بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض

          268- قوله صلعم : (يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ...) الحديث(1). [خ¦6532]
          ظاهر الحديث الإخبار بشدَّة الأمر الذي يلحق النَّاس يوم القيامة حتَّى يَعْرَقُوا، فيذهب عرقهُم في الأرض سبعين / ذراعاً، ثمَّ يُلْجِمُهُم حتَّى يبلغ آذانهم. وَالكلام عليه مِن وجوه:
          مِنها أنْ يُقال: هل هَذا الأمر للنَّاس عَامَّة؟ أو اللَّفظ عامٌّ والمعنى فيه الخصوص؟ وهل الذِّراع المذكور فيه مِن هذا الذِّراع المعروف عندنا، أو غير هذا؟.
          أمَّا قولنا: هل هو عَلى العموم في جميع النَّاس أمْ لا؟ ظاهر اللفظ يعطي العموم، وقد جاءت أحاديث تُخصِّصه. فمنها: أنَّه قد جاء: «أنَّ مِن النَّاسِ مَن يَبْلُغُ عَرَقُه إلى الكَعْبين، ومنهم(2) إلى الرُّكْبَتين، وإلى وسطِهِ، ومنهم إلى الصَّدر(3)، ومنهم إلى الثَّديين، ومنهم مِن يَسْبَحُ في عَرَقِهِ» أي: يعوم فيه، أو كما ورد.
          وقد جاء أنَّ هناك مَن لا يحضر تلك المواطن مثلُ الشهداء، لأنَّه قد جاء أنَّهم يقومون مِن قبورهم إلى قصورهم، أو كما ورد.
          وقد جاء أنَّ الأنبياء والرُّسل ‰ على كراسي في ظل عرش الرحمن، وأنَّ العلماء دون الأنبياء(4) بدرجة، والصِّدِّيقين دونهم، أو كما ورد(5). وهذه كلُّها أخبار، والخبر لا يدخله نسخ، ويسوغ(6) الجمع بينهما أن نقول: هذا الحديث هو حال الأغلب مِن النَّاس، وأنَّ غيرهم ممَّن ذكرناهم قومٌ مستثنون ممَّن ذُكر، وهم قلائل.
          ويبقى هذا عَلى عمومه فيمن بقي لأنَّ الأكثر مِن النَّاس يوم القيامة هم الكفَّار، كما(7) جاء أنَّ الله ╡ يقول يوم القيامة لآدم ◙ : «أَخرِجْ بَعْثَ النَار مِن بنيكَ. فيقول: يا ربِّ، وما بَعْثُ النَّار؟ فيقول: / مِن كلِّ ألفٍ تسعُمائة وتسعةٌ وتسعونَ(8) إلى النَّار وواحدٌ إلى الجنَّة» أو كما ورد.
          ثمَّ أصحاب المعاصي بعدهم، وهم الذين دون الكفَّار في العرق بحسب معاصيهم، والله تعالى أعلم، والذين(9) يسبحون في عرقهم أشدُّهم، وقد يكونون(10) مِن جبابرة الكفَّار ورؤسائهم في الضَّلالة، وهم بالنسبة إلى غيرهم قلائل، لأنَّهم هم «الأريسيُّون» _والله أعلم_ لأنَّ بهذا التوجيه تُستعمل جميع الأخبار، وهو الأصلح عند أهل الحديث، لأنَّ الوجه الذي يمكن فيه جمع الأحاديث هُو الأحسن عندهم إذا لم تكن أخباراً، فإذا كانت أخباراً فمِن باب أحرى، فإنَّ(11) الأخبار لا يمكن إسقاط أحدها(12) لعدم النَّسْخ فيها.
          وأمَّا قولنا: هَل الذِّراع هُو هذا الذِّراع المعلوم عندنا؟ فهذا هُو الظاهر _والله أعلم_ وإنْ كان بعض العلماء قد قال: إنَّه الذِّراع(13) الملكي، الذي هو ضِعْفان مِن هذا، وهذا(14) يحتاج إلى توقيف مِن الشَّارع صلعم. والأظهر(15) أنَّا لا نُخاطَب(16) إلَّا بما هو معروف عِندنا، وإذا كان الخطاب بخلاف ذلك يتبيَّن(17) لنا بوجه نعرفه، أو نعرف نسبته بتقريب ما. هذا هو المتعاهَد في الشَّريعة غالباً.
          وأمَّا قوله صلعم : (يُلْجِمُهُمْ) أي: يبلغ موضع اللِّجام وَهو أفواههم. وهنا إشارة إذا نظرناها يزيد المرء بها تهويلاً وتعظيماً، وَهو أنَّه قد أخبر صلعم أنَّ النَّار تدور بالمحشر / كالخاتم بالأصبع، وأنَّ الشَّمس تقلب وَجهها إلى النَّاس، وتُدنى مِن رؤوسهم، حتَّى يكون بينها وبينهم قَدْر الميل وَهو المِرْوَد الذي تُكحل به العين(18).
          فانظر كيف تكون(19) حرارة تلك الأرض التي يكون النَّاس عليها(20)، وما عسى أن يرويها مِن العرق حتَّى يبلغ منها(21) سبعين ذراعاً؟ ثمَّ بعد ذلك يُلْجِمُهم، وكيف تكون حرارته؟ فسبحان(22) الذي حبس أرواحهم مع هذا البلاء العظيم. أعاذنا الله منه بجاه نبيِّه(23) محمَّد الكريم صلعم.
          تنبيه: إذا نظرت إليه تَبيَّن(24) لك مِن عِظم(25) قدرة الله تعالى ما يبهر العقول، انظر إلى إخباره ◙ بحالة هؤلاء في عرقهم، وتنويعهم(26) عَلى ما ذكرناه بحسب الأخبار الواردة في ذلك، ومع هذا قد جاء أنَّ النَّاس يُحشرون مثل السِّهام في الجعبة قدَم الرَّجل على قدَم المرأة، وقدَم المرأة على قدَم الرَّجل، ولا يعرف أحدهم(27) الآخر.
          فتأمَّل كيف يكون هذا(28) القدر مِن اجتماعٍ وتلاصقٍ، وهم متفاوتون في العَرَق ومتفاضلون(29) في الآلام، هذا مما يُبْهِر العقول، ويدلُّ على عظيم(30) قدرة الله تعالى، وأنَّ أمور الآخرة ليس للعقل فيها مجال، وإنَّما تُؤخذ بالقبول(31) والتَّصديق الَّذي لا شكَّ يدخله(32) وَلا ريب، ولا يُعْتَرض عليها بعقل ولا قياس، وَلا عادة(33) جارية وَلا حكمة ولا بشيء مِن الأشياء، ومَن وقع له شيء مِن ذلك فهو دليل / على حرمانه وخسرانه، إلَّا أن يتداركه الله بالتوبة قبل الممات.
          وفائدة الإخبار بهذا الحديث وأشباهه: أن يتنبَّه السَّامع لها لنفسه، ويأخذ في الأمور الَّتي تُخلِّصه مِن هذه الأهوال على نحو ما شُرع له، ويلجأ إلى المولى الكريم بالصِّدق والضَّراعة الدَّائمة، عساه يمنُّ عليه بالعون على ذلك، وينجِّيه مِن تلك الأهوال، وإلَّا كانت الفائدة عليه معكوسة، وظهرت إقامة الحجَّة عليه ببيان(34) الأمر الذي هو صائر(35) إليه، وتبيين الطُّرق المنجية له مِن ذلك. يشهد لذلك قوله جلَّ جلاله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] لأنَّ(36) الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بيَّنوا مَا ذكرناه، فمن لم يفعل قامت الحُجَّة عليه بالهلاك(37)، ولا دافع له ولا واقٍ منه.
          أعاذنا الله مِن ذلك بمنِّه وفضله.


[1] في (ب): ((عن أبي هريرة أن رسول الله صلعم قال: يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)).
[2] زاد في (ب): ((من يبلغ)).
[3] زاد في (م): ((ومنهم إلى القدمين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ب): ((الصديقين)).
[5] قوله :((وقد جاء أنَّ هناك من لا... هناك دون الأنبياء بدرجة، والصديقين دونهم، أو كما ورد)) ليس في (م) و(ت)، والمثبت من (ج) و(ب).
[6] في (ج): ((ويجوز)).
[7] في (م): ((وكما)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (ت): ((وتسعين)).
[9] في (ج): ((الذين)).
[10] في (ج): ((يكونوا)).
[11] في (ب): ((لأن)).
[12] في (ج): ((أحدهما)).
[13] في (ج) و(ب): ((بالذراع)).
[14] في (م): ((وهل)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[15] في (ج): ((وأظهر)).
[16] في (ج): ((وأظهر أن لا يخاطبوا)).
[17] في (ت): ((يبين)). و في (ب): ((بُيِّن)).
[18] في (ج): ((العيون)).
[19] قوله: ((تكون)) ليس في (ب).
[20] قوله: ((عليها)) ليس في (ب).
[21] قوله: (منها)) ليس في (ج).
[22] في (ج): ((سبحانه)).
[23] في (ب): ((بجاه سيدنا)).
[24] في (ج): ((يبين)).
[25] في (ج): ((عظيم)).
[26] في (ب): ((وتنوعهم)).
[27] في (ت): ((أحدهما)).
[28] قوله: ((هذا)) ليس في (ج).
[29] في (ب): ((ويتفاضلون)).
[30] في (ب): ((عظم)).
[31] قوله: ((بالقبول)) مكانه بياض في (ب).
[32] في (ب): ((لا يدخله شك)).
[33] قوله: ((عادة)) ليس في (ج).
[34] في (ج): ((بلسان)).
[35] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((سائر)).
[36] قوله: ((لأن)) ليس في (ج).
[37] في (م): ((الهلاك)) والمثبت من النسخ الأخرى.