفًا على قدر ضربه مِن شِدَّةٍ أو لِينٍ، وقد يكون بعكس معناه فتكون حسنة في نفسها وهي تدلُّ على ضدِّ ذلك(14)، مثاله: أنْ ترى شخصًا(15) يعمل لشخص(16) عرسًا أو وليمة ويطعمه حلاوة وطعامًا بلحم سمين، فإنَّ المطعم الطعام(17) / يفعل بالذي أطعمه أو أفرحه(18) شرًّا بقدر حسن الحلاوة وطيب اللحم، فكلَّما(19) كثر الحسن في ذلك كثر القبح في الشَّر الذي يناله(20) منه.
          وما أراد الشَّارع صلعم بالحسن وضده إلا المعنى الذي يتضمَّنه(21) نفس الواقع في النوم بوضعه، ففقْهُ مَنْ لا يعرف في التعبير شيئًا أنْ يتعوَّذ ممَّا لا يعرف لها معنى مِن أجل أنْ تكون ممَّا تدلُّ على مكروه، فإن كانت تدلُّ عليه فيندفع عنه ذلك المكروه باتباعه الأمر، وهذا مِن باب سدِّ الذريعة، لأنَّ الاحتياط كله(22) مِن هذا الباب وهو الأَوْلى.
          ولا يجوز له أنْ يَعْبُرَ الرؤيا بغير علم لأنَّها مِن النبوة، وما كان مِن النبوة فلا يجوز أنْ يُهْزَأَ به لأنَّ الحكم بغير علم هزْءٌ وتجرُّؤ على ما لا يجوز، ولذلك كان سيِّدنا صلعم كل يوم إذا صلَّى الصبح يدور بوجهه(23) إلى الصحابة رضوان الله عليهم ويقول: «هل رأى أحدٌ منكم الليلةَ رؤيا؟» فمَن رأى منهم شيئًا ذكره وفسَّره لهم ليعلِّمهم علم التعبير، وكما قال يوسف ╕(24): {ذَلِكُمَا ممَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] يعني به علم تعبير الرؤيا(25).
          وقد يكون مِن الرؤيا ما يؤلم النفس وهو حقٌّ، فقد قال العلماء(26): إنَّه إذا كانت حقًّا وامتثل الرائي ما أَمَر(27) به النَّبي صلعم فإنَّها لا تضرُّه، ويصرف الله تعالى عنه ببركة السنَّة / تلك الأمورَ المشوِّشة لأنَّه صلعم ما بُعث إلا رحمة، وهو ╕ يعلم أنَّ في الحلُم(28) وهو كل ما فيه تهويل وتشويش على النفس ما هو حقٌّ، فحملها(29) كلها ╕ مَحملًا(30) واحدًا وجعلها مِن الشَّيطان لكون أنَّ هذا هو الغالب فيها، والشريعة إذا تأمَّلتَها إنَّما أطلقت الأحكام على الغالب في جميع الأمور رحمةً مِن الله تعالى وتوسعةً على عبيده، فجعل(31) المخرج مِن الكلِّ واحدًا(32) وهو الاستعاذة بالله.
          وهنا بحث لطيف أيضًا في كونه صلعم جعله(33) _أعني(34) الحلم_ مِن الشَّيطان، لأنَّ أصل كل ما يصيب(35) المرء مِن البلاء والمحن في الغالب إنَّما هو ممَّا اجترأ(36) به الشخص على نفسه، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال ╡ : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] وأصل المخالفات إنَّما هي مِن وسواس الشَّيطان وتسويله، لأنَّ الله ╡ يقول في كتابه(37): { الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا } [البقرة:268] فقام ذكر اسم الله سبحانه في هذا الموضع مقام التوبة والاضطرار، فالتوبة تَجُبُّ ما قَبْلَها والمضطر مستجاب(38) له بمقتضى الوعد(39) الجميل، وهو قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [النمل:62] / رحمة مِن الله تعالى ونعمة لمن قبلها، فلذلك قال ╕: (لَا تَضُرُّهُ(40)).
          وأمَّا الجواب على: ما(41) الحكمة في أنْ يبصق عن(42) يسارِه؟
          فلأن(43) فيه خزيًا للشيطان لأنَّ جانب الشمال هو مقعده، و(وجه آخر) لأنَّ ريق المؤمن(44) شفاء، وفيه أيضًا إحراق للشيطان(45) لأنَّه لا يحمله، فيكون بصاقه ينشأ عنه تألم الشَّيطان(46) وطرد له مِن أجل أنْ لا يعود إلى تخويفه(47) ثانيةً، وقد تكون(48) للمجموع وزيادة والله تعالى أعلم.
          وفي قوله ╕: (وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا) دليل على ما قدَّمناه مِن أنَّ المقصود مِن الرؤيا ما تدلُّ عليه، لا نفسُ الرؤيا.
          وهنا بحث وهو أنْ يقال: هل هذا على عمومه أم لا؟
          الظاهر يعطي العموم والبحث يعطي التخصيص، لأنَّه إذا كان الرائي شيطانًا في نفسه فكيف(49) يفرُّ(50) منه الشَّيطان؟ ومما يؤيِّد ما أشرنا إليه قوله: (مِنْكم) يعني: مَن هو على طريقكم الذي(51) تقتضيه حقيقة(52) الإيمان، فلو كان ╕ عنى بقوله: (مِنْكم) جنس بني آدم لكان الكفار والمنافقون يدخلون تحت هذا ولا قائل به(53)، فما بقي إلا التخصيص بأن يعني به المؤمنين، ولذلك قال ╕ في حديث آخر: «الرؤيا الصالحة يَراها الرجل الصالح أو تُرَى له»، ولا يعترض علينا ببعض مَرَاءٍ رآها بعض الكفار، ورُوِيَت عنهم وخرجت حقًّا، والانفصال عنه أنْ تقول: ذلك / نادر والنادر لا حكم له.
          وفيه(54) وجه آخر وهو: أنَّه إذا تأمَّلت تلك المرائي التي رُوِيَت عن بعض الكفار إنَّما الفائدة فيها للمؤمنين غالبًا، مثل رؤيا العزيز إنَّما كانت سببًا لأنَّ يتولَّى يوسف ╕ مُلْك العزيز، ومثله(55) ما رآه بعض كفَّار مكة، قبل خروجهم إلى قتال سيِّدنا(56) صلعم هي مِن جملة النقمة لهم، والظهور لسيِّدنا صلعم، وكذلك نجد كل واحدة(57) منها الخير(58) فيها للمؤمنين.
          وفيه دليل: على عظيم قدرة الله تعالى، يؤخذ ذلك من كون المرائي تُرى(59) فيها تماثيل وأشكال(60) تدلُّ على أشياء وتخرج في عالم الحس(61) كذلك، وقد قال أهل العلم بهذا الشأن: إنَّه لا يقع لأحد شيء(62) في هذا العالم إلا وقد رآه في النوم عَقَلَه مَن عَقَلَه، وَجَهِلَه(63) مَن جَهِلَه، ولذلك قال: إذا تأمَّلت كلَّ ما تراه، دلَّ على أنَّه حقٌّ، وإنَّك في الدنيا لا تراه(64)، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ(65) الْحَقُّ} [فصلت:53].


[1] في (م): ((على)).
[2] في (ج) و (م): ((في)).
[3] في (ط): ((صالحة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ج): ((لما)).
[5] في (ج): ((من الأشياء)).
[6] في (ج) صورتها: ((الحكم)).
[7] في (ج): ((النفس)).
[8] زاد في (م): ((ومنه ما يدل على شيء لا يضر)).
[9] في (ج): ((بعده)).
[10] في (م): ((خافه)).
[11] في (ج) و (م): ((يرى)).
[12] في (ج): ((بالغير)).
[13] في (ج): ((يرى شخص)).
[14] زاد في (ج): ((فيكون حسنة وهي تدل على ضد ذلك في نفسها)).
[15] في (ج) و (م): ((يرى شخص)).
[16] في (ج): ((على الشخص)).
[17] في (ج): ((للطعام)).
[18] في (ج) و (م): ((أو فرحه)).
[19] في (م): ((وكلما)).
[20] في (م): ((ينال)).
[21] في (ج): ((إلا لمعنى الذي تتضمنه)).
[22] في (ج): ((كل)).
[23] في (ط): ((وجهه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] العبارة في (م): ((علم التعبير كما علم وقال يوسف على نبينا و◙)).
[25] في (ج): ((علم التعبير)).
[26] قوله: ((فقد قال العلماء)) ليس في (ج).
[27] في (ج): ((أمره)).
[28] صورتها في (م): ((الحكم)) والموضع الذي بعده.
[29] في (م): ((يحملها)).
[30] في (م): ((تحملا)).
[31] في (م): ((فهذا)).
[32] في (ج) و (م): ((واحد)).
[33] في (ج): ((جعل)).
[34] في (م): ((عليه وسلم أعني)).
[35] في (م): ((لأن الأصل كما يصيب)).
[36] في (ج) صورتها: ((أخبرني)).
[37] قوله: ((في كتابه)) ليس في (ج).
[38] في (م): ((ستجاب)).
[39] في (ج): ((الوجه)).
[40] في (م): ((لا يضره)).
[41] قوله: ((ما)) ليس في (ج).
[42] في (م): ((على)).
[43] في (ج): ((فإن)).
[44] في (ج): ((آخر وهو أن المؤمن ريقه)).
[45] في (ج) و (م): ((الشَّيطان)).
[46] في (م): ((للشيطان)).
[47] في (ج): ((تخويف)).
[48] في (ج): ((يكون)).
[49] في (ج) و (م): ((كيف)).
[50] في (ج) صورتها: ((يضر)).
[51] قوله: ((الذي)) ليس في (ج).
[52] في (ج) صورتها: ((حذيقة)) وهي تصحيف.
[53] في (م): ((تحت هذا الأقل بل به)).
[54] في (ج) و (م): ((وفيها)).
[55] قوله: ((رؤيا العزيز إنَّما كانت سببًا لأنَّ يتولى يوسف ╕ ملك العزيز، ومثله)) ليس في (ج) و (م).
[56] زاد في (ج): ((محمد)).
[57] في (ط) و(ج): ((واحد)) والمثبت من (م).
[58] في (الملف): ((الجبر)). في (ج): ((منهما الخير)).
[59] في (ج): ((يرى)).
[60] في (ج): ((أشكال)).
[61] في (ج): ((الحسي)).
[62] في (ج) و (م): ((شيئا)).
[63] في (ج) و (م): ((أو جهله)).
[64] في (ج): ((ولذلك قال: إذا تأملت كل ما تراه، دلَّ على أنه حق، وإنك في الدنيا لا تراه)) ليس في (ج) و (م).
[65] قوله: ((أنه)) ليس في (ج).