بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث ابن عباس: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية

          130-قوله(1): قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : ((لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا(2)...)) الحديث. [خ¦2783]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ الهجرة قد انقطعت بعد الفتح ولكن(3) له معارض آخر، وهو قوله ╕: «الهجرةُ باقيةٌ إِلَى يومِ القيامةِ»، والجمع بينهما والله أعلم أن يقال: إنَّ(4) الهجرة مِن مكة إلى المدينة والإقامة بها مع النَّبي صلعم والجهاد بين يديه قد انقطعت لا تكون أبدًا، وأمَّا غيرها مِن أنواع الهجرة فذلك باقٍ لم يزل(5) مثل الخروج مِن دار الكفر إلى دار الإسلام، / وكذلك أيضًا الخروج مِن موضع غلب(6) فيه المنكر إلى موضع ليس فيه ذلك.
          يشهد لذلك(7) قوله ╕: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَسْلمُ لِذِي دينٍ دينُه إِلَّا مَنَّ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ»، والفرار مِن شاهق إلى شاهق(8) مِن أجل الدِّين هجرةٌ لا شكَّ فيها، ثم قال ╕: «العَمَلُ فِي الهَرْجِ كَالهِجْرَةِ مَعِي(9)»، وأيُّ عملٍ وأيُّ هجرةٍ أعظمُ مِن الفرار بالدين مِن شاهق إلى شاهق؟ لكن هذه الهجرة المذكورة إنما(10) وقع الشبه بينها وبين الهجرة الأولى في تضعيف الثواب والأجر.
          وأمَّا تلك الهجرة(11) فقد مضت لأصحابها وهي مثل الصحبة لا تكون لغير الصحابة أبدًا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ(12) آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74]، ثمَّ قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ(13) بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال:75].
          نعم(14) قد يجتمعان(15) في المعنى وهو أنَّ العمدة فيهما(16) معًا الفرارُ بالدِّين مِن موضع كَثُرت فيه المخالفة إلى موضع يُرجَى فيه الخير، ثمَّ الكلام على الحديث(17) مِن وجهين:
          الوجه(18) الأول: قوله ╕: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) يُريد أنَّ الجهاد باقٍ لم يَزل ولم يَرتفع(19) وأنَّه لا يكون جهادًا(20) حتَّى يكون بنيَّة، والنِّيَّة فيه قد(21) أخبر بها ◙ في غير هذا الحديث حين سأله الأعرابي: ما القتال في سبيل الله؟ فقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُوْنَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُو فِي سَبِيْلِ اللهِ»، وقد مرَّ الكلام عليه بما فيه كفاية.
          وفيه دليل على أنَّ نيَّات الخير / على اختلافها مأجور صاحبها فيها، ما بَلَغَه منها عَمِلَه وما لم يبلغه(22)، وقد قال ◙ في غير هذا الحديث: ((نِيَّةُ المرءِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ)).
          الوجه(23) الثاني: قوله ╕: (فَإِذَا(24) اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)، أي: إذا(25) طُلِبتُم للجهاد فبادروا بالخروج ولا تقعدوا؛ لأنَّ الجهاد كان على الصحابة رضوان الله عليهم(26) فرضَ عين فلا يجوز لهم الجلوس إذا سمعوا الاستنفار، وكذلك مَن أتى(27) بعدَهم إذا كان الجهاد عليهم فرضَ عين حكمُهم حكم الصحابة إذا استُنفِروا، ومَن كان عليه فرضَ كفاية فهو بالخيار إن شاء خرج فله الأجر وإن لم يخرج فلا حرج(28)، لكن ذلك(29) بشرط أن يعلم الفرق بين فرض العين و فرض(30) الكفاية، والفرق بين فرض الكفاية وفرض العين قد ذُكِر في كتب الفقه، فإذا تحقَّق المرء بلسان العلم بأنَّ(31) الجهاد في حقِّه فرض كفاية فحينئذٍ يكون(32) مخيرًا لئلا يكون بقعوده عاصيًا لأمر النَّبي صلعم.
          وفي الحديث إشارة صوفية وهي على ثلاثة أوجه:
          الوجه(33) الأول: في قوله(34) ╕: (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) قد أخبر ◙ في غير هذا الحديث بأن الجهاد جهادان(35) أكبر وأصغر، فقال ╕: «هَبَطْتُمْ مِنَ الجِهَادِ الأصغرِ إِلَى الجهادِ الأكبرِ، وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ»، فإذا كان الجهاد على قسمَين فكذلك يلزم في الهجرة أن تكون كبرى وصغرى، فالصغرى على(36) ما تقدَّم، والكبرى: هي هجرة النفس مِن مألوفاتها وشهواتها وإخوانها(37) وأهليها وبنيها(38) وردُّها إلى الله تعالى في كل أحوالها، وقد نصَّ ╡ على ذلك في كتابه حيث / يقول(39): {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا...}(40) [التوبة:24].
          فالزهد في هذه الأشياء هو المطلوب، وخلُوُّ(41) القلب والنفس منها، وحقيقة الزهد هو أعلى مِن هذا، وهو لأهل الخصوص، يشهد لذلك ما حُكِي عن بعض الفضلاء أنَّه قال: زهدت في ثلاثة أيام(42)، الأول: في(43) الدنيا وما فيها، والثاني: في الآخرة وما فيها، والثالث: فيما سوى الله.
          وهذه هي الهجرة العظمى وفقنا الله إليها بمنِّه، ولا يقدر على هذه الهجرة إلا أهل الهمم السَّنِيَّة والمقاصد العليَّة، ومَن كان ضعيفًا لا يقدر على هذه الهجرة فلا يُهِمل نفسه بالكلية، فإن ذلك علامة على الخسران، وليأخذ نفسه بالرفق والمسايسة(44) في الجهاد والهجرة؛ لأنَّ المرء في نفسه شبيه بذلك؛ لأنَّ بدنه كالمدينة، والعقلَ والملَك كالمسلمين، والشيطانَ والنفسَ والهوى أعداء، فيحتاج أولًا إلى الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، والهجرة هنا عبارة عن خروجه عن رأي النفس والهوى والشيطان ورجوعه إلى رأي العقل والملك حتَّى يستفتح بلاد العدو، والفتح هنا عبارة عن أَسْرِ النفس والشيطان والهوى، وأن يكون العقل والملَك(45) هما الآمران الناهيان على الجوارح، فإذا حصل للمريد هذا الحال فلا يحتاج بعد ذلك / إلى جهاد _أي:(46) إلى مجاهدة_ لأنَّ المجاهدة لا تراد لذاتها وإنما المقصود منها حصول هذه الصفة وقد حصلت، كما أنَّ الجهاد لا يُراد لذاته وإنما يراد لفتح(47) البلاد للإسلام وأسر العدو وإسلامه(48).
          وقد روي أنَّ القلب للملك، والعقل والهوى والنفس والشيطان كالميدان يعتركون فيه فأيهم غَلب وسَكَنَ(49) القلب كان هو الآمر(50) على الجوارح، فحصلت النسبة(51) بينه وبين ما نحن بسبيله من حكم الظاهر مِن كل الجهات، فمَن له لُبٌّ يفهم ما أشرنا إليه ويعمل عليه يحصل إن شاء الله على المراد لكن ذلك بعد الافتقار إلى الله تعالى وطلب العون منه في كل اللحظات(52) وإلا فلا ينفع الحذر والجهاد والهجرة في الغالب(53).
          الوجه الثاني: قوله ╕: (وَلَكِنْ(54) جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) فإذا(55) وقع الفتح للمريد يحتاج عند ذلك إلى الجهاد، ونعني (بالجهاد) هنا(56): المبادرة إلى أفعال البر بكلِّ ممكن ولا تُترك(57) بالتسويف بلعل وعسى(58)؛ فإنْ بذلك تفوت الغنائم، فإذا(59) ظفر بالفتح والغنيمة فيحتاج(60) عند ذلك إلى إخلاص النيَّة في كلِّ الأفعال ويَبتهلُ(61) بها، والحذرَ الحذرَ مِن وقوع العمل دونها؛ لأنَّ الأعمال بحسب ما احتوت عليها النيَّات، فإذا حصل للمريد هذا الحال فقد حصل له الجهاد والنيَّة.
          الثالث: قوله ╕: (فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) وهو على وجهين: فحكم يختصُّ بالشخص نفسه، وحكم مُتَعَدٍّ لغيره.
          فأمَّا ما يختصُّ بالشخص(62)، / فهو أنَّه إذا تحصَّلت له هذه الحالة السَّنِيَّة _أعني: الفتح والجهاد_ وتخلَّصت(63) له النيَّة على ما قرَّرنا يحتاج(64) عند ذلك إلى محاسبة نفسه في كل أوقاته لئلا تقع منه غفلة فيظفر العدو بمَن ملك القلب في شيء من التصرفات، فيقع بذلك الخلل بعد وقوع النصر والظفر، فإذا حاسب المرء نفسه في(65) أقلِّ شيء يقع(66) له مِن ذلك استيقظ له فرجع عنه، فإن لم يقدر على تركه فقد ظفر العدوُّ ثانية(67) وظهر، وهذا هو موضع الاستنفار أيضًا؛ لأنَّ الملَكَ والعقل قد غلبا، فيدخل أيضًا في المجاهدة حتَّى يزيل ما وقع.
          وأمَّا ما عدا الشخص فذلك لا يكون إلا لِـمَن حصلت له هذه الأحوال التي قدَّمنا ذكرها وتمكَّن فيها، فحينئذٍ يجب عليه أن ينظر في حقِّ الغير، فإذا جاءه(68) أحدٌ ممَّن غلب عقلُه ومَلَكُه يطلبُ منه النصرة فيجب عليه إذ ذاك نصرتُه؛ لأنَّ هذا هو(69) موضع الاستنفار، والنصرة هنا: عبارة عن الدعاء في ظهر(70) الغيب، وبيان(71) كيفية خاطر الملَك، والعقل الذي(72) قد غلب عليه، وبيان(73) كيفية خاطر النفس والهوى والشيطان وبما يتحرَّز مِن وقوع الهزيمة، وبما تحصل الغنيمة، والله المستعان.


[1] في (م): ((عن ابن عباس قال)).
[2] قوله: ((وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)) زيادة من (م) على النسخ.، وقوله بعدها: ((الحديث)) ليس في (م).
[3] في (ط) و(م) و (ل): ((لكن)) والمثبت من (ج).
[4] قوله: ((إن)) ليس في (ج) و (ل).
[5] قوله: ((لم يزل)) ليس في (ل).
[6] في (ل): ((وكذلك الخروج أيضا من غلب)).
[7] في (ج) و(م): ((لهذا)).
[8] قوله: ((والفرار من شاهق إلى شاهق)) زيادة من (ج) و(م).
[9] في (ل): ((معا)).
[10] قوله: ((إنما)) ليس في (م).
[11] قوله: ((الأولى في تضعيف الثواب والأجر وأما تلك الهجرة)) ليس في (ل).
[12] في (ل): ((إن الذين)).
[13] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[14] في (ج): ((فهم)).
[15] زاد في (م): ((معاً)).
[16] في (ج): ((العهد فيهما))، وفي (م): ((العمدة فيها)) وفي (ل): ((العمرة فيهما))، وبعدها في (ط): ((مع))، وقوله: ((معاً)) ليس في (م).
[17] في (م): ((الكلام على هذا الحديث))، وفي (ط): ((الكلام عليه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] قوله: ((الوجه)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[19] في (ج): ((لم يرتفع ولم يزل)).
[20] في (ط) و (ل) : ((جهاد))، وفي (م): ((وإنما يكون جهاداً)) والمثبت من (ج).
[21] قوله: ((قد)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[22] في (ج): ((وما يبلغ)).
[23] قوله: ((الوجه)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[24] في (ل): ((وإذا)).
[25] قوله: ((إذا)) ليس في (ج).
[26] في (ل): ((عنهم)).
[27] في (م): ((وكذلك ممن أتى من)).
[28] قوله: ((إذا استُنفِروا ومن كان عليه فرض كفاية فهو بالخيار إن شاء خرج فله الأجر وإن لم يخرج فلا حرج)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى، ولكن في (م): ((فهو بالخيار إن شاء خرج، وإن شاء لم يخرج فلا حرج)) بدل: ((فهو بالخيار إن شاء خرج فله الأجر وإن لم يخرج فلا حرج)).
[29] قوله: ((ذلك)) ليس في (م).
[30] قوله: ((فرض)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[31] في (م): ((فإن)).
[32] في (م): ((كفاية فيكون)).
[33] قوله: ((الوجه)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[34] في (م): ((لقوله)).
[35] في (ط) و (ل): ((جهادين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[36] قوله: ((على)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[37] في (ل): ((وأخواتها)).
[38] في (م): ((من مألوفاتها وإخوانها وأهليها وبنوها وشهوتها)).
[39] في (ج) و(م): ((قال)).
[40] في (ل): ((قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم إلى فتربصوا)).
[41] في (م): ((في خلو)).
[42] زاد في حاشية (ل): ((أشياء)) ولعلها بدل أيام.
[43] قوله: ((في)) ليس في (م).
[44] في (ل): ((والسياسة)).
[45] في (م): ((والهوى والشيطان وأن الملك والعقل)).
[46] قوله: ((جهاد أي)) ليس في (ج) و(م).
[47] قوله: ((لفتح)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[48] في (ل): ((أو إسلامه)).
[49] في (ط): ((سكن)) والمثبت من النسخ الأخرى، والعبارة في (المطبوع): ((القلب كالميدان، فيه الملك والعقل والهوى والنفس والشيطان يعتركون فيه)).
[50] في (ج): ((الأمير)).
[51] زاد في (م): ((ما)).
[52] في (م): ((الخطاب)).
[53] قوله: ((في الغالب)) ليس في (ل).
[54] قوله: ((ولكن)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[55] في (م): ((وإذا)).
[56] في (ل): ((إلى الجهاد فالجهاد هنا)).
[57] في (ج) و (ل): ((ولا يترك)).
[58] في (ل): ((ومتى)).
[59] في (م): ((وإذا)).
[60] في (ل): ((فنحتاج)).
[61] في (م): ((ويعتل)).
[62] في (م): ((به الشخص)).
[63] في (ج): ((وتحصلت)).
[64] في (ج): ((فيحتاج)).
[65] قوله: ((في)) ليس في (ج) و(م).
[66] في (ط) و (ل): ((يطرد)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[67] في (م): ((الثانية)).
[68] في (ج) و(م): ((جاء)).
[69] قوله: ((هو)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[70] في (م): ((في الدعاء عن ظهر)).
[71] في (ج): ((ويبان)).
[72] في (ج) و (ل) : ((للذي)).
[73] في (ج): ((ويبان)).