بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز

          169- قوله صلعم : (إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلاة...) الحديث. [خ¦3272]
          ظاهر الحديث يدلُّ على النهي عن الصلاة عند ظهور حاجب الشَّمس حتى تبرز(1) وعند غروب حاجبها أيضًا(2) حتى تغيب(3)، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: هل هذا النهي على عمومه في المكتوبة وغيرها أو في النافلة لا غير؟ أو هل(4) هذا في النافلة مطلقًا ما كان منها مأمور به ومرغَّب فيه؟ أو ما كان منها تنفل دون أمرٍ به أو ترغيب فيه؟ مثال المأمور به تحية المسجد وما أشبهها، والمرغَّب فيه مثل الجنازة على أحد الأقاويل، وسجود(5) التلاوة وما أشبه ذلك وهل إذا بدت كلها تجوز الصلاة أو حتى ترتفع(6)؟
          فالجواب(7) عن الأوَّل وهو قولنا: هل ذلك في المكتوبة(8) أو غيرها؟
          أمَّا(9) المكتوبة فلا يخلو أنْ يكون نسيها / أو نام عنها أو غير ذلك، فإن كان تركها عن نوم أو نسيان فيصلِّيها متى ما ذكر(10) في ذلك الوقت المنهي عنه وغيره، لقوله صلعم : «مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها، فذلك وقتها(11)».
          وأمَّا إنْ كان تأخيرها(12) لعذر شرعي مثل الحائض تطهُر، والغلام يحتلم(13) فذلك وقت أدائها في حقِّها، ومَن أشبههما(14) مِن أهل الأعذار الشرعية، وإن كان تأخيرها لذلك الوقت مع الذِّكر والقدرة فقد اختلف العلماء فيه، فمنهم مَن قال: إنَّه مؤدٍّ واقتدى في ذلك بقوله صلعم : «مَن أدرك ركعة مِن العصر قبل أنْ تغرب الشَّمس فقد أدرك العصر».
          وأمَّا إنْ كانت الصبح فقد خرج الوقت(15) وهو آثمٌ بلا خلاف، ومنهم مَن قال(16) في صلاة العصر: مؤدٍّ آثمٌ لقوله صلعم : «يجلس أحدهم حتى إذا اصفرَّت الشَّمس، وكانت بين قَرني الشَّيطان أو على قرنِ الشَّيطان، قام(17) فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا، فتلك صلاة المنافقين، فتلك صلاة المنافقين، فتلك صلاة المنافقين» وهو مشهور مذهب مالك ☼.
          وأمَّا ابتدأ(18) نافلة مِن غير أنْ يعارض هذا الحديث أمر كما تقدَّم أو ندب فلا، ولا خلاف أعرف فيه.
          وأمَّا ما كان يعارضه ندب أو ترغيب كما ذكرنا، فاختلف / العلماء في ذلك على قولين: فمنهم مَن أجاز وهو مذهب الشافعي ⌂ ومَن تبعه، ومنهم مَن منع وهو مذهب مالك ☼ ومَن تبعه، إلَّا أنَّ في مذهب مالك ☼ في الصَّلاة على الجنازة قولين مِن أجل الخلاف: هل هي(19) على الوجوب أم لا؟ وكذلك في سجود التِّلاوة في مذهب مالك قولان أيضًا.
          وأمَّا الجواب: على جوازها إذا بدا القرص(20) كلُّه، فالظَّاهر مِن الحديث الجواز، وقد جاء في سنن أبي داود: «حتى تَرتَفعَ(21) قَدْرَ الرُّمْحِ»، وقد جاء في(22) أثر آخر: «قدر عصاتين»، وعلى ارتفاعه قدر الرُّمح هو العمل عند الفقهاء(23)، لأنَّ هذا الحديث جاء محتملًا(24) ولا نص بتحديد(25) الوقت، فيكون الذي جاء فيه نصٌّ بتحديد الوقت مبينًا لهذا على عادة أهل الحديث في ذلك.
          وقوله ╕: (ولا تَحيَّنوا بصلاتكم) معناه: تَتَحرَّوا بها وتقصدوا طلوع الشَّمس ولا غروبها.
          وقوله ╕: (فإنَّها تطلع بين قرنَي الشَّيطان أو الشَّياطين(26))، الشَّكُّ هنا مِن الرَّاوي، وفيه دليلٌ: على فضلهم(27) وتحرِّيهم في النَّقل كما تقدَّم في غير ما موضع.
          وهنا بحث في قوله ╕: (بَيْنَ قَرْنَي الشَّيْطَان) هل هذا على ظاهره أو هو على معنى آخر؟ وإن كان على ظاهره كيف تكون الكيفية والشَّمس إنَّما هي في السَّماء الرَّابعة، والشَّياطين ممنوعون مِن سماء(28) الدُّنيا فكيف بالرابعة؟
          فالجواب(29) والله أعلم: إنْ قلنا: إنَّه على / ظاهره فقد جاءت صورة الكيفيَّة في ذلك، وهو أنَّه ينتصب لها عند طلوعها وكذلك عند الغروب، وكل شيء ينتصب للشَّمس(30) في ذلك الوقت يمتد ظلُّه على الأرض، ثمَّ يغوي الكفَّار(31) الذين يعبدون الشَّمس، فيسجدون لها فيكونون قد(32) سجدوا لظلِّ قَرنه.
          وهو يَقنَع(33) مِن بني آدم بما أمكنه مِن أيِّ وجه قَدَر، ويغوي المؤمنين المصلِّين حتَّى يتحرَّوا بصلاتهم(34) ذلك الوقت فيحصل له في عبادتهم مشاركة ما، وقد(35) قالت عائشة ♦ في قول مولانا جلَّ جلاله(36): {أَضَاعُوا الصَّلاة وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]: «والله ما تركوها وإنَّما أخَّروها(37) عن وقتها».
          وتشبه(38) مكيدته هنا كما فعل بحوَّاء(39) حين حملت، فخوَّفها ممَّا في(40) بطنها، ثمَّ قال لها: سمِّيه عبد الحارث، لأنَّ اسمه الحارث، ورجَّاها بكل خير إذا سمَّته بذلك، كما نصَّ الله ╡ (41) على ذلك في كتابه حيث قال: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأعراف:189- 190].
          واحتمل أنْ يكون على معنى ثانٍ، وهو أنَّه لَمَّا كان هذا وقت تعبُّد(42) الكفَّار، وجميع(43) تعبُّدات الكفَّار إنَّما هي مِن الشَّيطان، فكان هذا الوقت مما يعبد(44) فيه الشَّيطان، وقد نُهينا أنْ نتشبَّه(45) / بأهل الكتاب، فكيف بغيرهم؟ واحتمل الوجهين معًا.
          وفيه دليلٌ: على تحقيق الإخلاص في العبادة، يؤخذ ذلك(46) مِن النَّهي عن هذه الأوقات، مِن أجل هذه الشُّبَهِ(47) الخَفِية التي لا نعلمها(48)، فكيف بغير ذلك؟
          وفيه دليلٌ: على كثرة ما خصَّ الله تعالى به(49) هذه الأمَّة مِن الخير بهذا النَّبي الكريم صلعم، الذي قد(50) نبَّهَنا على جميع مكائد عدونا بمثل هذا الحديث والأحاديث التي تقدَّمت والتي بعد، حتَّى لم تبقَ(51) له مكيدةٌ إلَّا نَبَّهَنا(52) عليها، وبيَّن لنا المخرج(53) منها والتحرُّز منها، صلَّى الله عليه وعلى آله أفضل الصَّلاة والتَّسليم، وفيه(54) وفيما تقدَّم مِن الأحاديث دليلٌ على كثرة اشتغال هذا العدوِّ بنا وأنَّه لا يَغفُل(55).
          ويترتَّب على ذلك مِن الفقه: التَّيقظ لذلك، والاشتغال بقهره وزجره، والأخذ فيما يغيظه مِن الأقوال والأفعال ويقطع ظهره أعاننا الله على ذلك بمنِّه.
          وفيه دليلٌ على عظيم لطف الله تعالى بهذه(56) الأمَّة، الذي جعل لها المخرج مِن ذلك كلِّه بأيسر الأمور وأقربها، وهو ذكره ╡ والتَّعلق به، يُؤخذ ذلك مِن قوله تعالى: {وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطان نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]، ففي نفس الاستعاذة به ╡ ذهبت حِيَل العدوِّ كلِّها.
          يا لها مِن نعمة / لكن قلَّ فاعلها، لأنَّ صاحب الجهل محرومٌ، لأنَّه يتَّبع عدوَّه دون حُجَّة ولا برهان، ثمَّ يوبِّخه يوم القيامة بقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } [إبراهيم:22] فمِن الحُمْقِ مصاحبة العدو ومعاداة الحبيب، جعلنا الله ممَّن عادى عدوه وصحب حبيبيه بمنِّه(57).


[1] في (ط): ((تنزع)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[2] قوله: ((أيضا)) ليس في (م).
[3] في (ج): ((وعند الغروب حتى تغيب)).
[4] قوله: ((هل)) ليس في (ج) و (م).
[5] في (ج): ((المرغب فيه مثل سجود)) وفي (م): ((والمرغب فيه سجود)).
[6] في (ط): ((ترفع)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[7] في (ج): ((الجواب)).
[8] في (م): ((هل ذلك للمكتوبة)).
[9] في (ج): ((أو)).
[10] في (ج): ((ذكرها)).
[11] في (ط): ((فذلك وقت لها)). في (ج): ((وذلك وقتها)) والمثبت من (م).
[12] في (ط): ((إن تأخرها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[13] صورتها في (م): ((يحتمل)).
[14] في (ج): ((وذلك وقت أدائها في حقها ومتى أشبهها))، وفي (م): ((حقهما ومن أشبههما)).
[15] في (ط): ((خرج الوقت خرج الوقت)).
[16] زاد في (ج) و (م): ((إنه)).
[17] في (ج) تحتمل: ((قائم)).
[18] كذا رسم الكلمة في (ط) و (م)، ولعلها: ((ابتداء)).
[19] قوله: ((هي)) ليس في (م).
[20] في (ط) و(ج): ((الفرض)) والمثبت من (م).
[21] في (ط): ((ترفع)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[22] قوله: ((في)) ليس في (ج) و (م). ولا في الاصل.
[23] قوله: ((عند الفقهاء)) بياض في (ج).
[24] في (م): ((مجملًا)).
[25] قوله: ((بتحديد)) في (م) ليست واضحة.
[26] في (ج): ((الشّيطان أو الشّيطان)) والصواب المثبت.
[27] في (ج): ((فضليهم)).
[28] في (ج): ((السماء)).
[29] في (ج): ((والجواب)).
[30] في (ج): ((الشمس)).
[31] في النسخ: ((للكفار)).
[32] قوله: ((قد)) ليس في (ج).
[33] في (ج): ((يقمع)).
[34] في (ج): ((لصلاتهم)).
[35] قوله: ((ما وقد)) ليس في (ج).
[36] في (ج): ((في قول الله ╡)).
[37] في (ج) و (م): ((أخرجوها)).
[38] في (ج): ((وتمشية)).
[39] في (ج): ((بحوى)).
[40] في (م): ((مما يلي)).
[41] في (ج): ((كما نص سبحانه وتعالى)).
[42] في (م): ((بعد)).
[43] قوله: ((وجميع)) ليس في (م).
[44] في (ج): ((يقبل)).
[45] في (ط): ((نشبه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[46] زاد في (ج) و (م): ((ذلك)). وهي في الاصل.
[47] في (ط): ((الشبيبة))، وفي (ج): ((السبيبة))، وفي (م): ((النسبة))، والمثبت هو الصواب والله أعلم، وهو موافق للمطبوع.
[48] في (ج): ((لا يعلمونها)).
[49] قوله: ((به)) ليس في (ج).
[50] قوله: ((قد)) ليس في (ج).
[51] في (ج): ((تبق)).
[52] في (ط): ((نَبَّه)).
[53] في (ج): ((المناج)).
[54] قوله: ((وفيه)) ليس في (ج)، وبعدها في (ج): ((فيما)).
[55] زاد في (ج): ((ولما يغفل يستدرك في الحال)).
[56] في (ج): ((هذه)).
[57] زاد في (ج): ((وكرمه)).