بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: قدم رسول الله المدينة ليس له خادم

          128- قوله(1): ((قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلعم الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي، وانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلاَمٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالحَضَرِ، مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلاَ لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ، لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟(2)...)) الحديث. [خ¦2768]
          ظاهر الحديث(3) يدلُّ على جواز اتخاذ الخادم وكذلك في العكس وهو عدم اتخاذه؛ لأن النَّبي صلعم سافر(4) بغير خادم، فلمَّا أن قدم المدينة(5) أتاه الخادم متبرعًا قِبَله(6)، فعلى هذا فالأمران(7) سِيَّان، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأول: فيه دليل على أنَّه ليس مِن شرط الحاكم(8) اتخاذ الخادم ردًا على مَن قال بذلك؛ لأن النَّبي صلعم (9) أنه كان حاكمًا قبل قدومه إلى المدينة وفي حال قدومه ولم يكن له إذ ذاك خادم، وإنما حمل(10) مَن قال بذلك الفقهُ النفساني فلا يعبأ بقوله؛ لأنَّه ليس الجائز كاللازم،(11) كون النَّبي صلعم اتَّخذ الخادم حين قدومه إلى(12) المدينة وهو آخر الفعلين مِن حاله ◙ ، وكانوا يأخذون مِن أفعاله وأقواله بالأحدث فالأحدث، لكن هذا ليس بالقوي؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يعمل(13) على اتخاذ الخادم ولا طلبه حتَّى جاء متبرعًا كما مرَّ الكلام عليه، فالأمر بالسواء، والله تعالى أعلم(14).
          الثاني: قوله: / (فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم) فيه دليل على أنَّ الكفيل له الحكم على مَن يكفل(15) بما له فيه مصلحة؛ لأنَّ أبا طلحة لَمَّا أن رأى المصلحة لأنس(16) في خدمة النَّبي صلعم جبره(17) عليها وأقرَّه(18) النَّبي صلعم على ما فعل ذلك(19)، ويترتب على هذا مِن الفقه(20) أنَّ خدمة أهل الفضل يزيد الخديم بها شرفًا ولذلك أجبر(21) أبو طلحة أنسًا على خدمة النَّبي صلعم (22).
          الثالث: فيه دليل على جواز خدمة اليتيم إذا كان ذلك(23) برأي كفيله؛ لأن أنسًا لم يكن له أب وقد قَبِله النَّبي صلعم مِن وليِّه للخدمة فلو كان غير جائز لم يَقبَله النَّبي صلعم (24).
          الرابع: فيه دليل على جواز خدمة الصبي الصغير إذا كان وليه المتبرع بذلك؛ لأنَّ النَّبي صلعم قد أخبر(25) بتبرع الولي في ذلك.
          الخامس: قوله(26): (إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ) فيه دليل على أنَّ الكَيس مطلوب في الخديم؛ لأنه قدَّم الكَيس وبعد ذلك قال له: (فَلْيَخْدُمك)(27)، فلولا أنَّ الكَيْس كان عندهم مطلوبًا في الخديم لَمَا قدَّمه.
          ويتعلَّق بهذا(28) مِن الفقه أن يذكر ما في الشخص من المحامد بقدر ما يُرشَّح إليه(29) لتقع الرغبة فيه في ذلك الشأن والمعرفة بمكانه فيه، وكذلك كل(30) ما يتقرَّب به الناس بعضهم لبعض يُذكر(31) ما فيه من المحاسن ليُعرف قدرُه ويكون أجدر لتحصيل القبول؛ / لأنَّ الفضائل مَخفِية لا تُعلم إلا بالوصف أو بالإدراك(32) عند المخالطة، فإن كان(33) مدحًا لغير هذه الفائدة فهو داخل في عموم قوله ╕: «قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ» ويُستحبُّ(34) في ذلك الإيجاز والاختصار مِن غير تطويل ولا إكثار، لأنَّه قال له(35): (إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ)، فأوجز في العبارة وأجمع(36).
          السادس: فيه دليل على جواز هبة المنافع كهبة الأعيان؛ لأنه قال له: (فَلْيَخْدُمْكَ(37))، والخدمةُ هِبةُ منفعةٍ لا عَيْن.
          السابع: فيه دليل لمالكٍ ⌂ حيث يجيز الهبة غير محدودة ولا معيَّنة، لأنَّه قال له(38): (فَلْيَخْدُمْكَ(39))، ولم يعيِّن له الخدمة وما زمانها(40).
          الثامن: فيه دليل على جواز استنابة الصبي في الأمر اليسير؛ لأنَّ نفس الخدمة تقتضي النيابة في بعض الأشياء، وكذلك كان(41) ◙ يفعل.
          التاسع: فيه دليل على جواز انعزال الصبي عن(42) وليه بشرط أن يكون في موضع يأمن عليه ممَّا(43) يُتَوقع؛ لأنَّ أنسًا اعتزل(44) عن وليه وبقي في خدمة النَّبي صلعم عشر سنين.
          العاشر: قوله: (فَخَدَمْتُهُ(45) صلعم فِي السَّفَرِ وَالْحَضَر)، فيه دليل على جواز سفر(46) الصبي الصغير بشرط أن يكون فيه كياسة حتَّى يكون مِن حيث يدبِّر مصالحَ نفسه.
          الحادي عشر: قوله: (مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ(47) صَنَعْتُهُ...) إلى آخر الحديث، فيه دليل على حسن خلق النَّبي صلعم وكثرة ما أمدَّه(48) الله ╡ به مِن قوة(49) اليقين؛ لأن أنسًا بقي في خدمته / ◙ عشر سنين، ثمَّ مع طول السنين ومباشرة الخدمة لم يقل له النَّبي صلعم قَطُّ: لِمَ فعلتَ هذا هكذا(50)؟ ولا: لِمَ لَمْ(51) تفعل(52)؟ لَمَّا أن كان ◙ هو الذي أتى للناس بالإيمان واليقين أُعْطِيَ منه أجزل نصيب(53)، وأتى الناس(54) بعده ورثوا منه بقدر همتهم(55) ومقاصدهم، وإليه أشار ◙ بقوله: «لَمْ يَفْضُلْكُمْ أَبْو بَكْرٍ بِصَومٍ وَلَا بِصَلاةٍ، وَلَكِنْ بِشيء(56) وَقَر في صَدْرِهِ»، والشيء الذي(57) وقر في صدره هو قوة اليقين حتَّى كان يقول: كأنِّي أنظر إلى العهد لَمَّا أن(58) كان صاحب النَّبي صلعم في الغار وخليفته بعد الانتقال أجزل الله له(59) في الميراث أكثر(60) ممن أتى بعده، وكذلك كل من كان له قَدْر في الدين إنما علا(61) وارتفع بحسب ما أُجزل له(62) مِن ذلك الميراث وخُصَّ به.
          ثمَّ بقي على الحديث سؤال وارد، وهو أن يقال: العمل على هذا الحديث يؤدِّي إلى ترك تأدب(63) الأولاد؛ لأنَّه(64) إذا كان المرء ينظر إلى ما قرَّرْتم لم يبقَ فيما يؤدب الولد؟ وذلك يؤدِّي إلى أن يكبر الولد على غير حال مرضيٍّ في تصرُّفه وقد جعل ◙ تأديب الولد أفضل مِن الصدقة؟
          والجواب عنه(65): أنَّ الأمر كذلك لكن في الحديث ما ينفصل به عن ذلك السؤال؛ لأنه قال ╕ فيه(66): «غُلَامٌ كيِّسٌ»، والكَيِّس شرعًا: هو الذي لا يقع منه خلل في الدِّين، فلمَّا أن اختار الله ╡ أنسًا لخدمة(67) نبيِّه صلعم أعطاه مِن ميراث الهدى نصيبًا لقوله ╕: / «أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيْبِي»، أي: هَدَاه إلى كلِّ شِيمة مَرْضيَّة وخلق سنيَّة، فإذا حصل للولد نسبة مِن هذا الميراث لا يحتاج إلى تأديب(68) فإذا كان بعكس هذا الكيس(69) فالتأديب إذ ذاك جائز(70)، وهو لا يعارض ما نحن بسبيله للمعنى الذي ذكرناه.


[1] في (م): ((عن أنس قال)).
[2] قوله: ((فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي... لمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا)) زيادة من (م) على النسخ.، وقوله بعدها: ((الحديث)) ليس في (م).
[3] في (ط) و (ل): ((ظاهره)).
[4] في (ج) و(م): ((كان)).
[5] قوله: ((قدم المدينة)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[6] في (ج) و(م): ((وأتى بالخادم قبله)).
[7] في (ل): ((فالأمر)).
[8] في (م): ((الحكم)).
[9] زاد في (ل): ((بالإجماع))، وقوله بعدها: ((أنه)) ليس في (ج) و(م).
[10] زاد في (م): ((على)).
[11] قوله: ((الفقه النفساني فلا يعبأ بقوله لأنه ليس الجائز كاللازم)) ليس في (ج) و(م)، وبعدها في (م): ((لكون)).
[12] قوله: ((إلى)) ليس في (ج).
[13] في (م): ((يُعَول)).
[14] قوله: ((وكون النَّبي صلعم... والله تعالى أعلم)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[15] قوله: ((له الحكم على من يكفل)) ليس في (ج).
[16] في (ج): ((في الأنس)).
[17] في (ج) و(م): ((حمله)).
[18] في (م): ((فأقره)).
[19] قوله: ((ذلك)) ليس في (م) و (ل).
[20] قوله: ((من الفقه)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] في (ل): ((جبر)).
[22] قوله: ((ولذلك أجبر أبو طلحة أنسًا على خدمة النَّبي صلعم)) ليس في (م).
[23] قوله: ((ذلك)) ليس في (م).
وفي (ج): ((الثالث: فيه دليل على جواز خدمة اليتيم إذا كان، ويترتب على هذا من الفقه أن خدمة أهل الفضل يزيد الخديم بها شرفًا)).
[24] قوله: ((فلو كان غير جائز لم يَقبَله النَّبي صلعم)) ليس في (ج) و(م).
[25] في (ط) و(م) و (ل): ((اجتزى)).
[26] قوله: ((قوله)) ليس في (م).
[27] في (ل): ((يخدمك)).
[28] في (م): ((في هذا)).
[29] قوله: ((بقدر ما يرشح إليه)) ليس في (ج) و(م) وفي (ل): ((له)).
[30] قوله: ((كل)) ليس في (ج).
[31] في (ل): ((بذكر)).
[32] في (ج): ((بإدراك)).
[33] قوله: ((كان)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] في (م): ((ويجب)).
[35] قوله: ((له)) ليس في (م).
[36] في (ج) و(م): ((وجمع)).
[37] في (ل): ((نخدمك)).
[38] قوله: ((له)) ليس في (م).
[39] في (ل): ((يخدمك)).
[40] في (ل): ((الخدمة ولا زمانا))، وفي (م): ((الخدمة ولا زمانها)).
[41] في (م): ((وكان كذلك)).
[42] في (م): ((من)).
[43] في (م): ((لما)).
[44] في (ج) و(م) و (ل): ((انعزل)).
[45] في (م): ((خدمته)).
[46] قوله: ((سفر)) ليس في (ل).
[47] في (ج): ((شيء)).
[48] في (ج) و(م): ((أمره)) وفي (ل): ((وسلم وما مده الله)).
[49] في (م): ((حسن)).
[50] قوله: ((هكذا)) ليس في (ج).
[51] في (ج): ((لا)).
[52] زاد في (م): ((هذا هكذا)).
[53] قوله: ((لما أن كان ◙ هو الذي أتى للناس بالإيمان واليقين أُعطي منه أجزل نصيب)) ليس في (ج).
[54] في (ج): ((وهذا الذي أتى للناس)).
[55] في (ج): ((هممهم)).
[56] في (م): ((وإنما لشيء)).
[57] قوله: ((الذي)) ليس في (ل).
[58] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[59] في (ج) و(م): ((أجزل له)).
[60] في (ج): ((أجزل)).
[61] في (ج): ((وعلا)).
[62] في (ل): ((له)).
[63] في (ج) و(م): ((تأديب)).
[64] في (م): ((أنه)).
[65] قوله: ((عنه)) ليس في (ج) و(م).
[66] قوله: ((فيه)) ليس في (ل).
[67] في (ل): ((فلما أن اختاره الله ╡ لخدمة)).
[68] في (ج) و(م) و (ل): ((التأديب)).
[69] قوله: ((الكيس)) ليس في (م).
[70] في (ج): ((فتأديب إذ ذلك مأمور به))، وفي (م): ((فالتأديب إذ ذاك مأمور به)).