بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة

          247-قوله صلعم : (إِنَّ الغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ...) الحديثَ(1). [خ¦6178]
          ظاهر الحديث يدلُّ على فضيحة الغادر يوم القيامة، يُنصَب لواءُ غدرته وشهرته بها على جميع العالم هناك. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أن يُقال: هل الغدر عَلى عمومه في الدِّق والجِلِّ، أو في أشياءَ مخصوصة؟ وهل له عذاب غير ذلك، أو لا(2)؟ وهل لكلِّ غَدرة تكون منه يُنصب له بها لواء، أم(3) لواء واحد يكفي عَن جميع غدراته؟ وهل تُعرف الحكمة في ذلك أم لا؟
          أمَّا قولنا: هَل الغدر عَلى عمومه، أو في بعض الأشياء دون بعض؟ أمَّا ما عدا الأشياء المحرمات(4) والمكروهات التي قد خَرَجَت ببابها فهو عامٌّ في الدِّقِّ مِن الأمور والجِلِّ. وهذا باب ضيِّق لم يسامح فيه أحد مِن العلماء(5)، حتَّى إنَّهم قالوا في الأسير: إذا كان في / دار الحرب وقال له العِلْجُ الذي في يده: عاهِدني(6) على ألَّا تهربَ، وأنا أسرِّحك مِن الحديد. فإن عاهده وسرَّحه مِن الحديد مِن أجل عهده، فلا يحلُّ له الهروب، بخلاف أن لو حلَّفه، فله إذا حلَّفه(7) أن يهرب ويكفِّر عَن يمينه.
          أَمَا ترى إلى حال الغادر في كتاب الله ╡ حيث قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75-77] فأورثهم غدرُهم لمولاهم أنحسَ(8) الأحوال، وهو النِّفاق.
          وأمَّا قولنا: هل له عذاب غير ذلك(9)؟ بحسب ما قدر عليه(10)، وإنَّما تكون هَذه علامة يُعرَف(11) بها يوم القيامة، لأنَّه قد شاء الله سبحانه أن جَعل(12) لكلِّ صاحب ذنب علامةً يُعْرَف بها ذنبه، مثل شاهد الزُّور يُبعث مُولغاً لسانه بالنَّار، وآكل الرِّبا يتخبَّط مثل صاحب الجنون في الدنيا، والَّذي يطلب وليس بذي حاجة ليس في وجهه مِزْعة لحم، والنَّائحة لها سِرْبَالانِ: أحدهما مِن الجَرَب، وَالآخر(13) مِن القَطِران، ومانع الزكاة إن كانت إبلاً يُبطح(14) لها بقاع قَرْقَرٍ، فجاءت أوفر مَا كانت تطؤه بأخفافها وتعضُّه بأفواهها، كلَّما مرَّ(15) أُخراها رُدَّت أُولاها، حتَّى يقضي الله تعالى بين عباده ثمَّ يرى سبيله، وإنْ كانت(16) غنماً فمثل ذلك، إلَّا أنَّه قال(17): تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، وإن كان(18) مالُه ذهباً أو فضَّة مُثِّل له شجاع أقرع، يعضُّه في شِدقَيه / يقول له(19): أنا مالك أنا كنزك، والمتكبِّرون يُبعثون مثل الذرِّ، وآكلُ أموال اليتامى ألسنةُ النَّار تخرجُ مِن منافِس جسده، وشارب الخمر الكوز معلَّق في عنقه، وَالكذَّاب يُشقُّ(20) شِدقه، كما تقدَّم في الحديث، والمغتابون النَّاسَ(21) تُقرَض شفاههم بالمقاريض، أو كما ورد في ذلك.
          فهذه(22) كلُّها علامات على كلِّ ذنب حتَّى يُعرف به صاحبه، وَهي أشياء عديدة بحسب الجرائم، وكفى في هذا قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] أعاذنا الله مِن الذنوب والفضيحة بها، لو لم يكن فيها إلَّا هَذا المقدار لكان كافياً في الرَّدع والزَّجر(23)، فكيف بالأمر الزَّائد على ذلك الذي لا تحمله الجبال؟!.
          وأمَّا قولنا فيمن له غدرات: هل تُنصَب له ألوية بعددها، أو لواء واحد يكفي؟ ظاهر الحديث يعطي أنَّ لكلِّ غدرة لواء. يُؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (يُقال(24): هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ(25)) وَجاء في حديث غيره: «بقَدْر غَدْرَتِه».
          وأمَّا قولنا: هل تُعرف الحكمة في كونه جُعلت شهرتُه بنصب اللِّواء أم لا؟ فنقول _والله أعلم_: قد عرفنا مِن حكمة الشريعة أنَّ العذاب على الشَّيء يكون بما يضادُّه، وأنَّ الشهرة هناك تكون(26) مِن جملة العقاب(27) أيضاً، فلمَّا كان الغدر هنا أمراً باطناً خفيَّاً جُعلت هناك علامته أشهرَ الأشياء، لأنَّ عادة العرب أنَّ أشهر الأشياء عِندهم برفع الألوية، وقد جاء في حديث آخر: «أنَّه يُنْصَبُ / عِنْدَ استِهِ» أو كما ورد. وهذا مبالغة في التوبيخ والخزي، جزاءً وفاقاً.
          وفيه دليل على أنَّ المعرفة في الآخرة مِثل(28) المعرفة هنا؛ يُؤخذ ذلك مِن قوله: (فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ(29)) فكما أنَّ المعرفة هنا بالآباء فكذلك هناك.
          تنبيه: (اعْرِضْ يا فلانَ بنَ فلانٍ على نَفْسِك)، حين وَصَف صلعم أبوابَ الجنَّة، وذكر أنَّ لكلِّ بابٍ منها مِن أعمال الخير نوعاً يدخل أهله مِنه(30)، وأنَّ أهل الصوم يدخلون مِن باب الرَّيَّان، فقال أبو بكر ☺: يا رسول الله ما على مَن يُدعَى مِن تلك الأبواب كلِّها؟ فقال له(31) صلعم : «وأرجو(32) أن تكون منهم» أو كما ورد.
          وكيف حال مِن اجتمعت عليه(33)، وفيه تلك العلامات القبيحة عَلى ما فرَّط مِن الزكاة وغيرها مِن المتقدِّم ذكرها، ورايات غدرِهِ تحلِّق(34) عند استه؟ فاجعل نفسك بين هاتين الحالتين، واخترْ إلى(35) أيَّهما تفزع بالأعمال لا بالطمع والآمال، «والكَيِّسُ مَن دانَ نفسَه وعَمِل لِمَا بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَن أَتْبَع نفسَه هواها، وتمنَّى على اللهِ الأماني».
          جعلنا الله مِن أهل الكَيس وأعاننا عليه وأسعدنا به بمنِّه وكرمه(36).


[1] في (ب): ((عن ابن عمر أن رسول الله صلعم قال إن الغادر يُنصَب له لواءٌ يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان)).
[2] في (ب): ((غير ذلك أم ليس)).
[3] في (ب): ((أو)).
[4] في (ب): ((المحرمة)).
[5] زاد في (ب): ((في ذرة)).
[6] في (ج) و(ت): ((تعاهدني)).
[7] في (ب): ((أن لو أحلفه فله إذا أحلفه)).
[8] في (ب): ((أبخس)).
[9] زاد في (ت) و(ب): ((فالعذاب له)).
[10] في (المطبوع): ((ما غدر به)).
[11] في (ب): ((وإنما هذه العلامة التي يعرف)).
[12] في (ب): ((لأنها قد شاءت الحكمة الربانية أن جعلت)).
[13] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((والثاني)).
[14] في (ب): ((بُطِح)).
[15] في (ج) و(ت): ((مرت)). وما بعدها مثبت من (ب)، وفي باقي النسخ: ((آخرها)).
[16] في (ب): ((كان)).
[17] زاد في (ت): ((إنَّها)).
[18] قوله: ((كان)) ليس في (ج)، وعبارة (ب): ((وإن كان له مال ذهب أو فضة)).
[19] قوله: ((له)) ليس في (ب).
[20] في (ب): ((ينشق)).
[21] في (م): ((للناس)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[22] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((هذه)).
[23] في (ب): ((هذا القدر لكان كافياً في الردع والانزجار)).
[24] في (ج): ((فقال)).
[25] زاد في (ب): ((ابن فلان)).
[26] قوله: ((تكون)) ليس في (ج) و(ب).
[27] في (ب): ((العذاب)).
[28] في (ت): ((في)).
[29] قوله: ((ابن فلان)) ليس في (ب)، وبعدها في (ب): ((وكما أن المعرفة بالآباء)).
[30] في (ب): ((من ذلك الباب)).
[31] قوله: ((له)) ليس في (ب).
[32] في (ج) و(ب): ((أرجو)).
[33] في (ب): ((فكيف حال من اجتمعت علله)).
[34] في (ج) و(ب): ((تخفق))، في (ت): ((تخلق)).
[35] قوله: ((إلى)) ليس في (ج).
[36] قوله: ((وكرمه)) ليس في (ت).