بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر

          221- قوله: قالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : ((1) أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا...) الحديث. [خ¦5545]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ يَدُلُّ على أنَّ السُّنَّة في يوم عيد الأضحى تقديم الصلاة قبل الذَّبح، ومَن ذبح قبل الصلاة فإنَّما هو لحم(2) ليس بنُسُك، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: التأكيد في صلاة العيد يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله ◙ : (أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ في يَوْمِنَا هَذَا أنْ(3) نُصَلِّيَ(4)) فجعلها ◙ مفتاح الأعمال في ذلك اليوم، وهل هي فرض أو سنَّة؟ قولان للعلماء في ذلك.
          ومنها: التأكيد في شأن الأضحية، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله ◙ بعد ما قال: (نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ) ثم زادها ◙ تأكيدًا بقوله: (مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا).
          وقد اختلف العلماء هل هي فرض أو سنَّة؟ على قولين، والذي قال منهم بأنَّها سنَّة فهي(5) عنده مِن آكد السُّنن، ويزيد ذلك تأكيدًا قوله ◙ في حديث غيره: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا يَوْمَ النَّحْرِ أَعْظَم مِنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ(6)».
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ النِّيَّةَ وإن كانت حسنةً لا تقبل ولا العمل الذي يعمل بها(7) لا يصحَّان(8) إلا إذا كانا موافقين(9) للسان العلم، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله ◙ : / (وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ)، ويزيد ذلك بيانًا قوله ◙ : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا(10) مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ» وقوله(11) ◙ : «إنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ عَمَلَ امْرِئ حَتَّى(12) يُتْقِنَهُ. قِيْلَ: يَا رسولَ الله وما إِتْقَانُه؟ قالَ: يُخَلِّصُهُ(13) مِنَ الرِّياءِ والبِدْعَةِ» فتخليصه مِن الرياء(14) أن يكون لله خالصًا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة:5] وتخليصه مِن البدعة أن يكون على نحو ما أمر صلعم به لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[آل عمران:31].
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أن اتِّباع الصحابة ♥ هو اتباعٌ(15) للحقِّ الذي لا ينبغي العدول عنه.
          يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن كونه ◙ لم يترك لهم(16) شيئًا مِن الأعمال إلا بَيَّنَها لهم، وحملهم فيها على سُنَّته الواضحة(17) مثل هذا الحديث وما يشبهه، ومما يؤيِّد هذا قوله صلعم : «أَصْحَابِي مثلُ النُّجُومِ(18) بِأَيِّهم اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُم».
          وقد قالَ العلماء ♥ مثل يَمَن(19) بنُ رِزْق وغيره: وأنا أوصيك باتِّباع السُّنَّة في عملك، وآكد مِن ذلك اتِّباع السَّلف، فإنهم أعرف بالسُّنَّة مِنَّا، وقد قال مالك ☺(20): إذا كان حديثان ووجدنا الخلفاء(21) أو الصحابة(22) ♥ عملوا بأحدهما دلَّ على أن الآخر(23) منسوخ، وإن لم(24) نعرف نحن(25) النسخ.
          وإذا كان للحديث معنيان(26) وعملوا بأحدهما، دلَّ على أنَّ ذلك هو حكم الله تعالى في ذلك(27) الحديث وأنَّه الظاهر مِن ذينك(28) الوجهين.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على جواز أكل اللحم في يوم / العيد ما عدا لحم الأضحية، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله ◙ : (فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ) فأجازه(29) ◙ ولم يمنعه.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ نفس الأضحية عبادة، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن تسميتها نُسُكًا بقوله ◙ : (لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ) في الذي ذبح قبل الصلاة، فدلَّ على أنَّ الذي ذبح بعد الصلاة هو النسك(30)، والنسك هو ما(31) يتعبَّد به.
          وفيه دليل على أنَّ مخالف السُّنَّة في تعبده لا يكون له مِن الأجر شيء، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله ◙ : (إِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ) وقد جاء أن النفقة على العيال ممَّا يؤجَر المرء عليها، وهي مِن جميع ما يُتَنَسَّكُ به، أي: يُتَعَبَّدُ به، وقد قال صلعم : «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى عِيالهِ يَحْتَسِبُهَا فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ»، وفي هذا الموطن منع ◙ أن تكون في هذه الشاة التي ذبحت قبل الصلاة نسبة مِن التعبُّد بالكلية.
          فإن اعترض معترض وقال: إنما عنَى صلعم هنا بقوله: (لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ) إنما بذلك في الأضحية، وبقي الأجر في النفقة على ما هو عليه، فالجواب عن ذلك مِن وجهين:
          أحدهما: أنَّه لو أراد صلعم ذلك لكان يقول: (ليسَ مِن الأضْحِيَة في شَيء) لأنَّه أصحُّ الأسماء بها، فإن الاسم لا يشركها مع غيرها، ولفظ (النُّسُك) يدخل في متضمَّنه الأضحية وغيرها مِن وجوه القرب الْمُتَعَبَّدِ / بها فرضًا كانت أو ندبًا، وهو ◙ الذي أُعْطِيَ الحكمة وجُمِعَ له الكلام، فكيف يترك ما هو نص ويأخذ محتملًا إلا لحكمة وهي إشارتنا(32) إليها؟
          والوجه الآخر: هو أنَّ إطعامه عياله هذا اللحم هو على مُخالفةِ السُّنَّة، وقد تقدَّم قولنا: إنَّ العمل إذا خالف السُّنَّة لا يُقْبل.
          ولوجه ثالث: فإنَّ معنى الحديث جاء على التأكيد على اتِّباع السُّنَّة في هذا اليوم، وبيان الكيفية في ذلك، فمخالفه لا يكون له مِن الأجر شيء(33).
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على تأخير زمان(34) الذبح في يوم النحر عن وقت الصلاة، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله صلعم : (ثُمَّ نَرْجِعَ) لأنَّه ◙ أتى بـ (ثُمَّ) التي تقتضي التراخي أو(35) المهلة.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على استغناء المولى سبحانه عن عبادة العابدين، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن كونه ╡ قد شرع لك(36) بمقتضى(37) هذا الحديث ذبح الأضحية وهي ممَّا لنفسك(38) فيها شهوة وراحة(39)، لأنَّك تأكل(40) وتدَّخر وأنت في الصدقة منها بالخيار إن تصدقت أُجِرت أجرًا آخر، وإن لم تتصدَّق لم تأثم ويثبت لك أجر الأضحية(41) بنفس الذبح، والأكل زيادة(42) راحة لك.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على عظيم لطفه ╡ بعبيده ورحمته لهم، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن كونه ╡ أمرهم بذبح الأضحية كما تقدَّم الكلام فيه، وجعلها في هذا اليوم مِن أعظم القرب إليه، ويزيد ذلك(43) بيانًا قوله ◙ : «فإنَّ دِماءَهَا وشَعْرَهَا وقُرُونَهَا وأَظْلَافَهَا وبولَهَا ورجيعَها / في ميزانِ حَسَنَاتِكُمْ يومَ القيامةِ» وقوله ◙ (44): «تَنَافَسُوا فِي أَثْمَانِهَا فَإِنَّهَا مَطَايَاكُمْ إِلَى الجَنَّةِ».
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على عظم(45) ما أُعطي صلعم مِن حسن البلاغة، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن جمعه ◙ في الحديث الواحد والحكم الواحد بين النحر والذبح، لأنَّه لو ذكر هو(46) صلعم (47) أحد الوجهين: إمَّا النحر وإمَّا الذبح لكان دليلًا على ترجيحه على الآخر، فلمَّا ذكرهما معًا دلَّ على جوازهما بحسن عبارة واختصار(48) صلعم وحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ندامى بفضله، لا ربَّ سواه(49). /


[1] قوله: ((إن)) ليس في (م) و (ج). ولا في الأصل.
[2] العبارة في (م): ((قبل الصلاة فإنه لحم)) وفي (ج): ((الصلاة إنه ليس بنسك)).
[3] قوله: ((أن)) ليس في النسخ، والمثبت من الصحيح.
[4] في (ج): ((ما يبدأ في يومنا هذا يصلي)).
[5] في (م) و (ج): ((هي)).
[6] في (م) و (ج): ((دم)).
[7] العبارة في (م) و (ج): ((وإن كانت حسنة والعمل الذي يعمل بها)).
[8] قوله: ((لا يصحان)) زيادة من الملف، وليس في الأصل(ط).، وفي (المطبوع) أثبت (لا يصحان)، وبعدها ((إلا إذا كان موافقين..) لا حاجة لذلك فالعبارة مستقيمة.
[9] في (ط): ((إلا إذا كانت موافقة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] زاد في (ج): ((هذا)).
[11] في (ج): ((قوله)).
[12] قوله: ((حتى)) ليس في (ج).
[13] في (م): ((تخلصه)).
[14] قوله: ((من الرياء)) ليس في (ج).
[15] قوله: ((اتباع)) ليس في (م) و (ج).
[16] قوله: ((لهم)) ليس في (ج).
[17] قوله: ((الواضحة)) ليس في (ط)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] في (ج): ((أصحابي كالنجوم)).
[19] قوله: ((يمن)) ليس في (ج).
[20] صورتها في (ج): ((عنهما)).
[21] في (م): ((الخلف)).
[22] في (ج): ((والصحابة)).
[23] في (ج): ((الآخرة)).
[24] قوله: ((لم)) ليس في (ج).
[25] قوله: ((نحن)) ليس في (م) و (ج).
[26] في الأصل(ط): ((معنيين)).
[27] العبارة في (م) و(ج): ((دل على أن ذلك هو الحكم في ذلك)).
[28] في الأصل(ط): ((ذانك)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] في (ج): ((وأجازه)).
[30] في (م) و (ج): ((نسك)).
[31] في الأصل(ط): ((هو مما)). وفي (ج): ((هو بما)) والمثبت من (م).
[32] في (ط): ((إشارنا)) ولعل المثبت هو الصواب والله أعلم، وفي (المطبوع): ((ما أشرنا)).
[33] قوله: ((وفيه دليل على أن مخالف السُّنَّة في تعبده... فمخالفه لا يكون له من الأجر شيء)) ليس في (م) و (ج).
[34] قوله: ((زمان)) ليس في (ج) و(م).
[35] قوله: ((التراخي أو)) ليس في (م) و (ج).
[36] قوله: ((لك)) ليس في (م) و (ج).
[37] زاد في (ج): ((من)).
[38] في (م) و (ج): ((للنفس)).
[39] قوله: ((وراحة)) غير واضحة في (ج).
[40] في الأصل(ط): ((تأخذ)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[41] في (ج): ((أجر للأضحية)).
[42] في (م): ((بنفس الاكل والذبح والاكل زيادة)).
[43] في (ج): ((ويزيده لك)).
[44] قوله: ((فإنَّ دِماءَهَا وشَعْرَهَا... يومَ القيامةِ وقوله ◙)) ليس في (م) و (ج).
[45] في (م): ((عظيم)).
[46] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[47] قوله: ((من حسن البلاغة...صلعم)) ليس في (ج).
[48] في (ج): ((عبارة اختصار)).
[49] قوله: ((لا ربَّ سواه)) ليس في (ج) و (م).