بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم

          175- قوله صلعم : (نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا...) الحديث. [خ¦3265]
          ظاهر الحديث الإخبار بعظيم قوَّة حَرِّ جهنم، وأنَّ هذه النَّار جزء(1) مِن / سبعين جزءًا منها، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: الكلام في معنى قوله ╕: (إنَّهَا جُزءٌ مِنْها)، هل المراد أنَّ جميع نار الدُّنيا مِن أوَّلها إلى آخرها هي جزء منها؟ أو الجزء الذي أخرج(2) للدُّنيا منها؟ أو نفس الحرارة التي(3) خلقت لها؟
          والجواب والله الموفِّق للصَّواب: أمَّا صيغة اللفظ، فيحتمل الثَّلاثة(4) وجوه على حَدٍّ سَوَاء، وأمَّا إذا نظرنا من طريق الفائدة، فيبطل اثنان(5) ويصحُّ الوجه الواحد، لأنَّه إذا قلنا: إنَّها(6) جميع نار الدُّنيا مِن أوَّلها إلى آخرها، فهذا لا نعلمه، ولا لنا طريقٌ إليه، فكيف نجعل(7) لنا مثالًا بما(8) لا نعرفه؟ هذا لا تقتضيه الحكمة، ولا يعرف في(9) فصاحة العرب وكذلك الكلام على الوجه الآخر الذي هو مقدار الجزء الذي أُخرج للدُّنيا منها، فما بقي يصحُّ إلَّا قدر الحرارة التي لها(10)، فإنَّ هذا المقدار نعرفه بتحقيق الاختبار(11)، فعلى هذا يكون التَّمثيل بها فائدة.
          وقد جاء عنه ╕ أنَّه قال: «لو أنَّ أهل النَّار وجدوا مثل ناركم هذه لقالوا فيها»، وقد جاء: «إنَّ(12) هذه النَّار تستعيذ بالله تعالى أنْ تعاد إلى تلك النَّار».
          وفيه دليلٌ: على أنَّ مِن حسن الكلام أنْ يقدَّم المعلوم في التَّمثيل، ثمَّ الإخبار على(13) المجهول الغائب، إذا أُريد التَّعريف بحقيقته، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (نَارُكُمْ)، فقدَّمها في الذِّكر على الأخرى، ليُعرف قدر عظمها(14) / للذِّهن به.
          وفيه دليلٌ: على عظيم قدرة الله تعالى، يؤخذ ذلك مِن كون هذه نار وتلك نار، الاسم(15) واحد وبينهما في الحرارة هذا التَّفاوت العظيم.
          وفيه دليلٌ: على ترك(16) التَّلفظ بالكلام الذي فيه الفائدة، إذا كان هناك ما يدلُّ عليه، يؤخذ ذلك مِن قول الصَّحابة ♥: (إِنْ كَانَت لَكَافِيَة)، ولم يذكروا (فيمَ ذا)؟(17) للعلم به وهو العذاب وما(18) يمتحن به مِن أنواع العذاب، لأنَّ النَّار في الغالب لهذا خُلقت.
          وفيه دليلٌ: على مراجعة المفضول للفاضل، يؤخذ ذلك مِن قول الصَّحابة رضوان الله عليهم(19) للنَّبيِّ صلعم : (إِنْ كَانَت لَكَافِيَة).
          وهنا بحث: وهو أنَّه قد تقدَّم في غير ما موضع مِن الكتاب أنَّ الصَّحابة رضوان الله عليهم لا يتكلَّمون إلَّا بما فيه فائدة، فكيف كان كلامهم هنا في شيءٍ قد فرغ مِن خلقه بمقتضى حكمة الحكيم، فيشبه هذا تحصيل حاصل؟
          والجواب عن ذلك: أنَّ هؤلاء السَّادة ليس قولهم هنا هذا على طريق العبث، كما يسبق لفهم مَن لا يُقدِّر قدرهم، وإنَّما الجواب: أنَّ جوابهم(20) بهذه الصَّيغة كان لفوائد، فمنها: أنْ يكون ذلك منهم طمعًا لعلَّه صلعم يجاوبهم على ذلك في حقِّهم وحقِّ إخوانهم بأمر خاصٍّ مِن التَّخفيف.
          يؤيِّد ذلك فعلهم معه صلعم في غير ما موضع ممَّا يشبه هذا، منها حين أخبرهم كيف يقال / يوم القيامة لآدم ╕: «أَخْرِجْ بَعْثَ النَّار مِن بَنِيْكَ، فيقول: يا ربِّ وما بَعْثُ النَّار؟ فيقال(21) له تسعُ مئةٍ وتسعةٌ وتسعون(22) إلى النَّار وواحدٌ إلى الجنة»، فبكت الصَّحابة ♥ عند ذلك، فقال لهم ╕: «مِن يَأجوجَ ومأجوج تسع مئةٍ وتسعة وتسعون(23) إلى النار وواحد منكم إلى الجنَّة»، فعند ذلك زال عنهم ما كان أصابهم مِن الرُّعب.
          وكذلك حين تلا(24) عليهم قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فقالوا: ما أَطْوَلَه مِن يوم! فأخبرهم ╕ أنَّه يُخفَّف على المؤمن حتَّى يكون عنده قدر ما يُوقِع فيه الصَّلاة المكتوبة، أو كما قال ╕، فزال عنهم ما كانوا(25) وجدوا، فهم في هذا الجواب على عادتهم المباركة المفيدة.
          وفيه أيضًا أنَّه ╕ أفادهم فائدة بقوله: (فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ(26) جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا) فأفاد جوابه ╕ لهم(27) أنَّ هذه النَّار ليست مِن تلك ردًا على مَن زعم أنَّها منها، وزاد الاحتمال الذي ذكرناه أولًا في عموم اللفظ فليس ما يكون نصًّا كالذي يكون محتملًا، فظهر بعض ما قصدوا مِن الفوائد وحالهم المبارك(28).
          وفيه دليل: على إضافة الشيء لمن يتصرَّف(29) فيه وإن كان(30) لا يملكه، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (نَارُكُمْ) فأضافها / إليهم وهي ليست لهم، لأنَّ عين جوهرها لا يمكن ملكه إلا للذي(31) خلقه، غير أنَّا إنَّما نملك الشيء الذي نستخرجها(32) منه وهو(33) لا يدوم لأنَّه(34) ساعة وعادت رمادًا، ومما يؤيِّد ذلك قول مولانا جلَّ جلاله(35):{أَفَرَأَيْتُمُ النَّار الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة:71- 72] فتلك الشَّرَرَةُ وهي التي تخرج مِن الزَّنْد عند القدح به مَنْ يَملكها؟ أو كيف يقدر أحد على حبسها؟.
          وفيه مِن الفائدة: أنَّ حرارة تلك النَّار كلِّها على حد واحد، ويعارضنا في هذا الوجه ما جاء أنَّها (سبع طباق(36)، وأنَّ ما سفل منها أعظم مِن الذي يعلوه)، وينفصل عنه بأن يقال: ما بين تلك الدركات مِن عظيم الأمر(37) إنَّما هو مِن أجل أمر آخر منها: سوء المحل، وله مثال هنا مثل لو أنَّ شخصًا يَقِد نارًا(38) على سطح بيتٍ، وآخرَ يقِد مثله في بيتٍ، وآخر يقِد مثلَه(39) في مَطْمورٍ تحت البيت، فنار الثلاثة في نفسها على حد سواء.
          فالذي أوقدها في السطح ما منعه مِن أذاها إلا ما هناك مِن الهواء(40)، والذي في البيت وجد مِن حرِّها ما لم يجد الذي في السطح لانحصاره(41) في البيت وقِلَّة الهواء(42) فيه، والذي(43) أوقدها في المطمورة أشدُّهم لأنَّه انعكس عليه دخانها ولم يخرج عنه مِن جميع حرِّها شيء، فالمحلُّ هو الذي زاد في التعب لِسُوئهِ(44).
          وثَمَّ أيضًا زيادة أخرى(45) كما أخبر / عنهم أنَّه يرسل عليهم الثعابين(46) والأفاعي، وقد جاء أنَّه يوضع على كل مَفصِل مِن مفاصل مَن قدِّر(47) عليه بها سبعون نوعًا مِن العذاب، أو كما قال، فهذا وما أشبهه(48) ليس مِن نفس حرارتها بل هو لمعنى زائد، فبحسب زيادة تلك الأمور يكون(49) سوء حال الشخص فيها.
          ويترتَّب على الإخبار به مِن الفائدة وجوهٌ منها: الخوفُ منها؛ ليكون ردعًا(50) عن موجبها لمن له عقل، والعملُ بالأشياء المنجية منها(51)، وإلاَّ إذا سمع مثل هذه الأخبار ولا يرجع سامعها عن موجبها فلا يخلو مِن أحدِ أمرين:(52) أنْ لا يُصدِّق أو يُصدِّق فإن صدَّق ولم يرجع دخل تحت قوله تعالى {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار} [البقرة:175] قال أهل العلم: معناه: ما أصبرهم على الأفعال التي يعلمون أنَّها توجِب لهم النَّار! فجاء التعجب على بابه(53) أعاذنا الله مِن ذلك بمنِّه(54).
          وإن لم يصدق جاء ما هو أعظم وهو الكفر(55) لأنَّه ╡ قد قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] فلْيَنْتَبِه السامع ويتدارك نفسه(56) في زمان المهلة، أيقظنا الله مِن سِنَةِ الغفلة بمنِّه(57).


[1] في (ج): ((جزءا)).
[2] في (ط): ((أخر)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] زاد في (ط): ((هي مزاجها التي)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ط): ((الثلاث)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[5] في (ج) و (م): ((الاثنان)).
[6] في (ج) و (م): ((إن)).
[7] في (ج): ((يجعل)).
[8] في (ج): ((ما)).
[9] في (ج) و (م): ((من)).
[10] في (ج): ((فيها)).
[11] في (المطبوع): ((الأخبار))، وصورتها في (م): ((المقدار تعرفه تحقيق الأحياء)).
[12] في (ج): ((في)).
[13] في (ج): ((عن)).
[14] قوله: ((يؤخذ ذلك من قوله ╕ (ناركم) فقدمها في الذكر على الأخرى ليعرف قدر عظمها)) زيادة من النسخ على (ط)، وزاد في (ج) أيضًا: ((وفيه من الفائدة تسبق)).
[15] في (م): ((والاسم)).
[16] في (ج): ((تلك)).
[17] في (ج): ((هذا)).
[18] في (ج): ((وهو ما)).
[19] زاد في (ج): ((أجمعين)).
[20] العبارة في (م): ((تحصيل حاصل والجواب أن جوابهم)). وفي (ج): ((تحصيل الحاصل والجواب أن جوابهم)).
[21] في (م): ((فيقول)).
[22] في (ط): ((تسع مائة وتسعون)). في (ج): ((تسعمئة وتسع وتسعين)) والمثبت من (م).
[23] في (ط): ((تسع مائة وتسعون)). في (ج): ((ومأجوج تسعمئة)) والمثبت من (م).
[24] في (ج): ((يتلى)).
[25] في (م): ((ما كان)).
[26] في (ج): ((وتسعين)).
[27] قوله: ((لهم)) ليس في (ج).
[28] قوله: ((ليست من تلك ردًا...من الفوائد وحالهم المبارك)) ليس في (ج) وقوله: ((فأفاد جوابه... من الفوائد وحالهم المبارك)) ليس في (م).
[29] في (ج): ((ينصرف)).
[30] قوله: ((كان)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[31] في (ج) و (م): ((الذي)).
[32] في (المطبوع): ((نسجُرُها)).
[33] زاد في (ج): ((الذي)).
[34] في (ج): ((لأية)). وبعدها في (م): ((ساعات)).
[35] في (ج): ((قول الله سبحانه)).
[36] في (ج): ((أنها طباق سبع)).
[37] في (ج): ((القدر)).
[38] في (ج): ((نار)).
[39] قوله: ((في بيت وآخر يقد مثله)) تكرر في (ط).
[40] في (ط) و(ج): ((الهوى)).
[41] في (ج): ((انحصاره)).
[42] في (ط) و(ج): ((الهوى)).
[43] في (ج) و (م): ((الذي)).
[44] في (ج): ((في محل التعب لسوءه)) وفي (م): ((لسوء)).
[45] قوله: ((أخرى)) ليس في (ج) و (م).
[46] في (م): ((النعاس)).
[47] في (ج): ((يقدر)) وفي (م): ((على كل مفصل من قدر)).
[48] في (ج): ((أشبه)).
[49] في (ج): ((تكون)).
[50] في (م): ((درعا)).
[51] قوله: ((ليكون ردعًا عن موجبها لمن له عقل والعملُ بالأشياء المنجية منها)) ليس في (ج).
[52] زاد في (ج) و (م): ((إما)).
[53] في (ج): ((التعب على باب)).
[54] زاد في (ج): ((وكرمه)).
[55] في (ج): ((للكفر)).
[56] في (ج): ((ففيه)) وفي (م): ((وليتدارك نفسه)). وقوله بعدها: ((في)) ليس في (م).
[57] زاد في (ج) و (م): ((وكرمه)).