بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء

          171- قوله صلعم : (اطَّلَعْتُ فِي(1) الجنَّة فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ...(2)) الحديث. [خ¦3241]
          ظاهر الحديث الإخبار بأنَّ أكثر أهل الجنَّة(3) الفقراء، وأنَّ أكثر أهل النَّار النِّساء، والكلام عليه من وجوه:
          منها: الكلام على هؤلاء الفقراء، وهل(4) هم كلُّ مَن هو عديم لا مالَ له؟ أو بشرطٍ زائدٍ على ذلك؟
          ومنها: الكلام في النِّساء أيضًا هل ذلك لعلَّة تُعقَل(5) أو أيَّ نساء كنَّ؟
          ومنها: هل رؤيته ╕ الدَّارَينِ حقيقةً أو هو مِن قَبِيل التَّمثيل؟
          فأمَّا الجواب عن الفقراء: / هل ذلك محمولٌ على كلِّ(6) مَن كان عديمًا مِن المال؟ فليس الحديث على عمومه، بدليل ما جاء عنه ╕(7) في حقِّ وصف الفقراء الذين لهم المزيَّة على الأغنياء، في قوله ╕: «إنَّ الفقراءَ يدخلون الجنَّة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمس مئةِ عام من أعوام الدُّنيا. فقام إليه فقيرٌ فقال: يا رسول الله أنا منهم؟ قال له: ألك ثَوْبان(8) إذا غسلتَ الواحد لبستَ الآخر؟ قال: نعم، قال: لست منهم. فقام ثانٍ، فقال: يا رسول الله أنا منهم، وليس كمن تقدَّم، أي: ليس له إلَّا ثوب واحدٌ، فقال له: ألك غَداء وعَشاء؟ قال: نعم، قال: لستَ منهم، فقام ثالثٌ، فقال: أنا منهم، وليس كمن تقدَّم فقال(9): أَلَكَ بيت تأوي إليه؟ قال: نعم، قال: لستَ منهم. فقام رابع فقال: أنا منهم، وليس كمن تقدَّم قال: تصبح(10) وتمسي وأنت راضٍ عن الله(11)؟ قال: نعم، قال: أنت منهم» أو كما قال ╕، وقد قال(12) صلعم : «ليس الغِنَى بكثرة العَرَض وإنَّما الغِنَى غِنَى النَّفس».
          وكذلك يلزم في الفقير(13) مِن طريق النَّظر إذا كان الفقير لا يقوم بما فُرض عليه فكيف يدخل الجنَّة، وقد قال صلعم : «أوَّل ما يحاسب به العبد الصَّلاة، فإن قبلت منه، نُظر في سائر عمله، وإن لم تقبل منه ألقي في النَّار» أو كما قال ╕(14)، فإذا كانوا(15) فقراء تاركين(16) الصَّلاة فكيف يدخلون الجنَّة حتى يكونوا(17) مِن أكثر أهلها؟ / فدلَّ بهذه الأحاديث أنَّ الحديث ليس على عمومه في جميع الفقراء، وإنَّما يكون معناه: أنَّ المؤمنين الذين يأتون(18) ما(19) أُمروا به أكثرهم(20) فقراء.
          وكذلك جاء أنَّ أوَّل أتباع الرُّسل ╫(21) الفقراء، لأنَّ الأغنياء يمنعهم من الإجابة كثرة(22) حطام الدُّنيا والاشتغال بها، وإن دخلوا في الإسلام(23) قلَّ ما يخلِّصون أنفسهم مِن كثرة ما يترتَّب عليهم مِن الحقوق، إلَّا مَن أيَّده الله تعالى منهم بمعونته(24)، والفقراء أقلُّ مؤونة(25) وأرقُّ أفئدةً، فيحقُّ أنْ يكونوا أكثر أهل الجنَّة.
          وقد روي عن الحسن البصري ☺ أنَّه وقع نار في البصرة، فأخذ مصحفًا له وخرج، وقال لهم(26): يا أهل البصرة فاز المخفِّفون(27)، ما لي في بلدكم غيرُ هذا، يعني مصحفه، يشير لهم إلى هذا المعنى، لأنَّه بقلَّة دنياه نجا مِن نار البصرة بنفسه(28)، وبكلِّ ما معه فكذلك في الدَّار الآخرة.
          وأنتم يا أصحاب الأثقال والحطام كما وَحَلْتُم(29) بأنفسكم، ولا تقدرون على التَّخلص مِن نار البصرة، فكيف بكم في الدَار الآخرة؟ وقد قالت عائشة ♦ لعبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلعم يقول: «إنك تدخل الجنة حَبْوًا»، وكان عبد الرحمن ☺ حيث كان مِن الفضل، إلَّا أنَّه كان أغنى أهل عصره، فكثرة المال توجب(30) كثرة الحساب، وكثرة / الحساب تبطىء بصاحبه عن الجنَّة، وإن كان يتخلص فلمَّا سمع ذلك منها، وكان قد أتته ثمَانون بعيرًا مِن الشَّام بالمتاع، وهي والغلمان الذين كانوا أتوا بها وما كان عليها الكل له، فقال ☺: (هي في سبيل الله بكلِّ ما عليها والذين أتوا بها، لعلِّي أدخلها مشيًا)(31).
          وفيه دليلٌ: على أنَّ أكثر الصَّالحين(32) الفقراء، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (أَكْثَرَ أَهْلِهَا(33) الْفُقَرَاءَ).
          وفيه دليلٌ: على أنَّ الغالب على الأغنياء عدم التَّوفيق، يؤخذ ذلك مِن كونهم قليلين(34) في الجنَّة.
          وفيه دليلٌ: للزَّاهدين الذين رفضوا الدُّنيا لكون(35) حرامها عذابًا وحلالها حسابًا، فلا راحة(36) فيها لصاحبها، يؤخذ ذلك من أن(37) أكثر أهل الجنَّة الفقراء.
          وأمَّا الجواب عن النِّساء وكونهم أكثر أهل النَّار، فقد بيَّن صلعم علَّة ذلك في غير هذا الحديث، بقوله ╕: (يَكْفُرْنَ(38) العَشِيرَ، ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهرَ كلَّه ثمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ).
          وفيه دليلٌ: على أنَّ الأعمال سببٌ لدخول الجنَّة أو النَّار، لأنَّه صلعم قد علَّل كثرة دخول الجنَّة بالفقر، أو النَّار(39) بكُفْر العشير، وقد قال ╡ : (بمَا كَسَبْتُمْ) و{بِمَا أَسْلَفْتُمْ} [الحاقة:24] والآي والأحاديث في ذلك كثير(40)، وفيه بالضمن التَّحريض على حسن / العمل، والنَّهي عن سيِّئه.
          وأمَّا قولنا: هل رآهم حسًّا أو تمثيلًا؟ احتمل الوجهين(41) معًا والقدرة صالحة لهما.
          وفيه دليلٌ: لأهل السنَّة الذين يقولون: بأنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقتان(42) حسَّا موجودتان، يؤخذ ذلك مِن جعله صلعم لكلِّ واحدةٍ منهما أهلًا مِن بني آدم، وبنو آدم محسوسون ولا يستقرون إلَّا في محسوس أيضًا.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ الخير والصَّلاح في الرِّجال أكثر مِن النِّساء، يؤخذ ذلك مِن أنَّ أكثر أهل النَّار النِّساء.
          وهذا الحديث منه صلعم تَسْلِيَةٌ للفقراء حتى يطيب لهم حالهم، فإنَّه إذا كانت تلك الدَّار المباركة هم(43) أكثر أهلها ارتاحت نفوسهم لذلك(44)، فما أرفقه ╕ بأمَّته وأكثر إيناسه لهم، فجزاه الله عنا خير جزاء بمنِّه.


[1] في (ج): ((على)).
[2] في (م): ((الفقر)).
[3] زاد في (م): ((فرأيت)).
[4] في (ج): ((هل)).
[5] في (ج): ((يفعل)).
[6] قوله: ((كل)) ليس في (م).
[7] في (ج): ((صلعم)).
[8] في (ط): ((ثوبًا)). في (ج): ((ثوابان)) والمثبت من (م).
[9] في (ج): ((قال)).
[10] في (ج): ((أتصبح)) وفي (م): ((لتصبح)).
[11] في (م): ((عن الله راض)) بتقديم وتأخير.
[12] في (ج): ((وقال)).
[13] في (ج) و (م): ((الفقر)).
[14] في (ج): ((صلعم)).
[15] في (م): ((كان)).
[16] في (ج): ((فإذا كان تاركين)).
[17] زاد في (ج): ((فقراء)).
[18] صورتها في (ط): ((يؤتون)) والمثبت من (ج).
[19] في (م): ((بما)).
[20] في (ج): ((أنهم)).
[21] زاد في (ج): ((هم)).
[22] في (ج): ((منعهم من كثرة)).
[23] في (ج): ((الإعلام)).
[24] في (ج): ((أيدهم الله بمعرفته)).
[25] في (ج) و (م): ((مؤنة)).
[26] قوله: ((لهم)) ليس في (ج).
[27] في (ج): ((المخفون)).
[28] في (م): ((نفسه)).
[29] زاد في (م): ((هنا)).
[30] في (ج): ((يوجب)).
[31] في (م): ((مثبتا)).
[32] زاد في (ج): ((هم)).
[33] في (م): ((أهلك)).
[34] في النسخ: ((قليلون)) والمثبت هو الصواب وهو مطابق للمطبوع.
[35] في (ج): ((يكون)).
[36] في (ج) تحتمل: ((زاخر)).
[37] قوله: ((أن)) ليس في النسخ، وإثباتها هو الصواب والله أعلم، وهو موافق للمطبوع.
[38] في (م): ((ويكفرن)).
[39] في (م): ((والنار)).
[40] في (م): ((كثيرة)).
[41] قوله: ((احتمل الوجهين)) مكرر في (ج).
[42] في (ج): ((مخلوقان)).
[43] قوله: ((هم)) ليس في (ج).
[44] قوله: ((ارتاحت نفوسهم لذلك)) ليس في (م).