بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء

          232-قوله: (لَعَنَ النَّبِيُّ صلعم المُتَشَبِّهِينَ / مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ...) الحديث. [خ¦5885]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ الدُّعاء منه صلعم باللَّعنة على مَن تشبَّه مِن الرِّجال بالنساء، وعلى مَن تشبَّه مِن النِّساء بالرجال.
          والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أن يقال: ما معنى اللَّعنة؟ وهل هذا التشبيه مطلقًا في كلِّ الوجوه، أو على(1) شيء مخصوص؟ وهل هذا الدُّعاء مِن النوع الذي هو مخوف أو ضده؟ وهل هذه اللَّعنة لحكمة نعلمها أو تعبُّد ليس إلا؟ وهل الواقع في هذا تكون التوبة ترفع عنه ما لحقه مِن ذلك أو لا؟.
          أمَّا قولنا: ما معناها؟ فإنَّ اللعنة في اللغة هي البُعد، قال الله ╡ في كتابه: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44]، أي: أنَّ الله أبعدهم، فمَن أبعدَه الله تعالى فهو أخسر النَّاس، فإنَّ لعنة الله لا غاية لها أعاذنا الله مِن ذلك بحرمة نبيه صلعم، فهذا في(2) الزَّجر والنهي أكبر مِن الحدود التي جعلت في المعاصي، لأنَّ تلك الحدود كَفَّارة لهم لِمَا وقعوا فيه، وهذا البعد لم يجعل لصاحبه مخرج(3) على لسان الشَّارع ◙ ، وقد وقع مِن كثير مِن النَّاس التهاون بذلك، وقعوا(4) فيه ولا يُحِسُّونَهُ(5) شيئًا، نعوذ بالله مِن الحرمان.
          وأمَّا قولنا: هل هو مطلق مِن كل الوجوه أو هو مِن وجهٍ ما؟ أمَّا ظاهر اللفظ فمحتمل وأمَّا الذي قد تقرر ممَّا فهم مِن قواعد الشريعة خلَفًا عن سلَف فهو في زِيِّ اللباس وبعض الصفات والحركات، وما أشبه ذلك.
          وأمَّا التشبُّه(6) بهم في وجوه الخير(7) / وطلب العلوم والسلوك في درجات التوفيق، فمرغَّب فيه وقد عاد اليوم عند بعض النَّاس، وإن كانوا مِن الذين يشار إليهم الأمر بالعكس، فإنَّهم يمنعون النسوة مِن التَّعَلُّمِ(8)، ويرونه مِن باب المذموم لهنَّ ويتشبه النِّساء بالرجال في زيِّهم(9) ويرونه مِن قبيل النُّبل والكَيْس، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون على الخلل الذي وقع في الدِّين بوضع الأمور على(10) ضدِّ ما وضعها الشَّارع ◙ وكثرة التهاون بذلك.
          وأمَّا قولنا: هذا الدُّعاء ممَّا هو مخوف أو ضدُّه وهو المرجو خيره(11)، لقوله صلعم : «إنِّي عهدتُ عند ربي عهدًا أيُّما بَشَرٍ لعنته من أمَّتي أو سببتُه أن يجعلها عليه رحمة» أو كما قال ◙ .
          اعلم وفقنا الله وإيَّاك أنَّ دعاءَه صلعم على أحدٍ من أمَّته أو سبَّه إياه أو لعْنتَه له على ضربين: (منها) ما هو على طريق الزجر أو النهي(12) عن شيء في الدين، أو ما هو في معناهما. فإنَّ ذلك مِن النَّوع المَخُوف(13) مِن لحوق الوبال مِن أجله. فإنَّ المنع بذلك أشدُّ مِن الحدود كما بيَّنا أوَّل الكلام(14). وما كان مِن ذلك على وجه الغيظ والحرج(15) فذلك الذي ظاهره مخوف وهو رحمة في الحقيقة.
          وقد نصَّ صلعم على ذلك، لأنَّه أخبر أن قال: «يا ربِّ إني بَشَر يَلحَقني ما يَلحَق البشرَ مِن الغضب، فأيُّما أحدٍ مِن أمَّتي سَبَبتُه أو لعنته فاجعله له رحمة(16)».
          وهذا الدُّعاء هنا هو مِن قبيل الزَّجر والرَّدع، فهو / مخوف وأيُّ مخوف.
          وأمَّا الجواب: هل هذا الزجر لحكمة نعلمُها أو تعبُّد؟ فالحكمة في ذلك ظاهرة لا خفاء بها، وهي إخراج الشيء عن الصفة التي وضعتها عليه حكمة الحكيم، كما قال ◙ «لعن الله الواشِمَةَ والمستوشِمَة والواصِلَة والمستوصِلة» وعُلِّل هذا بتغيير خَلْق الله تعالى، فهناك تُغَيَّرُ خِلقةٌ وهنا تُغَيَّرُ صفةٌ فالعِلَّة واحدة، لأنْ تينك الطريقتين(17) المذمومتين تضمنتا وجوهًا مِن وجوه الضلالات: منها إخراج صفته(18) بجهله عن ما رتبه مَن له الأمر سبحانه.
          ومنها: التشبُّه بصفة الخلق والاختراع، لأنَّ الله ╡ قد خلق أشياء وجعل لها صورًا وصفات، فمَن غيَّر منها صورةً أو صِفَةً على خلاف ما وُضِعَت عليه فقد نازع الجليلَ القدرةَ في قدرته واختراعه.
          وفيه أيضًا إظهارُ سوء الأدب حقيقة، لأنَّ أدب العبودية موافقة للموالية(19) في كلِّ الأشياء التي(20) شاءتها على أي نوع شاءتها، وأشياءُ مِن هذا النوع عديدة إذا تأملتها وفيما ذكرنا منها كفاية.
          وأما قولنا: هل التوبة للواقع في شيء مِن ذلك رافعة لِمَا قد لحقه مِن الوعيد أو لا؟ فإنْ جعلناه مِن جملة المعاصي ليس إلَّا، فيدخل تحتَ قوله صلعم : «التوبةُ تَجُبُّ ما قبلَها» وإنْ قلنا: إنَّ دعاءه ◙ يَلحَقُ الواقعَ(21) في ذلك الذَّنب أمرٌ زايد مِن الخسارة والحرمان، لأنَّ دعاءه ◙ مستجاب، فبقي الأمر محتملًا أنْ يذهب ذلك بالتوبة كما يذهب الذنب، / أو ذلك أمر قد وقع(22) بالشخص لا يرتفع عنه ذلك الحرمان، وإن تاب(23) الأمر محتمل، وليس لنا دليل قطعيٌّ على أحد الوجهين.
          ويترتَّب على هذا مِن الفقه أنَّ الوقوع في الكبائر التي لها حدود وعقاب معلوم خير مِن الوقوع في هذه وأمثالها. أعاذنا الله مِن الجميع بفضله، لأنَّ التوبة والحدود(24) في تلك أيَّهما جاء بعدها كان كفارة لها، وهذه محتملة أن يكون لها مخرج أولا مخرج لفاعلها، فالهربَ الهربَ إن كنتَ حازمًا، والعفافَ العفافَ تكن ناجيًا.


[1] في (م): ((في)).
[2] في (م): ((من)).
[3] في (ج): ((مخروج)) والمثبت من (م).
[4] في (م): ((ووقعوا)).
[5] في (ج): ((ولا تحسبوه)) والمثبت من (م).
[6] في (م): ((التشبيه)).
[7] في (ج): ((بهم في وجوه الأول: الخير)) والمثبت من (م).
[8] في (م): ((من تعلم العلم)).
[9] قوله: ((ويرونه من باب المذموم لهنَّ ويتشبه النّساء بالرجال في زيهم)) ليس في (م).
[10] زاد في (م): ((ضدها و)).
[11] في (ج): ((أخبره)) والمثبت من (م).
[12] في (م): ((والنهي)).
[13] في (م): ((المخيف)).
[14] في (م): ((كما يتناول الكلام)).
[15] في (ج): ((والحرمة)) والمثبت من (م).
[16] قوله: ((رحمة)) ليس في (م).
[17] في (ج): ((تمليك الطرفين)) والمثبت من (م).
[18] في (م): ((صفة)).
[19] في (م): ((العبودية الموالية)).
[20] قوله: ((التي)) ليس في النسخ، ولعل المثبت هو الصواب.
[21] في (م): ((للواقع)).
[22] قوله: ((وقع)) ليس في (ج) والمثبت من (م).
[23] في (م): ((باب)).
[24] في (م): ((أو الحدود)).