بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل

          191- قوله صلعم : (الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ...) الحديث. [خ¦3473]
          ظاهر الحديث الإخبار أنَّ الطاعون رِجْسٌ أُرسِل على طائفةٍ مِن بني إسرائيل، ثمَّ بعد ذلك يدلُّ على حكمين: (أحدهما): مَن سمع أنَّ(1) الطاعون بأرضٍ فلا يدخُلْها، و(الآخر): النَّهي لمن كان بأرضٍ ووقع الطاعون بها فلا يخرج فرارًا منه.
          والكلام عليه مِن وجوه:
          منها(2) قوله: (عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ(3) بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) الشَّك هنا(4) من الراوي في أيِّهما قال سيِّدنا صلعم، وهذا(5) دالٌّ / على تحرِّيهم في النقل وصدقهم.
          قوله: (رِجْسٌ) أي: عذاب.
          وهنا بحث في قوله ◙ : (فَلَا(6) تَقْدَمُوا عَلَيْهِ)، و(لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) هل هو تعبُّد لا يعقل(7) له معنى أو له(8) وجه من الحكمة يعقل(9)؟
          أمَّا قوله: (فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ): فوجه الحكمة فيه قد نبَّه الكتاب العزيز عليه(10) بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فإنَّ الدخول إلى موضع النِّقم تعرُّضٌ للهلكة، فليجزع من ذلك، وليتأدَّب بأدب الحكمة.
          وهذا تنبيه منه صلعم من أجل أنْ يأتي أحد ويستعمل هنا متضمَّن قوله تعالى: {قُلْ(11) لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} [التوبة:51] فمنع ◙ أنْ يعارَضَ(12) هنا متضمَّن الحكمة وهو الفرار مِن المهالك بالقدَرِ، فإنَّه مِن باب التجربة، والعبوديةُ لا تُجَرِّبُ المَواليةَ، ومثل ذلك قال عيسى ◙ حين لقيه اللَّعين وهو في سياحته على قبَّة(13) جبل، فقال له اللعين(14): تَرَدَّ مِن قبَّة(15) هذا الجبل وما عليك لأنَّك تقول: لن يصيبك إلا ما كتب الله لك، فقال له عيسى ◙ : إنَّ المولى يجرِّب(16) عبدَه، وليس العبدُ يجرِّب مولاه.
          ويترتَّب على هذا مِن الفقه: التزام الأدب مع الرُّبوبية واستعمال الحكمة حيث أمر بها واستعمال القَدَر حيث أمر به، وفي هذا دليل(17) لأهل السُّنَّة فإنَّ هذه طريقتهم(18) خلافًا / للقدرية والجبرية، ولا يعارضنا(19) أحوال القوم الذين عملوا على أنْ لا يلتفتوا في مواضع المهالك(20) إلى شيء مِن الأشياء ونجوا منها ولم تضرَّهم(21)، فإن الانفصال عنه أنَّهم لم يفعلوا ذلك إلا بغلبة الحال الذي ورد عليهم حتى لم يروا في الوجود إلا صاحب الوجود، والحال حامل لا محمول، ولهم في ذلك الاقتداء بسيِّدنا صلعم حيث قال ◙ : «فِرَّ مِن المجذوم كما تفِرُّ مِن الأسد» ثمَّ أكل صلعم مع المجذوم في صحفة واحدة وقال: «بسم الله: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا».
          فالأمر الأوَّل سُنَّته(22) صلعم، والفعل بعده(23) طريقته صلعم، فمَن كان له حال صادق فهو متَّبع له ◙ في طريقته، ومَن لم يكن له حال صادق فلْيتبع(24) سُنَّتَه ◙ ولا يدخل في اتباعه في حاله، لأنَّه عريٌّ عن الوصف الذي(25) شرط فيها، فيكون ممن ألقى بيده إلى التهلكة، لأنَّه أتى الشيء مِن غير وجهه، ألا ترى إلى قوله ╡ : {وَتَزَوَّدُوا } [البقرة:197] ثمَّ قال: {فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة:197] فإذا كان معك خير الزاد سِر حيث شئت وإن لم يكن معك منه شيء يكفيك فلا تتحرك إلا بالزاد المحسوس المبلِّغ على العادة(26) في ذلك وإلا كنت عاصيًا.
          وفيه دليل: على الأخذ بسدِّ الذريعة الذي عليه / تدلُّ قواعد الشريعة في غير ما موضع.
          ويترتَّب عليه مِن الفقه أنَّك إذا أردت أنْ تقدم على موضع أنْ تسأل أوَّلًا عن أخباره حتى تعلم على ماذا تُقْدِم؟ هل يجوز لك الإقدام عليه أم لا؟ لأنَّه قد يكون بالقرب منه مِن حيث أنْ يكون بينك وبينه الميل أو الميلان(27)، فتسمع بمثل الطاعون فلا يجوز لك دخوله وقد يكون لك في الرجوع مفسدة في حالك(28) أو دينك فتقع بين محذورَين، ويكون سبب ذلك تفريطك في السؤال عن(29) ذلك الموضع والمفرط نادم.
          وهنا بحث وهو أنْ يقال: هل هذا النهي يقصر على الطاعون ليس إلا أو يتعدَّى ذلك(30) بالعِلَّة وهي حيث يعلم(31) موضع ضرر لا يقدم عليه، لا(32) سيما إذا كان متحققًا أو يكون غالبًا في الدِّين؟ فالنظر يعطي تعدِّيه مِن أجل وجود العِلَّة كما عدُّوا(33) بذلك أحكامًا كثيرة(34)، ويقويه قوله تعالى: {وَلَا(35) تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وهو لفظ عامٌّ.
          وأمَّا الحكمة في قوله ◙ : (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) فهو إعلامٌ بأن القدَر إذا نفذ لا ينفع(36) أثر الحكمة فيه ولا تردُّه، فإنَّ الله ╡ يقول {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] أي: إنَّه(37) لا يُرَدُّ وهو نافذ لا محالة، فكما أَمرَنا قبلُ أنْ لا نُعارضَ الحكمةَ بالقَدَر كما تقدَّم الكلام فيه، أرشَدَنا هنا أنْ لا نُعارض القَدَر بأثر الحكمة وأن نلتزم الأدب في الطريقين(38)، والتسليم لِمَا اختاره مَن له الخلق والأمر سبحانه وتعالى، ولذلك قال صلعم : «لا تتمنُّوا لقاء / العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنَّ الجنَّة تحت ظلال السيوف»، معناه: التزموا(39) في كلِّ وقت الأدب فيما أقمتم فيه بحسب ما شرع لكم.
          وفي هذا دليل لطريق القوم الذين يقولون: اشغل وقتك بما وجب عليك فيه أو(40) ندبت إليه، ولا تلتفت إلى ما قبل ولا إلى ما بعد تفز(41) بربح الدارين، أي: بخيرهما(42).
          وفيه وجه آخر مِن طريق النظر والتحقيق وهو أنَّه إذا أرسل ذلك العذاب على تلك البقعة التي كان النَّاس بها، فالمقصود بالعذاب أولئك النَّاس لا البقعة نفسها، فمَن كان قد نفذ حكم الله تعالى فيه بإصابة ذلك البلاء فأينما فَرَّ(43) فأمر الله لا يفارقه حيث كان، فهروبه زيادة في التعب، وإن كان ممَّن لم(44) يقدَّر عليه بشيء مِن ذلك فيحصل له(45) في قعوده إذا كان صابرًا(46) محتسبًا أجر شهيد، كما ذكر في الحديث بعد هذا، وراحة بدنه(47) وهو صلعم بالمؤمنين رحيم(48)، فلمَّا علم ما أشرنا إليه أرشدهم إلى ما فيه نفعهم وهو قعودهم حيث كانوا.
          وفيه دليل: على تحقيق نصحه ╕ ورفقه بأمَّته، يؤخذ ذلك مِن قوله (فِرَارًا مِنْهُ) حتى يبقى النَّاس(49) على تصرُّفهم الذي(50) كانوا عليه قبل هذه النازلة(51)، بحسب ما يقتضيه ما عهدوا مِن عادتهم في مصالحهم وتصرفاتهم في ذلك بقدر ما يظهر لهم فيه، فإنَّه لو لم يَرِد النهي بهذه الصفة لكان / النَّاس إذا وقع بهم(52) ذلك الأمر زادتهم الشدة لمنعهم مِن تصرُّفهم في منافعهم على عادتهم قبل.
          وفيه دليل: لمذهب مالك في الذي(53) يكون له مال تجب فيه الزكاة فيتصرَّف فيه قبل الحول تصرفًا ينقله به عن الحالة التي تجب فيه الزكاة، إنْ كان ذلك(54) التصرُّف خوفًا مِن الزكاة لا ينفعه وتؤخذ منه الزكاة، وإن كان لمصلحة في ماله سقطت عنه الزكاة.
          مثاله أنْ يكون له نصاب مِن المال فإذا قرب الحَول اشترى به عَرَضًا أو حيوانًا ممَّا تسقط الزكاة فيه(55) عنه، فإن(56) فعل ذلك هروبًا مِن الزكاة أخذ بالزكاة عند حلول(57) النصاب، وإن كان ذلك لمصلحة ظهرت له ولم يقصد الهروب مِن الزكاة عومل بحسب ما يقتضيه(58) حال وقته مِن تأخير الزكاة أو غير ذلك على حسب ما هو مذكور في كتب الفروع.
          وفيه دليل: على أنَّ الأصل في الأعمال بحسب النيَّة فيها، يُؤخذ ذلك مِن كون الخروج الذي ليس بنيَّة الهروب ممَّا نزل لم يُنْهَ عنه، والذي(59) هو نيَّتُهُ الهروب نهى عنه، ويؤيِّد ذلك قوله ╕: «الأعمال بالنِّيَّاتِ».
          وبقي هنا بحث، وهو أنَّه ╕ قد نهانا أنْ نتسبَّب في دفع ما قدر بالخروج، وأمرنا بالتسبُّب في دفع البلاء بأسباب الطاعات، وهو قوله صلعم : «ادفعوا البلاء بالصدقة»، وقوله جل جلاله: / {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فدلَّ أنَّهم لو تسبَّبوا بالدعاء والضراعة عند نزول البلاء لرفع عنهم، والجمع بينهما(60) بقوله ╕: «لا يُنال ما عند الله إلا بطاعة الله» وما عند الله للعبيد إمَّا خير يطلبوه(61) منه، أو شرٌّ يدفعه(62) عنهم، فلا يُنال واحد منهما إلا بطاعته ╡ ، فإنَّ التسبُّب في ذلك بغيرها لا ينفع، ويؤيِّد ذلك قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ } [الذاريات:50] أي: إنْ أردتم الخير والسلامة مِن الشَّر ففرُّوا إلى الله، والفرار إلى الله سبحانه وتعالى إنَّما هو بامتثال أمره واجتناب نهيه ولذلك قال:
مالي سواك عِدَّة مالي فكن لي                      وإن لم تكن لي فمن يكن لي(63)
          وقال:
بالطاعة(64) فتحصَّن إنْ كنت لبيبًا
وبالله فَثِق(65) إنْ كنت منيبًا
وعلى الله توكَّل(66)يكن لك حسيبًا


[1] في (ج): ((يسمع بأن)).
[2] في (ج) و (م): ((منها)). كالاصل.
[3] قوله: ((على طائفة من)) ليس في (ج).
[4] قوله: ((هنا)) ليس في (ج).
[5] في (ج): ((وهو)).
[6] في (ج): ((لا)).
[7] في (ج): ((يفهم)).
[8] في (ج): ((هو)).
[9] قوله: ((يعقل)) ليس في (ج).
[10] في (ج): ((عليها)).
[11] قوله: ((قل)) ليس في (م).
[12] في (ج) و (م): ((تعارض)).
[13] في (م): ((قُنَّة)).
[14] قوله: ((فقال له اللعين)) ليس في (م).
[15] في (م): ((قُنَّة)).
[16] في (م): ((إن المرء لا يجرب)).
[17] قوله: ((التزام الأدب مع الرُّبوبية... أمر به، وفي هذا دليل)) ليس في (ج).
[18] في (ج) و (م): ((طريقتهم)). كالاصل.
[19] في (ج): ((ولأن تعارضنا)).
[20] في (م): ((الهلاك)).
[21] في (ج): ((تضره)).
[22] في (ج): ((سنة)) وفي (م): ((فالأمر أول سنته)).
[23] في (ج): ((بعد)).
[24] في (م): ((فمن كان له حال صدق فليتبع)).
[25] زاد في (ج) و (م): ((هو)).
[26] في (ج): ((العبادة)).
[27] في النسخ: ((الميلين)).
[28] في (م): ((في ذلك في حالك)).
[29] في (ج): ((من)).
[30] في (ج): ((لذلك)).
[31] في (ج): ((وهو حيث تعلم)).
[32] في (ج): ((لا تقدم لا)).
[33] في (ج): ((عدوه)).
[34] في (م): ((كثيرا)).
[35] في (ج): ((لا)).
[36] في (ج): ((تنفع)).
[37] قوله: ((إنه)) ليس في (ج).
[38] في (م): ((الطرفين)).
[39] في (ج) صورتها: ((التي موا)) وهو تصحيف.
[40] في (ج): ((وإن)).
[41] في (ج) صورتها: ((تمرير)) وهي غير واضحة**.
[42] في (ج) صورتها: ((يحبرهما)).
[43] في (م): ((فأين ما مر)).
[44] في (ج): ((لا)).
[45] زاد في (ج) و (م): ((له)). كالاصل.
[46] في (ج): ((صائما)).
[47] في (ج): ((في الحديث وراحة بدنه بعد هذا)).
[48] في (ط): ((رحيمًا)) بالنصب، والمثبت من النسخ الأخرى.
[49] في (ج): ((حتى الناس يبقى)).
[50] في (ج): ((التي)).
[51] صورتها في (م): ((المنازلة)).
[52] في (ج) و (م): ((بهم)). كالاصل.
[53] في (ط): ((الذين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[54] في (م): ((تجب فيه الزكاة فيتصرف ذلك)).
[55] في (ج) و (م): ((به)).
[56] زاد في (ج) و (م): ((كان)).
[57] زاد في (ج) و (م): ((حول)).
[58] في (ج): ((تقتضيه)).
[59] قوله: ((ليس بنية الهروب ممَّا نزل لم يُنْهَ عنه والذي)) ليس في (ج).
[60] في (ج) و (م): ((بينهما)). كالاصل.
[61] في (ج) و (م): ((يطلبونه)).
[62] في (م): ((يرفعه)).
[63] في المطبوع: ((إن لم تكن لي رب من يكن لي)).
[64] في (ج): ((بالطاعات)) وفي (م): ((وبالطاعات)).
[65] في (ج): ((التوفيق)).
[66] في (ج) و (م): ((فتوكل)).