بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات

          79- (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ(1):يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟...(2)) الحديثُ. [خ¦1542]
          ظاهرُهُ(3) منعُ تلكَ الثيابِ المذكورةِ في الحديثِ، ومنعُ الخفافِ إذا جاوزتِ الكعبينِ، ومنعُ المُزَعْفَرِ والوَرْسِ، والكلامُ عليهِ مِن وجوهٍ:
          منها: هلِ المنعُ مقصورٌ على ما ذُكِرَ في الحديثِ لا غيرُ، أم(4) هوَ تنبيهٌ بالشيءِ على باقيهِ؟
          فالظاهرُ(5) أنَّهُ ليسَ مقصورًا على ما ذُكِرَ؛ لأنَّهُ منعَ مِنَ الثيابِ المُتقمَّصَ بهِ(6)، القُمُصَ والسراويلاتِ والبرانسَ، فُهِمَ مِن هذا على عادتِهم في تعدِّي الأحكامِ مِنْ قَولِهِ: (القَميصَ) جميعُ ما كانَ مما(7) يشبهُهُ مِن الأقبيةِ والجِبابِ(8) والقَباطِيِّ إذا كانَ محيطًا بالبدنِ مِن كلِّ الجهاتِ، فيكونُ مِن بابِ التنبيهِ بالبعضِ على(9) الكلِّ، إلا أنَّه / بهذينِ الشرطينِ:(10) أنْ يكونَ مَخِيطًا ملبوسًا على هذهِ الصفةِ المذكورةِ ولو سُمِّيَ بأيِّ(11) اسمٍ سُمِّيَ، فإنَّ الأسماءَ في الثيابِ مختلفةٌ في جميعِ الآفاقِ، منها ما تُعرَفُ باللُّغةِ، ومنها اصطلاحيٌّ بحسبِ ما جرتْ عادَتُهم في ذلكَ في الآفاقِ(12)، فأعطى بوصفِ (القميصِ)(13) كلُّ ما وُجِدَ(14) فيهِ تلكَ الصفةُ واستعملَ على تلكَ العادةِ ممنوع(15).
          فإنْ فعلَه لعُذرٍ أو لغيرِ عُذرٍ افتدَى، والفديةُ:(16) في ذلكَ ما ذكرَهُ أهلُ الفقهِ في كتبِ الفروعِ ونصَّ اللهُ ╡ عليه(17) في كتابِه بِقَولِهِ سبحانَه: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فإنْ كانَ مَخيطًا ولم يلبسْه على العادةِ المَعلومةِ فلا شيءَ عليهِ، مثالُ ذلكَ: أنْ يكونَ لهُ قميصٌ فيتغطَّى(18) بهِ بالليلِ أو بالنهارِ يرميهِ على ظهرِهِ مثلُ الإحرامِ أو مثلُ المِئزَرِ فلا شيءَ عليهِ، وتراهُ مَخيطًا؛ لأنَّهُ لم يلبَسْهُ على ما جرتْ بهِ العادةُ في ذلكَ.
          ومنعَ ◙ بِقَولِهِ: (السَّرَاوِيلَاتِ) كلَّ ما كانَ يشبِهُ ذلكَ وهو(19) أنْ يكونَ يُلبَسُ من المحزم(20) إلى أسفلَ إذا كانَ مخيطًا ودارَ على الإليتيْنِ والفَخذَينِ وإنْ سُمِّيَ بأيِّ(21) اسمٍ سُمِّيَ أو كانَ على أيِّ صفةٍ كانَ إذا كانَ مَخيطًا، فإنْ كانَ ليسَ على الوجهِ التي(22) جرتْ بهِ العادةُ بأنْ أخذَ(23) سراويلَ ولم يدخلْ فيهِ ساقَه وشدَّه على وسطِهِ مثلَ الإزرة فلا شيءَ عليهِ وإنْ كانَ مَخيطًا؛ لأنَّهُ لم يلبَسْه على العادةِ المعروفةِ في ذلكَ.
          ومنعَ ◙ / بِقَولِهِ: (البَرَانِسَ(24)) كلَّ ما كانَ يُشبِهُ ذلكَ النوعَ أنْ يكونَ فيهِ بعضُ خياطَةٍ ويكونَ يدخلُ في العُنقِ، وإنْ كانَ بعضُه مفتوحًا سُمِّيَ بأيِّ نوعٍ سُمِّيَ، مثلَ الغَفائِر والكِباب والبادرانات(25) وما(26) يشبهُ ذلكَ النوعَ إذا لُبِسَ على تلكَ الصفةِ، فإذا أخذَ أحدٌ بُرنُسًا ورماهُ على ظهرِهِ طاقَينِ غيرَ مفتوحِ الجناحينِ أو شدَّهُ على وسطِه مثل الإزرةِ فلا شيءَ عليهِ؛ لأنَّهُ لم يلبسْهُ على العادةِ الجاريةِ في ذلكَ.
          ومِن هُنا اختلفَ مالكٌ والشافعيُّ فيمَن أخذَ رداءَه(27) فخلَّلَها(28) أو عقَدَها، فقَالَ مالكٌ: عليهِ الدمُّ؛ لأنَّه مثلُ المخيطِ، وقَالَ الشافعيُّ: لا شيءَ عليهِ؛ لأنَّه ليسَ مثل ما نُصَّ عليهِ في المنعِ، هذا تعليلُ أقوالِهما(29)، وأمَّا الذي جاءَ عنهُما فالمنعُ عن مالكٍ، والجوازُ عن(30) الشافعيِّ.
          واختلفا(31) أيضًا في النسيانِ والعمدِ، أي: مَن(32) فعلَ شيئًا مما فيهِ الفداءُ ناسيًا مِن هذِه(33) أو ما أشبهها من اللباسِ، فأمَّا مالكٌ فالعَمْدُ عنده في ذلكَ والنسيانُ سواءٌ، عليهِ الفديةُ فيهِ، والشافعيُّ لا يوجبُها في النسيانِ.
          ومنعَ صلعم بِقَولِهِ(34): (وَلَا العَمَائِمَ) كلَّ ما جُعِلَ في الرأسِ بخياطةٍ كانَ أو بغيرِ خياطةٍ؛ لأنَّهُ إذا منَعنا الذي ليسَ بمخيطٍ وهيَ العمامةُ فمن بابِ أَولى الذي هوَ بالمخيطِ(35)، ولذلكَ نصَّ العلماءُ على أنَّ(36) إحرامَ الرجلِ في وجهِه ورأسِه، أي: لا يُغطِّيهما بشيءٍ، فتكونُ العمائمُ التنبيهُ بها مِن بابِ الأعلى؛ لأنَّهُ / أعلى(37) ما يُستَرُ بهِ الرأسُ عندَ العربِ العمائمُ لُبِسَتْ على أيِّ وجه كانَ بخلافِ البدنِ؛ لأنَّه إذا غطَّى رأسَه ولو بخرقةٍ أو بعضَه لزمَه الفداءُ؛ لأنَّه منعَ كلَّ ما كانَ بغيرِ خياطةٍ(38) كما قدَّمناهُ، فهو منعٌ كُلِّيٌّ سُمِّيَ الذي جُعِلَ على الرأسِ بأيِّ اسمٍ سُمِّيَ، جُعِلَ على أيِّ نوعٍ جُعِلَ، لا خلافَ فيما ذكرناهُ(39).
          ومنعَ ◙ بِقَولِهِ(40): (وَلَا الخِفَافَ إِلَّا أَنْ(41) لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْهُمَا بعدَما يَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ الكَعْبَيْنِ(42)) منعَ الخِفَافَ وما أشبهَهُما(43) إذا جاوزا(44) الكعبينِ على أيِّ نوعٍ كانَ سُمِّيَ بأيِّ اسمٍ سُمِّيَ، وأنَّ المستحبَّ في ذلكَ النعلانِ(45) وهما اللَّذانِ لا كعبَ لهما معطوفًا مثلَ الفرقِ(46) _أعني السَّرموزة(47)_ سُمِّيَ بأيِّ اسمٍ سُمِّي مثلَ المداسِ وقباقِبِ الجلدِ وما أشبهَ ذلكَ(48).
          ومنع ◙ بِقَولِهِ: (مَا مَسَّ(49) زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ) جميعَ الطيبِ؛ لأنَّهُ أقلُّ فَيْحَةً(50) مِن الطِّيب قبلَ أنْ يُصبَغُ بِهِ فإذا صُبِغَ(51) بهِ كانَتْ فيحَتُهُ(52) أقلَّ وأقَلَّ، فهوَ مِن بَابِ التنبيهِ بالأقلِّ(53) على الأعلى.
          فيتحصَّلُ(54) مِن الفقهِ بالمدلولاتِ التي ذكرنا أنَّ الحاجَّ(55) ممنوعٌ مِنْ جميعِ الطِّيبِ والزِّينَةِ والرَّفاهيَةِ والتنعُّمِ قلَّ ذلكَ أو كَثُرَ إلا ما أحكمتهُ السنَّةُ في ذلكَ مِن لباسِ الثوبِ الذي يسترُ العورةَ ويَقِي البدنَ مِنَ الأذى على ما هو منصوصٌ في كتبِ الفروعِ.
          وهنا بحثٌ: وهو أنَّ المتكلِّمَ يخاطبُ السائلَ بحسبِ ما يعلمُ أنَّهُ يَفهمُ عنهُ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن جوابِ سيدنا(56) صلعم الأعرابيَّ بما ذكرَ في الحديثِ، فلولا أنَّهُ ◙ فَهِمَ عنهُ ما بَيَّنَّاه لم يقتنعْ(57) منه بما في الحديثِ / حتى يبالغَ لهُ(58) في البيانِ.
          ويترتَّبُ عليهِ مِنَ الفقهِ أنَّهُ لا يجوزُ أنْ يُنظَرَ في حديثِهِ صلعم ولا في كتابِ اللهِ ╡ إلا بما يقتضيهِ اللسانُ العربيُّ لا غيرُ، ولذلكَ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58]، أي: يفهمونَ ما(59) تقتضيهُ اللغةُ العربيةُ فيحصلُ لهم فهمُ ما أُريدَ منهم فيتذكَّرونَ عندَ ذلكَ.
          وفيه دليلٌ على البحثِ في جزئياتِ الدِّينِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن سؤالِ السائلِ سيدَنا صلعم عن هذهِ الجُزئياتِ، فجاوبَه ◙ عليها، وجوابُه على ذلكَ يقتضي جوازَهُ.
          وفيهِ دليلٌ على جوازِ السؤالِ في الدِّينِ وإنْ كانَ الشخصُ ممن(60) لا يحتاجُ إلى ذلكَ في الوقتِ، يُؤخَذُ ذلك َمِن سؤالِ هذا عمَّا يلبسُه المحرِمُ، وهو في الوقتِ(61) ليسَ بمُحرِمٍ، ومِن هذا ذُكِرَ أنَّ الشافعيَّ باتَ عند بعض الأئمة(62) المعاصِرينَ لهُ، وكانَ ذلكَ الإمامُ الغالبُ عليهِ التَّعبُّدُ، وأنَّ(63) ذلكَ حالُ الأئمةِ أجمعينَ ♥، فباتَ ذلكَ العالمُ قائمًا يُصلِّي، والشافعيُّ مضطجعًا، فلمَّا أصبحَ قَالَتِ امرأةُ ذلكَ العالمِ: هذا هو الشافعيُّ الذي تُثني عليهِ، بِتَّ أنتَ قائمًا تُصلِّي وهوَ مضطجعٌ لم يتحرَّكْ ليلتَهُ، فذكرَ ذلكَ(64) للشافعيِّ، فقَالَ لهُ: إنِّي جمعتُ البارحةَ في فِكري ثمانينَ مسألةً مُستنبطةً بالدليلِ والبرهانِ، فقَالَ ذلكَ السيدُ لامرأتِه: هذا اغتبتيهِ(65) بالاضطجاعِ استنبطَ البارحةَ ثمانينَ مسألةً، واحدةٌ منها خيرٌ مِن عبادتي(66). فانظرْ ▓ فضلَ جميعِهم وتناصُفهم واحترامهم / للعلمِ، وهو الحقُّ إذا كانَ للهِ.
          وهنا بحثٌ(67): هل هذهِ الصفاتُ التي كُلِّفَ الحاجُّ بها مِن تركِ المَخيطِ وتركِ الطِّيبِ وتركِ الرفاهيةِ، هلِ الحكمةُ فيها معروفةٌ أو تعبدٌ لا يُعقَلُ لهُ(68) معنًى؟ فإنْ قلنا: تعبدًا فلا بحثَ، وإنْ قلنا: إنَّ قواعدَ الشريعةِ تنبني على نظرِ الحكمةِ فيها وقدْ أرشدَنا(69) الكتابُ العزيزُ إليها، ولولا ما هيَ إذا نُظِر فيها وُجدَت(70) الحكمةُ فيها(71) ظاهرةً ما قبلَ(72) ذلكَ، وهو قَولُهُ تَعَالَى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:97]، فإذًا لا يخصُّ(73) هذا اللفظُ بشيءٍ مِن آياتِه دونَ شيءٍ، أو يجعلُه في المحسوسِ مثلَ ما قَالَه بعضُ الناسِ مِن كونِها: لم يربها(74) مجذومًا.
          وما(75) في رمي الجِمارِ مِن كونِها تُرمَى في كلِّ عامٍ ولا يوجدُ لها أثرٌ فهذِهِ ممَّا هيَ البعضُ، وفيها تنبيهٌ لمَن(76) ينظرُ ويتفكَّرُ يجدُها(77) عديدةً، وكلٌّ يأخذُ مِن عمومِ هذهِ الآيِ(78) بحسبِ ما يفتحُ لهُ مِنَ الفهمِ فإنَّ الحكمةَ عجيبةٌ، فمما(79) يظهرُ بتوفيقِ اللهِ منَ الحكمةِ وجهانِ:
          (أحدهما): هو: كونُهم يمشونَ لكشفِ ما بهم مِن الأوزارِ والأثقَالِ، ومَن يمشي إلى مثلِ هذا الحالِ فيكونُ مَشيُه متذلِّلًا(80) خارجًا عن حظوظِ النفسِ التي أوقعتهُ في ارتكابِ الذنوبِ؛ لأنَّه جاءَ عنه صلعم لَمَّا قَالَ مولانا جلَّ جلالُه للملائكةِ(81): «{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالَوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] غضِبَ اللهُ ╡ عليهم فطَافُوا بالعرشِ أُسْبُوعًا واسْتَغْفَرُوا / وتَابُوا فتابَ بفضلِهِ عليهم، ثم قَالَ لهم: ابْنُوا في الأرضِ بيتًا يطوفُ به الْمُذْنِبُونَ مِنْ بني آدمَ فأتوبُ عليهم كَمَا تُبْتُ عليكم، وأغفرُ لهم كَمَا غَفَرْتُ لكم، فَبَنَوا البيتَ»(82)، فمَن يأتِ بهذهِ الصفةِ ينبغي مِن طريقِ الحكمةِ التناسبُ بينَ الحالِ والمَقصدِ.
          أَمَا ترى لَمَّا كانَ الخروجُ إلى العيدِ إلى(83) طلبِ رحمته ╡ ثوابًا عقيبَ خروجِهم(84) مِن العبادةِ المتقدِّمة وهي(85) الصومُ كانتْ بالطيبِ وحسنِ الثيابِ موافقةً للحالِ، وهو حالُ الاستقامةِ والامتثالِ لِمَا بهِ أُمروا؟ ولَمَّا كانَ الخروجُ إلى الاستسقاءِ خروجًا إلى كشفِ ما نزلَ مِن الضرِّ كانَ الخروجُ على غبرةٍ ومسكنةٍ(86) من أجلِ ما ارتكبَ(87) مِن الذنوبِ؛ لأنَّه جاءَ أنَّ العبيدَ إذا أذنبوا منعَ اللهُ عنهم المطرَ مِن أجلِ ذنوبِهم فخرجُوا في مسكنةٍ وقَشَفٍ من الحالِ حتى يكونَ رفعُ الأيدي بظهورِها إلى السماءِ رَهَبًا مِن أجلِ تناسبِ الحالِ فكذلكَ هذا(88) أعظمُ؛ لأنَّ الطلبَ فيهِ أعظمُ.
          وفيهِ وجهٌ آخرُ لَمَّا كانَ فيه شَبَهٌ بالمحشرِ؛ لأنَّ المَحشرَ يجتمعُ فيهِ الناسُ في يومٍ واحدٍ مِن كلِّ الأرضِ، وكما أنَّ(89) المحشرَ هو(90) مواقفُ مواقفُ، كذلك هذا مواقيتٌ للجِمارِ، ومواقيتٌ للمبيتِ بمنى(91) وبالمزدلفةِ إلى غيرِ ذلكَ،وكما أنَّ الخروجَ مِن هذهِ الدارِ ومفارقةَ الأهلِ والمالِ، وليسَ لهُ مِن ذلكَ كلِّه إلا قدرَ زادِهِ إلى الآخرةِ مِن كفنٍ وما يتجهَّزُ بهِ، كذلكَ الحاجُّ مفارقتُه للأهلِ والوطنِ الذي(92) جعلَ مقرونًا بالموتِ لِقَولِهِ ╡ : {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66] / وكذلكَ ليسَ لهُ مِنْ مالِه إلا قدرُ زادِه لسفرِهِ، هذا على الغالبِ مِن عاداتِ الناسِ والغيرُ يتركُه كلُّه.
          وكما لهُ بعدَ الموتِ مواقفُ دونَ القيامةِ وأهوالٌ يُخَلِّصُ اللهُ منها مَن يشاءُ أو يُهلِكُ فيها مَن يشاءُ، كذلكَ طريقُ الحجِّ ما فيهِ منَ المُكابَدَةِ، وقد قَالَ الله تَعَالَى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل:7] ومِنَ الناسِ مَن يَهْلِكُ في طريقِ الحجِّ كما يهلكُ هناك غيرَ أنَّ بَيْنَ الهالكينَ وجهٌ ما(93)؛ لأنَّ الهلاكَ هنا يُذهِبُ عينَ الروحِ(94)، وقد تكونُ فيهِ سعادةٌ(95)، وهناكَ بكثرةِ الأهوال وعدمِ التخلُّصِ منها فهو هلاكُ شقاوةٍ وخسرانٍ غيرَ أنَّه يقفونَ هُناكَ(96) عراةً، وقد كانوا يقفونَ قبلَ الإسلامِ عراةً إلا أنَّهُ أَحكمتِ السُّنَّةُ هنا نوعًا مِن اللباسِ مِن أجلِ سترِ العورةِ؛ لأنَّ ذلكَ الهولَ هناكَ يمنعُ أنْ ينظرَ أحدٌ عورةَ أحدٍ، وليس هنا(97) مانعٌ من النظرِ فأُمرَ بسترِها، وهناكَ لا طيبَ فيهِ لأحدٍ(98)، وهنا مثله(99) وهناكَ الأمرُ فيهِ والحكمُ(100) للهِ لا لغيرِه، وذهبتِ الدعاوى كلها كذلكَ هنا فيما يُرجى مِن المغفرةِ لا حيلةَ في ذلكَ لأحدٍ، الكلُّ مستسلمونَ ينتظرونَ ما يحكمُ اللهُ ╡ فيهم.
          وقد أخبرَ عن بعضِ المباركينَ أنَّه حجَّ فلمَّا طافَ طوافَ الإفاضةِ وفرغَ غلبتْهُ عيناهُ(101)، فنامَ فرأى كأنَّ ملكينِ نزلا مِن السماءِ، فقَالَ أحدُهما للآخرِ: كم حجَّ بيتَ ربِّنا العامَ؟ قَالَ له: ستمائةِ ألفٍ، قَالَ: كمْ / قُبِلَ منهم؟ قَالَ: ستةٌ، فاستيقظَ(102) مذعورًا، قَالَ: مَن لي(103) حتى أكونَ واحدًا مِن ستةٍ؟ فتوضأَ وطافَ أسبوعًا وركعَ واضطجَع فرأى ذانِكَ الملكينِ(104) قد نزلا وأعادَا السؤالَ الأولَ، ثم قَالَ له صاحبه(105): فما فعلَ ربُّنا في الباقينَ(106)؟ قَالَ: شفَّعَ كلَّ واحدٍ منهم في مائةِ ألفٍ، فاستيقظَ فرحانَ(107)، فجاءَ الشبهُ على هذهِ الحكايةِ مثلَ القيامةِ ناجٍ وضدُّه، ومقبولٌ وغيرُ مقبولٍ، ومشفوعٌ فيهِ(108) وشافعٌ، لكن بإذنهِ وفضلِه(109)، وقد يكونُ للمجموعِ.
          ويترتَّبُ عليهِ مِن معرفةِ(110) الحكمةِ أنَّه لا يُنالُ الخطيرُ مِنَ القُرَبِ إلا بالخطيرِ من المجاهداتِ والتعبُّداتِ؛ لأنَّه لَمَّا كانَ هذا موطِنًا تغفرُ فيهِ الجرائمُ العظامُ(111) كما جاءَ عنهُ صلعم : «أَنَّهُ لَمْ يُرَ الشَّيْطَانُ أَصْغَرَ وَلَا أَحْقَرَ مِنْ يَوْمِ(112) عَرَفَةَ، لِمَا يُعَاينُ مِنْ تجاوزِ الكبائرِ العظامِ(113)، يَحْثُو الترابَ على رأسِهِ ويقولُ: قومٌ(114) فَتَنْتُهُم منذُ خمسينَ أو أربعينَ سنةً، ثم غُفِرَ لهم في ساعةٍ واحدةٍ»(115). كلُّ ذلكَ في هذا اليومِ فلمْ يصلْ إليهِ بالهوينَا(116)، بلْ بالجهدِ العظيمِ إلا مَن مَنَّ اللهُ عليهِ بالتيسيرِ مِنْ طريقِ الفضلِ.
          وفيهِ تنبيهٌ على أنْ يتذكَّر(117) بهِ ذلكَ الموقفَ الذي يُشبِهُه فيكون سببًا لصدقِ اللَّجَأ إلى المولى الكريمِ وكثرةِ الرغبةِ إليهِ وإظهارِ الافتقارِ الذي بهِ يُرجَى الخيرُ كلُّه لِقَولِهِ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، وهو سبحانه لا يُخلِفُ الميعادَ، جعلنا اللهُ ممَّن منَّ عليهِ(118) بفضله بلا محنةٍ، لا ربَّ سواهُ. /


[1] في (ج) و(م) و(ل): ((قوله)) بدل قوله: ((عن عبد الله بن عمر أن رجلا قال)).
[2] ورد نص الحديث في (ل): ((سُئِلَ رَسُولَ اللَّهِ صلعم : مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ: لاَ يَلْبَسُ القَمِيصَ، وَلاَ العَمَائِمَ، وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ، وَلاَ البَرَانِسَ وَلا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ، وَلاَ الخِفَافَ إِلَّا أَحَدٌ وَإِنْ لَمْ يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ)).
[3] زاد في (ج) و(م) و(ل): ((يدل على)).
[4] في (ل): ((أو)).
[5] زاد في (ل): ((الذي لاخلاف فيه)).
[6] في (ج) و(م) و(ل): ((بها)).
[7] قوله: ((مما)) ليس في (م).
[8] في (ط): ((والجبب)).
[9] في (ط) و(م): ((عن)).
[10] زاد في (م): ((إلَّا)).
[11] قوله: ((بأي)) ليس في الأصل (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[12] زاد بعدها في (ط) و(ل): ((والثوب)).
[13] زاد في (م): ((في المنع)).
[14] في (ج): ((في كلما وجدت)).
[15] قوله: ((ممنوع)) ليس في (ج) و(م).
[16] في (ط): ((افتدوا الفدية)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] قوله: ((عليه)) ليس في (ط) و(ج).
[18] في (م): ((فيُغطَّى)).
[19] قوله: ((وهو)) ليس في الأصل (ط) و(ل) والمثبت من (م)، وهي في (ج): ((فهو)).
[20] صورتها في (ج) و(م): ((المحرم)).
[21] في (ج): ((بأن)).
[22] في (ج) و(ل): ((على ذلك الوجه الذي)).
[23] في (ج) و(م): ((فإن يأخذ آخذ))، وفي (ل): ((فإن أخذ أحد)).
[24] في الأصل (ط): ((البرانيس)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] في (ج): ((والكتاب والبدرانات))، وفي (م) و(ل): ((والكباب والبَلْدَرَانات)) وكذلك في (المطبوع).
[26] في (م): ((ومما)).
[27] في (ج) و(ل): ((برداء له))، وفي (م): ((رداءً له)).
[28] في (ط): ((فحلَّلها))، و في (ج): ((فجللها)). والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] في (م): ((قوليهما)).
[30] في (ج): ((على)).
[31] في (ج) و(م): ((واختلف))، وفي (ل): ((واختلفوا)).
[32] في (ج): ((والعهد فيمن)).
[33] زاد في (ل): ((الصفة)).
[34] قوله: ((بقوله)) ليس في (ج).
[35] في (ج) و(م): ((المخيط)) بدل قوله: ((الذي هو بالمخيط)).
[36] قوله: ((على أن)) ليس في الأصل (ط) و(ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] في (ج): ((على)).
[38] في (م): ((كان بخياطة))، وفي (ل): ((كان خياطة)).
[39] قوله: ((لا خلاف فيما ذكرناه)) ليس في (ج)، وقوله: ((جعل، لاخلاف فيما ذكرناه)).
[40] قوله: ((بقوله)) ليس في (ج).
[41] في (ج): ((إلا لأحد))، وفي (م): ((إلا أحدٌ)).
[42] في (ج) و(م): ((فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)).
[43] في (ج) و(م): ((أشبهها)).
[44] في (م): ((جاوز)).
[45] في (ل): ((النعلين)).
[46] في (ج): ((الفوق))، وفي (ل): ((القُرق))، و في (م): ((العرف))..
[47] في (ط): ((أعني السرموجة)) والمثبت من النسخ الأخرى، وقوله: ((أعني السَّرموزة)) ليس في (ل).
[48] قوله: ((مثل المداس وقباقب... ذلك)) ليس في (ج) و(م).
[49] في (ج) و(م): ((ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه))، وفي (ل): ((مامسه)).
[50] في (ج) و(م): ((رائحة)).
[51] في الأصل (ط) في الموضعين: ((يسبغ- سبغ)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[52] في (م): ((رائحته)).
[53] في (ج) و(م): ((بالأدنى)).
[54] في (ج): ((فيحصل)).
[55] في الأصل (ط) و(ل): ((الحج)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[56] زاد في (ج): ((رسول الله)).
[57] في (ج) و(م): ((يقنع)).
[58] قوله: ((له)) ليس في (ج).
[59] في (ط) و(ل) و(م): ((بما)).
[60] في الأصل (ط): ((مما)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[61] قوله: ((في الوقت)) ليس في (م).
[62] في (م): ((عن الشافعي أنَّه بات عند الإئمة)).
[63] زاد في (ج) و(م): ((كان)).
[64] زاد في (ل): ((هو)).
[65] في (ج) و(م): ((هذا الذي غيبتيه))، وفي (ل): ((هذا الذي عبتيه)).
[66] زاد في (م) و(ل): ((كلِّها)).
[67] زاد في (ج) و(م) و(ل): ((وهو)).
[68] في (ط): ((تعبدًا)) والمثبت من النسخ الأخرى. وفي (ج): ((لا يعقل لها)).
[69] في (ج) و(م): ((أرشد)).
[70] في (ج) و(م): ((ولولا ما كانت إذا نظر فيها لم توجد)).
[71] في (ل): ((منها)).
[72] في (ج): ((قيل في)).
[73] في (ط) و(م): ((فإذا يُخَص)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[74] في (ج): ((كونها يريها)).
[75] قوله: ((وما)) ليس في (م).
[76] في (م): ((لم)).
[77] زاد في (ج): ((أي يجد الآيات)).
[78] في (ج) و(م): ((الآية)).
[79] في (ج): ((فما)).
[80] في (ج): ((مذللا)).
[81] في (ج): ((لملائكته))، وقوله: ((للملائكة)) ليس في (م).
[82] ينظر تفسير القرطبي ░2/120▒.
[83] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[84] قوله: ((عقيب خروجهم)) ليس في الأصل (ط) و(ل) وهو مثبت من (ج) و (م)، و قوله: ((ثوابًا)) ليس في (ج) و(م).
[85] في الأصل (ط) و(ل): ((متاع)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[86] في (م): ((على هيئة فخرجوا في مسكنة وتضرع))، وفي (ج): ((على هيئة تضرع ومسكنة)).
[87] في (م): ((ما ارتكبوا)).
[88] زاد في (ج) و(م) و(ل): ((بل يكون هذا)).
[89] قوله: ((أن)) ليس في (ل).
[90] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و(م).
[91] قوله: ((بمنى)) ليس في الأصل (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[92] زاد في (م) و(ل): ((قد)).
[93] في (ج) و(م): ((فرق)) بدل قوله: ((وجه ما)).
[94] في (ج): ((يذهب الروح)). العبارة في (م): ((لأنَّ الهالك هنا يذهب الرُّوح من الجسد)).
[95] في (ل): ((سعادته)).
[96] في (ج) و(م) و(ل): ((هناك يقفون)).
[97] العبارة في (م): ((وليس هناك)) بدل: ((وهنا ليس هنا)).
[98] قوله: ((لأحد)) ليس في الأصل (ط) وهو مثبت من (م) و (ج)، و قوله: ((فيه لأحد)) ليس في (ل).
[99] في (ج): ((وهنا مثله)) ليس في (ج).
[100] في (ج) و(م): ((الأمر والحكم فيه)).
[101] في (ج) و(م): ((وقد أخبر بعض المباركين أنه لما أن حج غلبتاه عيناه)).
[102] في (م): ((فانتبه)).
[103] في (ج): ((وقال من إلي))، وفي (م): ((وقال من لي)).
[104] في (ج) و(م): ((ثم نام فرأى الملكين)) بدل قوله: ((فتوضأ وطاف... الملكين)).
[105] في (ج) و(م): ((ثم الثالثة مثل ذلك فقال له)) بدل قوله: ((ثم قال له صاحبه)).
[106] في (ج): ((الباقي)).
[107] في (ج) و(م) و(ل): ((واستيقظ فرحانا)).
[108] قوله: ((فيه)) ليس في (ل).
[109] زاد في (ل): ((ولا خبر عند أحدهم من ذلك)).
[110] قوله: ((معرفة)) ليس في (م).
[111] قوله: ((العظام)) ليس في (م).
[112] قوله: ((يوم)) ليس في (م).
[113] في (م): ((من تجاوزاته عن الكبائر العظام)).
[114] زاد في (ج) و(م) و(ل): ((قد)).
[115] هو في موطأ مالك ░1/422▒.
[116] في (ج) و(م): ((أو كما قال ◙ فالوصول إلى هذا ليس بالهين)) بدل قوله: ((كل ذلك في هذا... بالهوينا)).
[117] في (ج): ((يذكر)).
[118] زاد في (ج) و(م): ((بذلك)).