بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إذا أنزل الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم

          288- قوله صلعم : (إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا...) الحديثَ(1)(2). [خ¦7108]
          ظاهر الحديثُ يدلُّ على أنَّ العَذاب إذا أُرسل على قوم عمَّ(3) الجميع، ويُبعثون في الآخرة عَلى قَدْر أعمالهم، وَعليها يجازون. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: ما معنى (قَوْم)؟ هَل يكونون مؤمنين أو غير مؤمنين؟ ومَا معنى (مَنْ كَانَ فِيهِمْ)؟ وما الحكمة بأنْ يُؤخذ القوم ومَن فيهم في(4) هذه الدَّار على حدٍّ سواء، ثمَّ عند البعث تقع التَّفرقةُ بينهم بحسب الأعمال؟ هل هذا تعبُّد أو لحكمة تُعلم(5)، فيُتحرَّز مِن هذا الأمر العظيم؟.
          أمَّا قولنا: مَا معنى (قَوْم)؟ هل يكونون مؤمنين أو غير مؤمنين؟ أمَّا المؤمنون حقيقةً فلا(6) يُرسل الله عليهم عذاباً(7)، بلْ بهم يدفع الله العذاب، كما جاءت في ذلك الآثار وَالآي تبيِّن ذلك، أمَّا الآي فقوله تعالى(8): {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] وأمَّا الآثارُ فمثل قوله صلعم : / «إنَّ اللهَ يحفَظُ الرَّجُلَ الصَّالح في أهلِهِ ودُوَيراتٍ مِن جِيرانِهِ» أو كما قال ◙ .
          فقوله صلعم يعمُّ هنا على الكفَّار(9) والعُصَاة، وغيرهم ممَّن هم على ما يشبه حال هؤلاء(10) الَّذين يرسَل عليهم العذاب.
          وأمَّا قولنا: ما معنى (مَنْ كَانَ فِيهِمْ)؟ فالجواب: أنَّ معناه أن يكون معهم وليس عَلى حالهم، لأنَّه لَمَّا خالَفَ الجَالسُ مَعهم الأمرَ لأنَّ الله ╡ يقول: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:144]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ...} [النساء:140] وقال صلعم : «مَن وَالَى قوماً فَهُو مِنْهم» أو كما قال ◙ . والآيُ والآثار(11) في هذا(12) كثيرة، وهذه سُنَّة الله تعالى أبداً فِي عباده(13).
          وقد ذُكر عَن عيسى ◙ أنَّه مرَّ في سياحته على قرية وأهلها صَرعى موتى، فقال للحواريين: لو كان موتُ هؤلاء مِن غير أخذ بلاءٍ لدَفن بعضهم بعضاً، ثمَّ ناداهم: يا أهلَ القرية. فلم يجبْه منهم أحدٌ _عَلى(14) ثلاث مرات_ ثمَّ جاوبه واحد، فقال له ◙ : ما شأنُكم؟ قال له: كانوا في عافية، فأصبحوا وَهُم في الهاوية، فقال له: مَا بالُكَ أنتَ تكلَّمتَ، وأصحابُكَ لم يتكلَّموا؟ قال: إنِّي لم أكنْ منهم، وإنَّما مررتُ عليهم، فبِتُّ عِندَهم، فأخَذَني الأمرُ معَهُم، فكلُّ واحدٍ مِنهم ملجومٌ بلجامٍ مِن نارٍ، لا يَقْدِر أن يتكلَّم، وأنا ليسَ(15) مثلَهم، فتعجَّب هو والحواريون / وتركُوهم(16) وذَهَبُوا، أو كما جرى.
          ويترتَّب عَلى هذا مِن الفقه الهروب مِن بين الكفَّار ومِن بين الظَّالمين لأنفسهم بالمعاصي، لأنَّ الجلوس بينهم مِن إلقاء النفس إلى التَّهلُكة، هذا إذا كان معهم ولم يُعِنْهم عَلى ما هم عليه(17)، أو يرضى مِن أفعالهم شيئاً، فإن وقع في واحد مِن ذلك فهو منهم _وبالله العياذ_.
          ولذلك كَان سيِّدنا صلعم حين مرَّ هُو(18) وأصحابه عَلى حِجْر ثمودَ قال لهم: «أسرِعوا في الخروج مِن هذا ولا تَدْخُلُوها إلَّا وأَنْتُم باكُون» أو كما قال ◙ . وحين(19) عَجَنوا العجين مِن بئر ذلك الموضع أمرهم ◙ ألا يأكلوه ويطعموه للبهائم(20)، وهذا منه صلعم (21) خوفاً مِن أجل أن يعودَ عليهم مِن شُؤم تلك البقعة وبالٌ، وجميع ما ذُكر كلُّه خوفٌ(22) مِن القُرْب مِن أهل المخالفات والمغضوب عليهم، وإن كانوا قد فَنوا.
          وأمَّا قولنا: ما الحكمة في أن يُؤخَذ(23) في هذه الدار مع أهل البلاء مَن كان فيهم، ثمَّ(24) في الآخرة يُبعث عَلى عمله كلٌّ منهم بحسبِ ما كان عليه؟ فهذا حُكم عدل بمقتضى ما دلَّت عليه الشَّريعة، لأنَّ الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] وقال ╡ : {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] ومسُّ النَّار لهم إذا ركنوا إليهم(25) بقدر رُكونهم، فلمَّا لم يركن لهؤلاء الذين(26) أُرسل عليهم العذاب إلَّا بالجلوس معهم أصابَهُم مِن النَّار أن أُخذوا / معهم، وكانوا في البرزخ الَّذي هو(27) مَا بين موتهم إلى حين بَعْثِهم معهم في ذلك العذاب الَّذي هم فيه، ثمَّ يبعثون عند البعث كلٌّ على ما كان عليه مِن خير أو ضدِّه. فدلَّ ذلك عَلى أنَّ قَدْرَ عذابِهم على ذلك الجزء اليسير _وهي الإقامة معهم_ هو أن يُؤخذوا(28) معهم، وأن يكونوا معهم عَلى حالتهم(29) المهلكة حتَّى إلى وقت البعث(30)، فعند ذلك يرجع كلٌّ إلى حاله(31) المختصِّ به أوَّلاً. يُؤخذ ذلك(32) مِن قوله ◙ : (ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ).
          واحتمل(33) البعثُ هنا أن يكون بعثَ سؤال القبر، لأنَّه إن حملنا(34) (ثمَّ) على المهلة(35) الطويلة فيكون بعثهم على أعمالهم عند بعث(36) النَّفخ في الصُّور _والله أعلم_ لأنَّ سؤال القبر مع الموت بسرعة ليس بينهما(37) طول زمان، وإن حملنا (ثمَّ) على المهلةِ القصيرة في الزمان فيكون بعث سؤال القبر، لأنَّ ذلك هو الذي بعد الموت لا شيء آخر بينهما، والله أعلم.
          ومما يقوِّي مَا قلناه(38) قوله صلعم في غير هذا الحديث: «يموتُ المرءُ عَلى ما عاشَ عليه، ويُبعث على ما ماتَ عليه»، فهؤلاء أُخذوا عَلى ما كانوا عليه مِن مخالطة أهل العذاب، فماتوا على تلك الحالة(39)، ثمَّ عند البعث لم يُبعثوا عليها، وبُعثوا(40) كلًّا مِنهم على حالته التي كان عليها قبلَ إرسال العذاب، ولذلك كان(41) قَدْر عذابهم على مخالطتهم(42) بالجلوس بينهم.
          ولا يكون هؤلاء المأخوذون مع أهل العذاب المرسل الذين / قد(43) عذَرَهم الله ╡ بقوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(44)} [النساء:98]، لأنَّ مَن جعل الله لَه عُذراً فلا يُؤاخذه عَلى مَا قد عذرَه فيه بفضله ورَحمته، فعلى هذا يكون لفظ الحديث عامَّاً فيما عدا أهل الأعذار الَّذين بيَّن الله ╡ عذرهم، أو يقول: هو عامٌّ ومعناه الخصوص فيمن لم(45) يعْذِرُه الله سبحانه وتعالى(46).
          وفيه تخويفٌ عظيم بالضِّمن، وهو أنَّ إرسال العذاب على المخالفين لأمره سبحانه وتعالى ونهيه باقٍ متوقع، كما كان فيمن تقدَّم، ومما يقوِّي هَذا قول عائشة ♦ لرسول الله صلعم : «أَنَهْلِكُ وَفِينا الصَّالحون؟ قال: نَعَم، إذا كَثُر الخَبَث».
          فيا الله يا الله(47)، يا ربَّاه أغثنا، فقد كثُر الخبَث، ولا مهربَ إلَّا إليك، يا أرحم الرَّاحمين.
          وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم.


[1] في (ب): ((عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلعم : إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم)).
[2] في (ب): (()).
[3] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((عمهم)).
[4] قوله :((في)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[5] قوله: ((تعلم)) ليس في (ب).
[6] في (ج): ((لا)).
[7] في (ب): ((فلا يرسل عليهم عذاب)).
[8] زاد في (ج) و(ب): ((وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون. وقوله تعالى)).
[9] في (ج): ((على قوم الكفار)).
[10] في (ب): ((فقوله صلعم عن حال ؤلاء)).
[11] في (ج): ((والأثر)). وبعدها في (م): ((في هذه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[12] في (ج) و(ت): ((هذا)).
[13] في (ب): ((في عباده أبداً)).
[14] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((عن)).
[15] كذا في النسخ والمطبوع: ((ليس)) ؟.
[16] في (ب): ((وتركهم)).
[17] في (ب): ((فيه)).
[18] قوله: ((هو)) ليس في (ج).
[19] في (ج): ((حين)).
[20] في (ج) و(ت): ((البهائم)).
[21] زاد في (ج): ((إلا)).
[22] في (ج) و(ب): ((خوفا)).
[23] زاد في المطبوع: ((القوم ومن فيهم)).
[24] قوله: ((ثم)) ليس في (ج).
[25] في (ب): ((لهم)).
[26] في (ج): ((يركن هؤلاء للذين)). في (ت): ((يركن لهؤلاء للذين)). وفي (ب): ((يركنوا لهؤلاء الذين)).
[27] في (ب): ((في البرزخ وهو)).
[28] في (ج): ((يأخذ ما)).
[29] في (ج) و(ب): (حالهم)).
[30] قوله: ((البعث)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[31] في (ج): ((رجع إلى حال)).
[32] قوله: ((ذلك)) ليس في (ج).
[33] زاد في (م): ((البحث)).
[34] في (م): ((قلنا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[35] في (ج): ((المهلكة)).
[36] قوله: ((بعث)) ليس في (ب).
[37] في (ج): ((سرعة ليس بينها)).
[38] في (ب): ((ما قلنا)).
[39] قوله: ((على تلك الحالة)) ليس في (ج).
[40] في (ج): ((ولم يعنوا)). وفي (المطبوع): ((وبُعثَ كلٌّ منهم)).
[41] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((وذلك كان)).
[42] في (ب): ((مخالفتهم)).
[43] قوله: ((قد)) ليس في (ب).
[44] قوله: ((وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)) ليس في (ج).
[45] في (ج): ((لا)).
[46] قوله: ((سبحانه تعالى)) ليس في (ت).
[47] قوله: ((يا الله)) ليس في (ج).