بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: نهى النبي عن الشرب من فم القربة أو السقاء

          225-قوله: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ...) الحديث. [خ¦5627]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ يَدُلُّ على حكمين:
          (أحدهما): المنع مِن أن يشرب أحدٌ مِن فم(1) السِّقاء(2) أو القِربة.
          و(الثَّاني): أن يمنع أحدٌ جاره أن يغرز خشبة في جداره، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يقال: هل(3) مَنْعُه ◙ عن(4) الشرب مِن فم السِّقاء والقِربة هو عامٌّ على أيِّ وجه كان أو ليس(5)؟ وهل النهي نهيُ كراهية أو تحريم(6)؟ وهل ذلك معقول المعنى أو ليس(7)؟ وهل يتعدَّى منعه(8) إلى غير السِّقاء والقِربة أو ليس(9)؟ وهل إباحة الجدار للجار لغرز الخشبة(10) هو على الوجوب أو الندب؟ وهل ذلك على كلِّ الأحوال(11) أو في(12) بعض الأحوال دون بعض؟
          أمَّا قولنا: على الشرب مِن فم السِّقاء والقِربة(13) هل هو عامٌّ أو ليس(14)؟ ظاهر اللفظ محتمل لكن الناس اختلفوا في تأويله، فمنهم مَن جعلَهُ عامًّا على أي وجهٍ كان، ومنهم مَن قال: إنَّه إذا جعل فمَ السِّقاء والقِربة موضوعًا في الأرض كأنَّه القصعة وتناول منه الشُّرب فليست تلك الصفة بمنهيٍّ عنها، وإنَّما النهي أن يكون يصبُّ(15) الماء في حلقه ولا ينظر ما فيه ولا يقدر أن يقطع الشرب.
          وأما قولنا: هل النهي على الكراهة(16) أو التحريم؟ احتمل لكن إن كانت العلة معقولةَ المعنى فيكون بحسب مقتضى العلَّة، وإن لم تُعرَف العلَّة فحينئذ يبقى الأمر فيه محتملًا للوجهين.
          ويبقى فيه بحث آخر: / هل النهيُ يَدُلُّ(17) على فساد المنهيِّ عنه فالذي يشرب يكون يشرب(18) حرامًا؟ وإن قلنا: إنَّ النهي لا يدلُّ(19) على فساد المنهيِّ عنه يكون متشابهًا هل هو حرام(20) أو مكروه؟ موضع خلاف، ويبقى فعلُه ذلك على أحدِ المحتملات: إمَّا حرامٌ فيكون آثمًا، وإمَّا مكروه(21) فيكون غير آثم.
          وأمَّا قولنا: هل ذلك معقول المعنى أو(22) لا؟ ظاهر اللفظ لا يتحقَّق منه شيء مِن ذلك، لكن قد قال بعض النَّاس: إنَّ ذلك معقول وهو خيفة أن يكون في الوعاء حيوان فينصبَّ(23) مع الماء في جوفه، وقد ذُكر أنَّه(24) وقع للناس(25) مِن ذلك وقائع فتعبوا أو فشقوا(26) بها كثيرًا.
          منها أنَّه(27) قد ذُكر أنَّ رجلًا شرب الماء(28) كذلك وكان في الماء ثعبان صغير فابتلعه مع الماء فحصل له منه ضرر كثير، وقد يكون أيضًا في الماء عَلَقٌ فيبلعه فيتأذَّى به(29)، وقد يكون الماء ينصبُّ بمرة(30) فيكون سببًا أن يقطع تلك(31) العروق الصغار(32) التي بإزاء القلب(33) فيكون منها موتُه.
          ومِن أجل ذلك حكمت(34) السُّنَّة أن يكون شرب الماء مصًّا ولا يكون عبًّا مِن أجل الخوف على العروق التي بإزاء القلب، فهنا(35) مِن باب أحرى.
          وقال آخرون: مِن أجل ما يتعلَّق بالسِّقاء والقِربة مِن رائحة الفم، وقد يكون في بعض أفواه النَّاس بَخَر أو بخار(36) فيتعلَّق بالقِربة والسِّقاء منه شيء فيعافه الغير، وقيل: مِن أجل أنَّ بعض النَّاس لا يحملُ(37) نفسَه الشرب مِن فضلِ غيره ويتنغَّصُ حاله لذلك عند الشرب، وقيل: / إنَّ ذلك(38) يعود بالفساد على الوعاء فَيَنْغَلُ(39)، فيكون مِن باب إضاعة المال وهو منهيٌّ عنه نهي تحريم.
          وبحسب(40) هذه التعليلات تعرف النهي على أي وجه هو؟ لكن الذي(41) يعطيه الفقه أنَّ أمرًا يكون فيه التعليل على مثل هذا الخلاف الترك أولى، فإنَّه لا يبعد أن يكون لمجموع ما ذكر فيكون يجتمع فيه التحريمُ(42) على وجهٍ والكراهيةُ على وجه، والشأن: الأخذ بسدِّ الذريعة التي تدلُّ عليها قواعد الشريعة، وقد رُوي عن(43) الإمام مالك ☼ ومَن تبعه: أنَّ مذهبه في الأمور المحتملة الأخذ بالأشدِّ فإنَّه إبراء للذِّمَّة(44).
          وأمَّا السِّقاء: فهو الزِّقُّ الصغير مِن الجِلْد، والقِربة: الزقُّ الكبير(45).
          وأما قولنا: هل يتعدَّى الحكم إلى غيرهما؟ فإن قلنا بعدم التعليل، فلا يتعدَّى ويكون مقصورًا على السِّقاء والقِربة لا غير، وإن قلنا بالتعليل _وهو الأظهر والله أعلم_ فحيث وجدنا(46) العلَّة اطَّردنا(47) الحكم على أحد محتملاته.
          وأمَّا قولنا: هل إباحة الجدار للجار أن يغرز(48) الخشبة فيه على الوجوب هو(49) أو النَّدْب؟ فجمهور العلماء أنَّه على الندب، لأنَّه قد روي عن راوي الحديث وهو أبو هريرة ☺ أنَّه كان يقول: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله إن منعتموني لأرمينَّها(50) بين أكتافكم، فدلَّ بقوله هذا أنَّه فهِمَ مِن النَّبيِّ صلعم إمَّا الوجوب أو التأكيد في النَّدب لعظيم(51) حقِّ الجار على جاره، لأنَّه قال صلعم : «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي(52) بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» والآثار في الجار كثيرة في تأكيد / حقِّه، والإحسان إليه، وكفِّ الأذى عنه، وإدخال السرور عليه.
          وأما قولنا: هل ذلك على كلِّ حال أو ليس(53)؟ فلا يمكن أن يكون على كل حال، لأنَّ الشَّارع صلعم قد قال: «لَا ضرَرَ وَلَا ضِرَار». فإن كان في غرز الخشبة ضررٌ على صاحب الحائط، فلا يجب عليه ذلك وجوبًا ولا ندبًا(54)، فإنَّ الشارع صلوات الله عليه وسلامه(55) قد منع أن يفعل الشخص في مِلكه شيئًا يضرُّ بجاره، فكيف يفعل في مال جاره ما فيه ضررٌ به؟! هذا لا يَنعَقِل(56)، وإنَّما يكون ذلك على أحد محتملاته إذا لم يكن على صاحب الجدار في ذلك كبير ضرر، لأنَّه مِن جملة الرِّفْدِ(57) له. وقد قال صلعم : «لا يمنعُ(58) أَحَدُكُمْ جَارَهُ رِفْدَهُ».


[1] قوله: ((فم)) ليس في (م).
[2] قوله: ((الحديث. ظاهر الحديث...من فم السقاء)) ليس في (ج).
[3] قوله: ((هل)) ليس في (م).
[4] في (ج): ((من)).
[5] في (م) و (ج): ((أو لا)).
[6] في (م): ((كراهة أم تحريم)).
[7] في (م): ((معقول أو لا)) وفي (ج): ((معقول المعنى أو لا)).
[8] في الأصل(ط): ((منه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] في (م) و (ج): ((أو لا)).
[10] العبارة في (م): ((وهل أباحه للدار للجار يغرز الخشبة)).
[11] في (م) و (ج): ((كل حال)).
[12] في (ج): ((وفي)).
[13] في (ج): ((أو القربة)).
[14] في (م) و (ج): ((أو لا)).
[15] في (م): ((أن يصيب))، وفي (ج): ((أن يصوب))، وفي (المطبوع): ((أن يصبَّ)).
[16] في (ط): ((الكراهية)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] في (ط): ((يعود)).
[18] في (ج): ((فالذي يشرب شرب)).
[19] العبارة في (م): ((على فساد المنهي عنه فالذي يشرب يشرب حرامًا وإن قلنا أن النهي لا يدل)).
[20] في الأصل(ط): ((حلال)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] العبارة في (م): ((على أحد الاحتمالين إما أن يكون حراما أو مكروها موضع خلاف فيكون آثما وإما أن يكون مكروها)). وفي (ج): ((على أحد الاحتمالين إما أن يكون حراما فيكون آثما وإما أن يكون مكروها)).
[22] في (ج): ((أمْ)).
[23] في (م) و (ج): ((فينزل)).
[24] قوله: ((ذكر أنه)) ليس في (م) و (ج).
[25] في (ج): ((الناس)).
[26] قوله: ((أو فشقوا)) ليس في (م) و (ج).
[27] في (م): ((أن)).
[28] في (ج): ((أنه شرب رجل الماء)).
[29] في الأصل(ط): ((فيندى))، وفي (ج): ((فيبلعه مع الماء)) والمثبت من (م).
[30] في (م): ((وقد يكون ينصب ثمره)).
[31] قوله: ((تلك)) ليس في (م).
[32] في المطبوع: ((الضعاف)).
[33] قوله: ((فيكون سببا أن يقطع تلك العروق الصغار التي بإزاء القلب)) ليس في (ج).
[34] في (م): ((أحكمت السنة)) وفي (ج): ((أحكمت بالسنة)).
[35] في (ج): ((فهي)).
[36] قوله: ((أو بخار)) لس في (م) و (ج).
[37] في (ج): ((لا يتحمل))، وفي (المطبوع): ((لا تتحمل)).
[38] (ج) و (م): ((فضل غيره ويتشوش وقد قيل إن ذلك)).
[39] في (م) صورتها: ((فينقل)) وفي (ج): ((فيفسد)). ومعنى: ينغَل: يفسد ويتعفَّن.، وفي (المطبوع): ((فيكسر)).
[40] في (ط): ((بحسب)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[41] في (م): ((الرأي)).
[42] في (ج): ((التحريم فيه)).
[43] قوله: ((عن)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[44] قوله: ((للذمة)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] العبارة في (م) و (ج): ((وأما السقاء فهو الوعاء الصغير من الجلد والقربة الوعاء الكبير منه)).
[46] في (ج): ((وجدت)).
[47] في (م) و (ج): ((طردنا)).
[48] في (ج): ((يغرس)).
[49] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[50] في (م) و (ج): ((والله لأرمين بها)).
[51] في (م) : ((بعظم)).
[52] في (ج): ((يوصي)).
[53] في (م): ((أو لا)) وفي (ج): ((أم لا)).
[54] في (م) و (ج): ((يجب عليه ذلك ولا يندب)).
[55] في (ج): ((وسلامه عليه)).
[56] في (ج): ((لا يتعقل))، وفي (المطبوع): ((لا يعقل))..
[57] في (م): ((المرفق)).
[58] العبارة في (م): ((وقد ورد ما معناه لا يمنع)) وفي (ج): ((وقد ورد ما معناه، قال: لا يمنع)).