بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد

          167- قولهُ صلعم : (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ(1)...) الحديث. [خ¦3269]
          ظاهر الحديث الإخبار بأنَّ الشيطان يعقِد على قافية رأس النائم إذا نام ثلاث عُقَد، وأنَّه لا يَحُلُّها إلا تلك الشعائر المذكورة في الحديث، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: هل ذلك العقد هو في القافية نفسها أو هو في / شيء آخر يجعله الشيطان على القافية؟ وهل ذلك لكلِّ نائم كان مِن أهل الخصوص(2) أو من(3) غيرهم؟ أو ذلك العقد يتجدَّد في كل نوم ينامه بالليل؟ وأنَّه إذا استيقظ وذكر وتوضأ وصلَّى ثمَّ نام عاد الشيطان يعقد ثانية أو ثالثة كلما عاد إلى النوم(4) عاد هو إلى العقد؟ أو(5) أنَّه إذا فعل تلك الطاعات ثمَّ نام بعدُ لا يعود الشيطان إليه؟ وهل ذلك لكل مُصَلٍّ على أي حال كان؟ أو ذلك لمن قُبِلَت صلاته وكان مِن أهل التوفيق؟
          فالجواب(6) عن الأَوَّل وهو قولنا: هل العَقد في القافية نفسها؟
          ومعنى القافية هنا: هي آخر الرأس ممَّا يلي الظهر، أو هو في شيء آخر؟ الظاهر أنَّه في شيء آخر بدليل قوله: (عَلَى) ولو كان فيها نفسها لقال: (فيها)، وزاد ذلك بيانًا بِقَوْلِهِ: (يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ) لأنَّ هذه الصفة صفة ما تفعله السَّحَرة إذا سحروا شخصًا إنَّما يفعلون ما يفعلونه مِن السِّحر في شيء بأيديهم ويعقدون فيه العُقَد، ويسمُّون ما يشاؤون من أنواع سحرهم، ولاحتمال آخر، لأنَّ مِن النائمين(7) مَن ليس له شَعر ففيمَ يربطون وهو الغالب مِن النَّاس؟
          والجواب عن الثَّاني وهو: هل ذلك على عمومه في أهل الخصوص(8) وغيرهم؟ اللفظ يعطي العموم لكن يخصصه الآي والحديث، أمَّا الآي فمنها قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وأمَّا الحديث فمثل قوله صلعم : «مَنْ قَرَأَ / عندَ النَّومِ سورةً مِنَ القرآنِ كَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُصْبِحَ»، و«مَنْ قَرَأَ آيةَ الكُرْسِيِّ عندَ مَسَاءِهِ كَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ» أو كما قال ◙ ، «وَ(9)مَنْ قالَ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذلكَ حَتَّى يُمْسِي، وَلَيْلَتَهُ حَتَّى يُصْبِحَ» أو كما قال ◙ ، والأحاديث في ذلك كثيرة.
          فهذا يخصص عموم اللفظ، وجاء الحديث مخبرًا بما يعمل مَن(10) نسي التحرُّز مِن الشيطان أوَّل ليله(11) ولم يكن مِن الخصوص الذي(12) لم يُجعل للشيطان عليهم سلطانًا كما أخبر صلعم أنَّ الشيطان(13) يأكل مع مَن لم يُسمِّ، وأنَّ مَن سَمَّى لا يأكل معه، وكذلك الشُّرب، وكذلك الجِماع، وكذلك دخول المنزل(14)، فهو صلعم قد نبَّه على مكائده كلِّها وجميع وجوه تسليطه علينا، وبيَّن المخرج منها والتحرُّز منها أيضًا، فجزاه(15) الله عنا خيرًا.
          ومـمَّا يوضِّح ما قلناه أنَّ بعض العُبَّاد(16) جاء يدخل مسجدًا في البَرِّيَّة، وكان ممَّن أُعطي شيئًا مِن المكاشفات، فرأى شيطانَين على باب المسجد وأحدهما يقول للآخر: ادخل أغْوِ ذلك المصلِّي، فقال له: لا أقدر، ذلك النائم يحرقني بنَفَسِهِ(17)، فتعجَّب العابد كيف يخاف الشيطان مِن النائم ولا يخاف مِن المصلِّي؟ فلمَّا دخل أبصر النائم إبراهيم بن أدهم، فانظر هل يعقد الشيطانُ على قافية مثل ذلك السيِّد شيئًا وهو لا يقدر أن(18) يقرب إليه؟ وكما قال / سيِّدنا رسول الله صلعم لِعُمَر: «مَا سَلَكْتَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَ فَجِّك» فإذا كان لا يقدر أن يخطر(19) في طريقه فكيف(20) يعقد على ناصيته؟ هذا محال.
          والجواب عنِ الثَّالث وهو: هل يتعدَّد العقد كلَّما نام وإن كان قد فعل ما ذكر أم لا؟
          ظاهر الحديث يقتضي أنَّه إذا فعل ذلك لا يعود العقد إليه، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (أَصْبَحَ نَشِيطًا(21) طَيِّبَ النَّفْسِ).
          والجواب عن الرَّابع وهو: هل ذلك لكلِّ مصلٍّ، كان حاله كيف كان؟
          لفظ الحديث يعطي الاحتمال لكن يخصصه قوله ╕: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ(22) مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا» فمَن هو بعيد مِن(23) الله تعالى _أعاذنا الله مِن ذلك بجاه سيِّدنا محمد صلعم _ كيف لا يعقد الشيطان عليه ويلعب به كيف شاء؟ بل(24) هو في ذاته شيطان كما قال جلَّ جلاله: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] كيف حال مَن بات آكلًا للحرام(25) ظالمًا للناس مدمنًا خمرًا ؟كيف لا يعقد الشيطان على هذا، ومتى تصبح نفس هذا طيبة؟ بل هذا خبيث النفس(26) في كل حال، أعاذنا الله مِن ذلك بمنِّه وكرمه(27).
          ولا يقع على مثل هذا (مصلٍّ) حقيقة، لأنَّه / في طبقة المبعودين الذين قال ╕ فيهم(28): «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا»، ومِن أجل الجهل بحقيقة هذه الأحاديث أخذها بعض النَّاس على ظاهرها وعملوا عليها، وهم(29) ضيَّعوا الأصول وظنُّوا أنَّهم قد حصل لهم المقصود، وهيهات هيهات ما أكثر الجهل والعمى! ولذلك قال صاحب «الأنوار» فيمن ارتكب هذا العمى وما شابهه: فردُّوا الأصولَ فروعًا والفروعَ أصولًا.
          وفقه هذا الحديث وأشباهه أنَّ جميع الخيرات الواردة في الكتاب والسُّنَّة هي لأهل التوفيق، وذلك أنَّ صحة البدن البشري هي بالحِمية والدواء، وأجمع أطباؤه أنَّ الحمية للبدن أنفع مِن الدواء، فذلك(30) الدِّين حِمية ودواء، فالحِمية فيه أنفع مِن الدواء ولا يُنتفَع بالدواء(31) إلا بالحِمية أو بأكثرها، والحِمية في الدِّين هي الوقوف مع الأمر والنهي، افعل كذا، لا تفعل كذا، كما يقول طبيب الأبدان: أَنْ كُلْ كذا، ولا تأكلْ كذا، ودواء الدين مثل هذا الحديث وأشباهه من قوله صلعم : «مَنْ فَعَلَ كَذَا كَانَ لَهُ كَذَا» مِن أنواع التعبُّدات والخيرات.
          فإذا فعلها بعد الحِمية وهي اتباع الأمر واجتناب النهي جاءه ما قيل له وزيادة، وإذا فعلها دون الحِمية المذكورة طلب ذلك فلم يجده، فقال له لسانُ الحال: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] لأنَّه ترك(32) الأصل وأخذ الفرع، / وهذه طريقة غير ناجحة، لكن لا نقول لمن ضيَّع الحِمية: لا تأخذ الدواء، فلعلَّ أخذ الدواء يجرُّه إلى استعمال الحمية فيحصل المقصود، كالذي يكون مالُه غيرَ طيِّب نقول له: صدقتك لا تُقْبَل، لأنَّ سيِّدنا رسول الله صلعم قد قال: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» ولا نقول له: لا تتصدَّق لعلَّهُ يتدرج بالخير الذي هو الصدقة، وإن كانت غير مقبولة إلى التوبة والإقلاع.
          وفيه دليل: على أنْ بِصحَّةِ الدين يصحُّ البدن وينشرح الصدر، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم في الذي يقوم ويذكر الله ويتوضأ ويصلِّي أنَّه يصبح نشيطًا طيِّب النفس، ولا يكون نشيطًا طيب النفس إلا مع صحَّة البدن، وقد جاء ذلك نصًّا منه صلعم في قيام اللَّيل، فإنَّه ╕ قال فيه: «إِنَّه يُنَقِّي الذُّنُوبَ، ويُصِحُّ البَدَنَ».
          وفيه دليل: على أنَّ الذنوب تُمرِض البدن، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ(33)) والغالب مِن خباثة النفس لا تكون(34) إلا مع تألُّم في البدن، ونجد ذلك مشاهدًا في أهل البطالة والمعاصي أنَّهم يصبحون غير طيبين في أبدانهم حتَّى يطلع النهار، ويأخذون الأشربة والمعاجين ويعالجون ما بهم من الكسل في أبدانهم هذا مشاهد منهم.
          وفيه دليل: على عظم(35) تسليط(36) الشيطان على بني آدم وما جعل الله ╡ / له على ذلك مِن القدرة، يؤخذ ذلك مِن كونه يعقد في شيء ويُؤثِّر ذلك العقد في بني آدم.
          وفيه دليل: على حرمة الطاعة وحرمة مَنْ أُهِّلَ للعمل بها، كيف لا يضرُّهم شيء لا مِن إنس ولا مِن غيرهم؟ يؤخذ ذلك مِن حلِّ العُقَد ووجود النشاط وفي(37) اليوم بعده زيادة في الخير، فسبحان مَن جعل الخيرَ في التوفيق ويَسَّرَه على أهله، جعلنا الله منهم بمنِّه، لا ربَّ سواه فله الحمد(38).


[1] زاد في (ج) في هذا الموضع: ((ثلاث عقد إذا نام بكل عقدة يضرب عليك ليل طويل فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان فإذا صلى انحلت العقد فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)).
[2] في (م): ((الحظوظ)).
[3] قوله: ((من)) ليس في (ج) و (م).
[4] قوله: ((عاد الشيطان يعقد ثانية أو ثالثة كلما عاد إلى النوم)) ليس في (م).
[5] في (ج): ((و)).
[6] في (م): ((والجواب)).
[7] في (ط): ((الناس)).
[8] في (م): ((أهل الحظوظ)).
[9] قوله: ((و)) ليس في (ج).
[10] في (ج) و (م): ((لما يفعل من)).
[11] في (ج): ((ليلته)).
[12] في (م): ((الذين)).
[13] في (ط) و(م): ((أنه)) والمثبت من (ج).
[14] في (م): ((وكذلك دخول المنزل وكذلك الجماع)) بتقديم وتأخير.
[15] في (م): ((جزاه)).
[16] زاد في (م): ((كان)).
[17] في (ط): ((نفسه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] قوله: ((أن)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[19] في (م): ((يحضر)).
[20] في (ج): ((كيف)).
[21] في (م): ((نشطا)).
[22] في (ط): ((يزداد)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[23] في (ج): ((فمن بَعُدَ من)).
[24] قوله: ((بل)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] في (ج) و (م): ((آكل الحرام)).
[26] قوله: ((النفس)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[27] قوله: ((وكرمه)) ليس في (ط) و(م) والمثبت من (ج).
[28] في (ج): ((في حقهم)).
[29] زاد في (م): ((قد)).
[30] في (م): ((الدواء فكذلك الدين)). (ج): ((الدواء وكذلك الدين)).
[31] في (ج): ((ولا ينفع الدواء)).
[32] في (م): ((لا ترك)).
[33] في (ط): ((كسلاناً)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] في (م): ((النفس ما تكون)).
[35] في (م): ((عظيم))، وكلا اللفظين ليسا في (ج).
[36] في (م): ((تخليط)).
[37] في (م): ((في)).
[38] قوله: ((لا ربَّ سواه فله الحمد)) ليس في (ج) و (م).