بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يا رسول الله إن أمي توفيت أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟

          127- قوله(1): (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ☺ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَنها(2)...) الحديث. [خ¦2756]
          ظاهر الحديث يدلُّ على جواز الصَدَقة عن الميت، وأنَّ ثواب ذلك يصل إليه والكلام عليه مِن وجوه:
          الأول: السؤالُ للعالم عند الجهل، وتركُ الحكم بالرأي؛ لأنَّ هذا الصحابي ☺ لَمَّا أن لم يكن له علم هل تنفع(3) صدقته(4) بتلك النية التي أراد أم لا؟ لم يُقْدِم(5) عليها برأيه وإنما سأل النَّبي صلعم، وحينئذ أقدم(6) على الفعل بعد العلم بالحكم.
          الثاني: فيه دليل على جواز السفر بحضرة الأبوين، لأنَّ هذا الصحابي ☺ سافر وأمه بالحياة، لكن يشترط فيه إذن الأبوين، وقد تكلَّم الفقهاء(7) في ذلك وإنما سكت عن الإخبار بالإذن في هذا الحديث للعلم به.
          الثالث: أنَّ بِرَّ الوالدين مطلوب بعد مماتهما؛ لأنَّ الصدقة عنهما مِن ذلك الباب، وقد صرَّحَ الشارع ◙ بذلك(8) في غير هذا الحديث حين سأله بعض الصحابة عن ذلك فقال له: «أَنْ تُنفِذَ وَصِيْتَهُمَا، وتَبَرَّ صَدِيْقَهما»، فقد يكون المرء عاقًّا في حياة الأبوين بارًا لهما في الممات، وقد يكون بالعكس. /
          الرابع: فيه دليل على أنَّ الأفضل المسارعة إلى أفعال البر إذا عُلِمت حتَّى يكون العلم(9) مستصحبًا بالعمل(10)؛ لأنَّ هذا الصحابي ☺ لَمَّا أن أخبره النَّبي صلعم بجواز الصدقة وعلم أنَّ له فيها(11) الأجر أَخرَجها مِن حينه(12) فأشهد النَّبي صلعم على(13) صدقته، وعلى هذا الأسلوب أبدًا(14) كان حال الصحابة ♥ مهما زاد(15) أحدهم مسألة في علمه ظهرت في عمله، حتَّى إنهم كانوا يعرفون زيادة علم(16) الإنسان في عمله(17)، وكذلك(18) التابعون لهم(19) بإحسان إلى يوم الدين، لأنَّ العِلم مع ترك العملِ حُجَّةٌ ووبالٌ(20) على صاحبه.
          الخامس: فيه دليل على الإشهاد بالصَّدقة؛ لأنَّ هذا الصحابي ☺ أشهد النَّبي صلعم على صَدَقته، والحكمة في ذلك اغتنامُ صِدْقِ النيَّة في العمل حين حصول العلم فيَبُتُّ الأمرَ لِتُؤْمَن(21) غَائِلة النفس ومكر العدو، وقد جاء في الحديث: «إنَّ المرءَ لَا يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ حَتَّى يَفكَّ بِهَا لَحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا».
          السادس: فيه دليل على أنَّ إظهار الصدقة في مثل هذا الموضع أفضل مِن إخفائها؛ لأنَّ هذا الصحابي ☺ قد أظهر صدقته هنا ولم يخفها، والحكمة في ذلك ما ذكرنا في الوجه قبله وهو اغتنام صِدْق النيَّة؛ لأنَّهُ حصل له صدق النية عند الإخبار فاغتنمها لِما جاء: «أَوْقَعَ اللهُ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ»، فلمَّا حصل له صدق النيَّة عند الإخبار(22) لم يترك الحاصل للمُمكن، والحاصل هو صدق النيَّة في هذا الوقت، والممكن هو ما في صدقة الإخفاء مِن الأجر؛ لأنَّهُ جاء فيه / تخصيص(23) كثير مِن الشارع ◙ وبالغ في التخصيص(24) على ذلك حين(25) قال: «حَتَّى(26) لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يمينهِ»، فدلَّ بهذا أنَّ حسن النيَّة في الصدقة مع الإظهار أفضل مِن ضعف النيَّة فيها مع الإخفاء؛ لأنَّ هذا الصحابي ☺ قد فعل ذلك(27) وأقرَّه النَّبي صلعم على فعله ولم يُشِر إلى غيره.
          السابع: فيه دليل لأهل الصوفية(28) على قولهم: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك(29). ومعناه عندهم: اِقطع الوقت(30) بالعمل لئلا يقطعك بالتسويف، وفعل هذا الصحابي هنا مِن ذلك الباب، ولأنَّ الله ╡ قد قال:{وَسَارِعُوا(31)} [آل عمران:133] و{سَابِقُوا} [الحديد:21] ولا تكون(32) المسارعة والمسابقة إلا بسرعة العمل، ولهذا كان بعضهم مرَّة في بيت(33) الخلاء في يوم شديد البرد وكان عليه ثوبان، وكان بعض الإخوان في الموضع عليه أطمار ثياب فخطر له وهو في بيت(34) الخلاء أن يخرج لصاحب تلك(35) الثياب الأطمار عن أحد الثوبين اللَّذَينِ كانا عليه فجرَّده مِن حينه في موضعه ذلك وصاح به ورماه إليه، فلمَّا خرج سأله الشيخ كيف تكلَّمت في بيت الخلاء؟ فقال: خشيت(36) على نيَّتي أن تَحُولَ عند الخروج، فشَكر ذلك منه.
          الثامن: فيه دليل لمالك رحمة الله تعالى حيث يقول: بأنَّ الصدقة تجوز بغير أن يحدَّها(37)؛ لأنَّ هذا الصحابيَّ ☺ تصدَّق بحائطه ولم يحدَّه(38) وأجاز النَّبي صلعم وذلك لو(39) كان بيعًا لَمَا جاز حتَّى يحدَّه(40).
          التاسع: فيه دليل لمالك ⌂ حيث يقول: بأن الصدقة تجب بالقول، لأنَّه قال: / (أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا(41)) وأقرَّه النَّبي صلعم على ذلك ولم(42) يطلب منه زيادة في الوجوب.
          العاشر: فيه دليل على تحمل الحاكم الشهادة في غير موطن الحكم لمن أشهده(43) بها وتحمَّله إياه(44)؛ لأنَّه لَمَّا أن سأل هذا الصحابيُّ النَّبيُّ صلعم وأخبره بما أخبر أشهده على صدقته كما ذكر، والنَّبي(45) صلعم هو الحاكم بإجماع(46) لكن لم يكن هذا الموطن موطن حكم، وإنما كان موطن سؤال وجواب.
          الحادي عشر: فيه دليل على أنَّ للرجل(47) بعد إشهاده على الصدقة أن يتصرَّف فيها _أعني: في تفريقها(48)_ لأنَّه لَمَّا أن(49) أشهد النَّبي صلعم على صدقته لم يقل له النَّبي صلعم : أعطِ فلانًا وامنع عن فلان(50).


[1] في (م): ((عن ابن عباس)).
[2] قوله: ((فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ...صدقةٌ عنْهَا)) زيادة من (م) على النسخ.، وقوله بعدها: ((الحديث)) ليس في (م).
[3] في (ج): ((ينفع))، وفي (م): ((لما أن كان له الحكم يكون له علم هل ينفع)).
[4] في (ل): ((صدقة)).
[5] في (م): ((يقدر)).
[6] في (ج) و(م): ((قدم)).
[7] في (م): ((العلماء)).
[8] في (ج): ((ذلك)).
[9] في (م): ((البر)).
[10] في (م): ((للعمل)).
[11] في (م): ((وأعلمه أن فيها له)).
[12] في (م): ((حينها)).
[13] قوله: ((على)) ليس في (ج).
[14] قوله: ((أبداً)) ليس في (ج) و(م).
[15] في (م): ((أراد)).
[16] في (ج): ((فقه)).
[17] قوله: ((حتَّى أنهم كانوا يعرفون زيادة علم الإنسان في عمله)) ليس في (م).
[18] زاد في (ل): ((هم)).
[19] قوله: ((لهم)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] قوله: ((ووبال)) ليس في (ج) و(م).
[21] في (ل): ((الأمر ليؤمن من)).
[22] قوله: ((فاغتنمها لِما جاء: ((أَوْقَعَ اللهُ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيْتَهِ)) فلما حصل له صدق النية عند الإخبار)) ليس في (م).
[23] في (ج): ((تحضيض)).
[24] في (ج): ((التحضيض)) وفي (ل): ((تخصيص)).
[25] في (ج): ((من)).
[26] قوله: ((حتى)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[27] قوله: ((ذلك)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[28] في (ل): ((الصوفة)).
[29] قوله: ((إن لم تقطعه قطعك)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[30] قوله: ((الوقت)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[31] في (م) و (ل): ((سارعوا)).
[32] في (ج): ((ولم تكن)).
[33] قوله: ((بيت)) ليس في (ل).
[34] قوله: ((بيت)) ليس في (ل).
[35] في (ل): ((أن يجود على صاحب تلك)).
[36] في (ج) و(م) و (ل): ((خفت)).
[37] في (ج) و(م): ((يجدها)).
[38] في (ج) و(م): ((يجده)).
[39] في (ج) و(م) و (ل): ((ذلك ولو)).
[40] في (ج) و(م): ((يجده)).
[41] في (ج) و(م): ((أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِي الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَنْهَا)) وقوله: ((عليها)) ليس في (ل).
[42] في (ج): ((لم)) بدون الواو.
[43] في (م): ((أشهد)).
[44] قوله: ((وتحمله إياه)) ليس في (ج) و(م) وفي (ل): ((وتحمله إياها)).
[45] في (م): ((النبي)) بدون الواو.
[46] قوله: ((بإجماع)) ليس في (ج) و(م).
[47] في (ج) و(م): ((الرجل)).
[48] في (م): ((بتفريقها)) وفي (ل): ((تصريفها)).
[49] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[50] في (ج) و(م): ((أعط لفلان وامنع من فلان))، وفي (ل): ((أعط لفلان وامنع فلان)).