بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث عائشة: عذاب يبعثه الله على من يشاء وأن الله جعله

          192- قولها: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي أنَّهُ(1) عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ...) الحديث. [خ¦3474]
          ظاهر الحديث يدلُّ على ثلاثة أحكام:
          الواحد: أنَّ الطاعون عذاب يصيب الله به مَن يشاء(2).
          والآخر(3): أنه رحمة للمؤمنين(4) وإن كان في نفسه بلاء، لكن بما يترتَّب عليه للمؤمن مِن الرحمة إذا أرسل عليه عاد الأمر رحمةً، لأنَّ الحكم للعاقبة ولذلك، «إذا كان يوم القيامة يُؤتى بأكثر الناس بلاء في الدنيا فيُغْمَس في النعيم غمسةً، فيُقال له: هل رأيت(5) بؤسًا قط؟ فيقول: لم أرَ بؤسًا قط(6)» ولذلك لَمَّا نظر أهل العقول والسلوك إلى عواقب الأمور هانت عليهم أنفسهم وحَلَا لَهُم ما حملوه مِن التَّعب والمجاهدات، عرفوا فصبروا فربحوا هَنَّاهُم مَن أعطاهم، وألحق في الخير العاجزَ مِنَّا / بأخراهم،(7) وحباه وأدناه لا ربَّ سواه.
          والوجه الثَّالث: الإخبار بأنَّه ليس مِن أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا يعلم أنَّه لا يصيبه إلا ما كتب الله له(8) إلا كان له مثل أجر شهيد، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أنْ يقال: ما معنى قوله: (صَابِرًا مُحْتَسِبًا(9))؟ فمعناه أنْ يوطِّن نفسه على الصبر على ذلك البلاء إنْ لحقه منه شيء.
          ومعناه(10) (مُحْتَسِبًا): يحتسب(11) نفسه على الله تعالى، ومع ذلك موقنًا بأنَّه لا يصيبهُ مِن ذلك إلا ما كُتِب عليه وإن(12) كان لم يكتب عليه منه شيء فلا يصيبه منه شيء.
          ويترتَّب على ذلك(13) مِن الفقه وجوه:
          منها: أنَّ الأسباب وإن ظهر لها تأثير أنَّها لا تضرُّ ولا تنفع إلا بحسب ما سبق في علم الله تعالى مِن نفي أو إثبات(14).
          ومنها: العلم بأنَّ كل(15) كائنة تقع في الوجود مِن خير أو شرٍّ، دَقَّتْ أو جَلَّتْ، عَمَّت أو خَصَّت، أنَّها في كتاب مسطور، ومما يقوِّيه قوله ╡ : {مَا أَصَابَ(16) مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] فتكون فائدة ذلك قوة الإيمان، وهو أعلى المراتب وعدم الفزع من الحوادث فإنه لا يندفع به ما يلحقه منه.
          ومنها:(17) الصبر على ذلك وهو مأجور عليه، لقوله تعالى: {إنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
          ومنها: ما يحصل له(18) مِن الثناء الجميل(19) عليه، وربما يهون عليه الأمر أكثر ما يكون / على غيره.
          وفيه(20) بحث، وهو أنْ يُقال: لِمَ قال في هذا الحديث: (إنَّه بلاء يرسله الله على مَن يشاء)؟ وقال في الذي قبله: «إنَّه أُرْسِل على مَن كان قبلكم»؟
          فالجواب: أنَّ فائدة الحديث الذي قبله(21) فيه معنى التسلِّي(22) والتأنيس، لأنَّه بإخباره ╕ أنَّه أُرسل على مَن كان قبلُ ذهب مِن القلوب خوف عظيم، وهو أنْ يكونوا هم قد خُصُّوا بهذا البلاء العظيم، فيكونون يخافون أنَّهم(23) ممَّن غضب عليهم، ولعلَّهُ يؤول إلى الخسارة الدائمة، فلمَّا عَلِموا أنَّهم لم(24) يكونوا مخصوصين به، وقد تقدَّم لغيرهم ذهب ذلك الخوف العظيم. وبقي مِن جملة بلايا الدنيا يصيب به مَن يشاء، وهذا الحديث الذي نحن بسبيله فيه وجوهٌ مِن البشارة:
          أَوّلُها: أنَّه مَن أصابه منه شيء مِن هذه الأمَّة فهو رحمة له، فيهون عليه ما يحمل(25) منه لِمَا يرجو(26) فيه مِن رحمة الله تعالى، ولذلك ذُكِر عن سعد ☺ أنَّه مات بالطاعون فكان إذا اشتدَّ الأمر عليه يُغمى عليه فإذا أفاق، يقول(27): اللهُمَّ اشدد عليَّ خنقك فإنَّك تعلم أنَّ قلبي يحبُّك، هكذا حتى قضى ☼.
          والوجه الثَّاني: الإعلام بتفضيل هذه الأمَّة على مَن تقدَّمها، يؤخذ ذلك مِن أنَّ الطاعون كان لمن قبلهم بلاء وهو لهم رحمة.
          ووجه ثالث: وهو أنَّ الذي يصيبه الله به(28) مِن هذه الأمَّة ليس مِن أجل ذنب وقع منه يؤخذ ذلك / مِن قوله تعالى: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [يونس:107] لا عن شيء يوجب إرساله عليه بل بتخصيص(29) المخصص له بذلك، فيدخل به في قوله صلعم : «إنَّ مِن أمَّتي لمن(30) يُسَاق إلى الجنَّةِ بالسَّلَاسلِ(31)» وهم أهل المصائب في الدنيا، مَنَّ الله علينا(32) بدار كرامته بلا محنة بفضله.
          وفيه إرشاد إلى التأدُّب مع القدرة وهو أنْ لا يتحكم عليها بتفضيل العباد عندها مِن أجل ما يرى عليهم مِن النعمة، ولا لتحقير(33) العباد عندها بما يرى عليهم مِن النِّقمة(34)، يؤخذ ذلك مِن جعل هذا البلاء العظيم رحمة فمِن باب أَوْلى ما هو أقلُّ منه(35)، وقد أثنى الله ╡ على أهل البلاء وعلى أهل النَّعماء إذا وفى كل واحد منهما(36) ما أمر به، فقال في أهل البلاء: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] وقال ╡ في أهل النَّعماء: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ(37)} [إبراهيم:7]، وقال:(38) {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وذمَّ ╡ مَن(39) رجَّح الحال(40) الحسنة عنده مِن أجل إظهار(41) نعمائه وذم ضدها(42) بقوله تعالى: {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(43)}[الفجر:15]، {فَيَقُولُ(44) رَبِّي أَهَانَنِ(45)} [الفجر:16].
          وفيه دليل: على أنَّ كثرة الأجور في الأعمال إنَّما هي بقدر قوة اليقين والإيمان يؤخذ ذلك مِن أنَّه ╕ أوَّل الحديث جعله رحمة ثمَّ قال في آخره: (صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ) / فالزيادة التي بين الدرجتين إنَّما هي مِن أجل قوة الإيمان الذي وصل به إلى أنَّه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، يشهد لذلك قوله ╕: «ما فَضَلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وَقَر في صدره».
          وهنا بحث وهو أنْ يُقال: لِمَ قال: (مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ) ولم يقل: له شهادة؟
          فإنَّ الشهادة ما عَظُم(46) قدرها إلا مِن أجل ما نال صاحبُها مِن الأجر، أو الشهادة أمر آخر زائد على الأجر(47) ؟ فظاهر الأمر(48) أنَّ الشهادة شيئان: كثرة الأجر وأمور أخر زوائد(49)، منها(50): أنَّهم لا يحاسبون وإنَّما يقومون مِن قبورهم إلى قصورهم، ومنها أنَّهم يشفعون في غيرهم، وأشياء مِن أنواع الإكرام عديدة، وقد جاء أنَّ الطاعون شهادة إلا أنَّه إذا وقع بشخص وهو على الحالة المتقدم ذكرها مِن الصبر والاحتساب، فيكون الجمع بينهما بأنَّه مَن صَبَر واحتَسَب ولم يصبه(51) منه شيء كان له مثل(52) أجر شهيد، فإن أصابه منه شيء وهو صابر محتسب(53) كان شهيدًا(54) والله أعلم. كما جاء أنه مَن طلبَ الشهادة مِن الله تعالى صادقًا ولم يُقضَ له بها أنَّه يكون له أجر شهيد، فليس وقوع الحال كتمنِّيه، بينهما درجة.
          وهنا بحث وهو: أنْ يقال في قوله: (لَهُ(55) مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ): هل ذلك تفضُّلٌ مِن المولى سبحانه وتعالى على العبيد لا يعقل له معنى من الحكمة؟ أو بينهما مناسبة مِن جهة الحكمة؟
          أمَّا النسبة التي بينهما مِن أجل الحكمة، فظاهرة وهي(56) أنَّ الذي يخرج للجهاد إنَّما فعل فعلًا شأنه إذهاب(57) النفوس، والسلامة فيه إنَّما هي بالقدرة التي لا يغلبها غالب، وهو(58) يخرج لذلك / الأمر صابرًا محتسبًا موقنًا أنَّهُ لا يصيبه إلا ما كتب الله عليه(59)، فأشبه الذي يجلس(60) في بلده بعد وقوع الطاعون محتسبًا يعلم(61) أنَّه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، فإنَّ الطاعون أمر معه الموت لمن أصابه لا محالة، ولا يُنَجَّى منه إلا بالقدرة التي ليس لها مثال، فالشبه(62) واقع والأجر في الوجهين جميعًا بمجرد(63) الفضل لكن لا تنظر حكمة الحكيم الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] إلا بعد وقوع الفعل وإثبات الحكم فيه منه وإلاَّ القياس هناك ممنوع(64).
          وهنا دليل: على أنَّ(65) الحقَّ في الأمور الطريق الوسط حال بين حالين وأصله التأدُّب وعدم الاعتراض، يؤخذ ذلك ممَّا تقدم في هذا الحديث وغيره، فتارة يُؤمر بالنظر والتدبُّر(66) وحمل الأمور على ما جرت به العادة غالبًا، وتارة يؤمر بالتسليم وعدم الالتفات إلى شيء مِن الأشياء إلا مجرد التسليم وعبودية محضة، فالذين أرادوا أنْ يحملوا الأمر(67) على طريق واحد، ويتسلَّطوا(68) بعقولهم عليها في غاية الحمق والجهل، لأنَّ مَن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] كذلك حكمته ليس مثلها(69) حكمة حكيم، ولا نسبة بينهما لكن الشأن ما أخذ به أهل السُّنَّة وهو الوقوف مع الأمر والنهي على ما هو بلا اعتراض(70) ولا زيادة ولا نقص، وهو الذي يعطيه طريق العقل لمن حققه، جعلنا الله منهم بلا محنة بمنِّه وكرمه(71).


[1] قولها: ((أنه)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[2] قوله: ((يشاء)): ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] قوله: ((والآخر)) ليس في (ج).
[4] في (ج): ((أنه للمؤمنين رحمة)).
[5] في (ج): ((رأينا)).
[6] قوله: ((فيقول لم أر بؤسا قط)) ليس في (ج).
[7] في (م): ((منها بأخراهم))، وفي (المطبوع): ((ألحق في الخير العاجل مُناهم)).
[8] في (م): ((إلا ما كتب له)).
[9] قوله: ((محتسبا)) ليس في (ج) و (م).
[10] في (ج): ((وكناه)).
[11] في (م): ((يحسب)).
[12] في (م): ((فإن)).
[13] في (ج): ((هذا)).
[14] في (ط): ((من إثبات)) وفي (م): ((من تغير أو إثبات)) والمثبت من (ج).
[15] في (ج): ((العلم بكل)).
[16] في (ج): ((صاب)).
[17] في (م): ((لا يندفع به ما منه يلحقه ومنها)).
[18] زاد في (ج) و (م): ((له)). كالاصل.
[19] قوله: ((الجميل)) ليس في (ج).
[20] في (ج): ((ومنه)).
[21] في (ج) و (م): ((قبل)).
[22] في (ج): ((للمتسلي)).
[23] في (ج): ((يحافظون بأنهم)).
[24] قوله: ((لم)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] في (ج) و (م): ((يحمل)). كالاصل.
[26] في (م): ((يرجوا)).
[27] في (ج): ((فاق قال)).
[28] قوله: ((به)) ليس في (ج).
[29] في (م): ((بتخصص)).
[30] في (الملف): ((من)).
[31] في (ج) و (م): ((بالسلاسل)).
[32] زاد في (ج): ((في الدنيا)).
[33] في (ج): ((بتحقير)).
[34] في (ج): ((من النعمة)).
[35] في (ج) صورتها: ((لمنا)).
[36] في (ج): ((منها)).
[37] زاد في (ج): ((ولئن كفرتم)).
[38] قوله: ((قال)): ليس في (ج).
[39] قوله: ((من)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[40] في (ج) و (م): ((الحال)). كالاصل.
[41] في (ج): ((إظهاره)).
[42] في (ج): ((ضده)).
[43] في (م): ((أكرمني)).
[44] في (ج) و (م): ((ويقول)).
[45] في (م): ((أهانني)).
[46] في (ج): ((فأعظم))، وفي (المطبوع): ((ما أعظمَ)).
[47] في (م): ((الآخر)).
[48] في (ج): ((الأمور)).
[49] في (ج): ((وأمرا آخر زائد على ذلك)).
[50] في (م): ((وأمور أخر زوائد منها على ذلك)).
[51] في (ج): ((يصيبه)).
[52] قوله: ((مثل)) ليس في (ج).
[53] قوله: ((محتسب)) ليس في (ج).
[54] في (ج): ((شهيد)).
[55] قوله: ((له)) ليس في (ج) و (م).
[56] في (م): ((وهو)).
[57] في (ج): ((ذهاب)).
[58] في (ج): ((ولا)).
[59] في (ج): ((ما كتب عليه)).
[60] في (ج): ((يحبس)).
[61] في (ج): ((موقنا)).
[62] في (م): ((فالتشبيه)).
[63] في (م): ((لمجرد)).
[64] العبارة في (م): ((وقوع الفعل وإلا القياس هناك وإثبات الحكم فيه منه ممنوع)).
[65] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[66] في (ج): ((والتدبير)).
[67] في (ج) و (م): ((الأمور)).
[68] في (ج): ((يتسلطوا)).
[69] زاد في (م): ((شيء ولا)).
[70] في (ج): ((هو الاعتراض)).
[71] قوله: ((وكرمه)) ليس في (ج) وفي (م): ((بمنه ويمنه وكرمه)).