بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: الأيمنون الأيمنون ألا فيمنوا

          109- قوله: (أَتَانَا رَسُولُ اللهِ / صلعم فِي دَارِنَا هَذِهِ...) الحديث(1). [خ¦2571]
          ظاهره يدلُّ على ثلاثة(2) أحكام:
          أحدها: جواز طلب الماء بين الأصحاب، وليس مِن باب المكروه.
          والآخر: أنَّ السُّنَّة في إعطاء المشروبات أن يكون يبدأ بها بالذي(3) على يمين العاطي(4) وإن كان الذي على الشمال أو أمام أفضل منه.
          والثَّالث: جواز خلط اللبن بالماء عند الشُّرب.
          والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ طالب الماء هو(5) أولى به أولًا، وقد جاء هذا منه ◙ نصًّا يقول: «طالبُ(6) الماءِ أولى به»، ويؤخذ منه عرض(7) الذي اشتهيت لنفسك أو طلبته مِن المشروبات، بعد أخذك أنت(8)، حاجتك منه على أصحابك، وإن لم يطلبوه بعدُ، يؤخذ ذلك مِن كون سيدنا صلعم أعطى لأصحابه بعدما أخذ هو(9) ◙ منه حاجته وهو الذي طلب الماء وحده.
          وفيه دليلٌ على تنبيه المفضول للأفضل على ما هو(10) عنده أرفع، وإن لم يكن أصاب في ذلك، ولا يجب عليه في ذلك تعنيت؛ لأنَّه(11) ما قصد إلَّا خيرًا، وللفاضل أن ينظر ذلك، فإن أصاب وإلَّا علَّمه برفقٍ وتواضعٍ دون تخجيل، يؤخذ ذلك مِن قول عمر ☺: (هَذَا أَبُو بَكْرٍ) يُنَبِّهُ النبيَّ صلعم أن يقدِّم أبا بكر على نفسه وعلى الأعرابيِّ؛ لأنَّ ذلك أعطى عمر اجتهاده(12) لِمَا يعلم من مكانة أبي بكر ☺ عند رسول الله(13) صلعم، ويرفع الخجل عنه في حقِّ الأعْرابيِّ؛ لأنَّه إذا كان هو(14) / يقدِّمه على نفسه، لم يكن يقع للأعرابيِّ في نفسه شيءٌ، بتقديم(15) أبي بكر عليه، ولم يكن له علمٌ بما في غيب الله ╡ مِن حكم السُّنَّة في ذلك أنَّه بخلاف ما ظهر له(16)، فلم يعنفه(17) رسول الله صلعم، وأبدى له حكم السُّنَّة في ذلك، وكرَّره ثلاثًا على المعلوم، مِن عادته ◙ في تكرار الأمر ثلاثًا إذا كان له بال.
          ويترتب عليه مِن الفقه أن يكون مثال هذا(18) الذي يجتهد في حكم بوجه ما مِن الشَّرع، ولم يكن يعلم غير ذلك، ويكون الأمر بخلاف ذلك بدليل لا يعرفه هو، فيكون(19) في خطئه في الحكم له(20) أجر كما جاء: «مَنِ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَهُ(21) أَجْرٌ».
          وفيه دليلٌ على أنَّ مِن الأدب أن لا يُكلَّم شاربُ الماء حتَّى يفرغ، ويؤخذ(22) ذلك مِن أنَّ عمر ☺ لم يكلِّم النَّبي صلعم إلَّا بعد فراغه مِن الشُّرب بخلاف الطَّعام، لأنَّه(23) قد جاء أنَّ مِن السُّنَّة(24) الكلام على الطَّعام.
          وفيه دليلٌ أنَّ مِن المروءة أنَّ عاطي(25) الشَّراب ينبغي له أن يعطي أكثر مما يحتاج إليه الطَّالب، يؤخذ ذلك مِن أنَّه ◙ أعطى فضلَه، فلولا ما كان أكثر ما كان يقول (أعطى فضله)، ولو كان الماء قليلًا وشرب هو(26) صلعم وفضل ما أعطى أصحابه لكانوا يذكرون قلَّة الماء، ويجعلونها مِن جملة المعجزات، كما فعلوا في المواضع التي جرى / فيها ذلك. وقد جاء أنَّ مِن الممدوح في عاطي(27) الماء مثل ما ذكرنا، كن الآن لا أحقق هل ذلك أثَرٌ أو هو مِن(28) مكارم الأخلاق فيما بين النَّاس، لأنَّه أرفعُ للخجل وأبلغُ في المعروف؟
          وفيه دليل على أنَّ التَّعليم بالفعل أرفع(29)، وأنَّ القول تأكيدٌ له، يؤخذ ذلك مِن أنَّه صلعم بدأ أوَّلًا بالفعل الذي هو الإعطاء، وكان كلامه ◙ يُعدُّ(30) جوابًا لِمَا قيل له، وتأكيدًا لكونه كرَّره ثلاثًا، ولذلك قال الرَّاوي: (فهي سُنَّة) ثلاثًا.
          وهنا بحث، وهو: لِمَ أتى في الآخرة(31) بالفاء في قوله: (أَلَا فَيَمِّنُوا(32)
          فالجواب: أنَّ قوله (أَلَا يَمِّنُوا، أَلَا يَمِّنُوا(33)) يعني: أعطوا(34) أصحاب اليمين أولًا، ثمَّ الثَّالث بتلك الزِّيادة، كأنَّه ◙ يقول: ألا فَيَمِّنُوا في شأنكم كلِّه ليس ذلك في الماء وحده، وقد زادت عائشة ♦ في ذلك بيانًا، حيث قالت: «كانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُحِبُّ التَّيمنَ مَا اسْتَطَاعَ في شَأْنِهِ كُلِّهِ» وقد استوعبنا عليه الكلام(35)في موضعه.
          وفيه دليلٌ على أنَّ ما يخصُّ الشَّخص في نفسه آكد عليه مِن غيره، يؤخذ ذلك مِن أنَّ فضل أبي بكر ☺ لا خلاف فيه أنه أفضل الصَّحابة رضوان الله عليهم(36)، فما بالك بالعرب(37)؟ وأنَّ الأيمنَ في الجوارح أفضلُ مِن غيره، فآثر(38) النبيُّ صلعم فضل الجوارح / الذي هو الأيمن منه(39) ◙ على فضل الغير وهو أبو بكر ☺، وأكَّدها(40) كما ذكرنا آنفًا، ومِن هذه النسبة إن قدَّموا قرابة الشخص في المعروف على غيرهم لأن جُعِل له في الصدقة عليهم(41) إذا كانت تطوعًا أكثرُ أجرًا مِن الأجانب، فتجد(42) الحكمة أبدًا في الشرع متناسبة إذا تأملت: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
          وهنا بحث وهو أن يقال(43): ما الحكمة بأن عيَّنَ الراوي الدار والبئر؟ ففيه(44) مِن الفائدة وجوه:
          منها(45): دلالة ذلك على فضله صلعم وتواضعه؛ لأنَّ الراوي أنس وهو خُدَيمه ◙ ، فمشيه ◙ إلى دار خُدَيمه فضلٌ منه صلعم وتواضعٌ، وكونه أخبر بدخوله الدار ليُعلم فضلُها؛ لأنَّهم كانوا يتبركون بالمواضع حيث يدخل وكل ما يكون من الأشياء التي يتَّصل منه صلعم بها شيء ما مثل(46) ما قال أحد الصحابة: (يا رسولَ الله، صَلِّ في بيتي مَكَانًا أتَّخِذْهُ مُصلًّى)، وكذلك البئر مِن أجل أن يبقى ذلك البئر وتلك(47) الدار يتبركون بهما(48).
          ويترتب عليه مِن الفقه حسن طريقة المباركين الآخذين بطريق(49) السلوك؛ لأنهم يتبركون بأيِّ شيء يجدون مِن أثر(50) المباركين، ويجدون لذلك بركة كثيرة منهم(51) في ذلك على طريق السلف، نفع الله بجميعهم بمنِّه(52).


[1] قوله: ((قوله: أتانا رسول الله (في دارنا هذه...الحديث)) بياض في (م).
[2] قوله: ((ثلاثة)) ليس في (م).
[3] في (ج): ((في الذي)).
[4] في (ج) و(م): ((الشارب)).
[5] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و(م).
[6] في (ل): ((بقوله طالب))، وقوله: ((هذا منه ◙ نصَّاً يقول: طالبُ)) ليس في (ج)، وفي (م): ((وقد جاء: طالب)).
[7] في (ط) و(ل): ((إعراض)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (ج): ((عرض ما اشتهته نفسك أو طلبت من الماء وأخذك))، وفي (م): ((عرض ما اشتهت نفسك أو طلبته من الماء)).
[9] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و(م).
[10] زاد في (م): ((دونه)).
[11] في (م): ((إلا)).
[12] قوله: ((لأنَّ ذلك أعطى عمر اجتهاد)) ليس في (ج) و(م).
[13] في (م): ((النبي)).
[14] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و(م).
[15] في (ط): ((لم يكن شر للأعرابي نفس بتقديم))، و في (ل): ((لم تكن تتر للأعرابي نفس بتقديم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] زاد في (ل): ((هو)).
[17] في (ط) و (ل): ((يعتبه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] قوله: ((يكون مثال هذا)) ليس في (ج) و(م).
[19] في (ج) و(م): ((فله)).
[20] قوله: ((في الحكم له)) ليس في (ج) و(م).
[21] في (ج) و (ل): ((فله))، وفي (م): ((فإن أخطأ فله)).
[22] في (م) و (ل): ((يؤخذ)) بدون الواو.
[23] في (م): ((لأن)).
[24] العبارة في (ل): ((لأنه جاء من السنة)). وقوله: ((قد جاء أن)) ليس في (ج) و(م).
[25] في (ج): ((على أن مطعين))، وفي (م): ((على أن من المروءة أن يعطي)).
[26] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و(م).
[27] في (ج) و(م): ((معطي)).
[28] في (ج): ((في)).
[29] قوله: ((أرفع)) ليس في (ج).
[30] في (ج) و (ل): ((بعد)).
[31] في (ج): ((بالآخرة)).
[32] في (ل): ((فيمنون)).
[33] في (م): ((الأيْمَنُون الأَيْمَنُون)).
[34] العبارة في (ل): ((أن قوله الأيمنون فيمنون يعني أعطوا)).
[35] في (ج) و(م): ((الكلام عليه)).
[36] في (م): ((عنهم)) وفي (ل): ((♥)).
[37] في (ج) و(م): ((بالغير)).
[38] في (ل): ((وآثر)).
[39] في (م): ((منه الأيمن)).
[40] في (ل): ((ووكدها)).
[41] قوله: ((عليهم)) ليس في (ل).
[42] في (ل): ((فنجد)).
[43] قوله: ((أن يقال)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[44] في (ج) و(م): ((فيه)).
[45] في (ل): ((وفيه)).
[46] في (م): ((التي صل منه صلعم فيها شيء مثل)).
[47] قوله: ((البئر وتلك)) ليس في (ج).
[48] في (ط) و (ل): ((يتبركوا بها))، وفي (م): ((يتبركون فيها)). والمثبت من (ج).
[49] في (ل): ((بطريقة)).
[50] في (م): ((يجدونه من طريق)).
[51] في (ج): ((كبيرة فيهم))، وفي (م) و (ل): ((كبيرة فهم)).
[52] زاد في (م): ((آمين)).