بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أن النبي كان يبيع نخل بني النضير

          209- قوله: (إنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ...) الحديث. [خ¦5357]
          ظاهر الحديث يدلُّ على جواز ادِّخار قوت العيال سَنَة. والكلام عليه / مِن وجوه:
          منها(1) ادِّخار قوت العيال سَنةً(2) لا يخرِج فاعله مِن طريق الزهد، لأنَّ سيِّدنا صلعم رأس الزاهدين وسيِّدهم، وكان ╕ يعطي لعياله قوت سَنَة بسنَة(3)، لأنَّ إعطاءه قوت العيال هو مِن باب إعطاء الحقوق التي عليه.
          وفيه دليل على أنَّ معاملة الغير وإن كانوا أقرب القُربى(4) إنَّما تكون بمقتضى الحكمة(5) إذا قدر عليها على وجهها(6)، يؤخذ ذلك مِن فعله صلعم لأنَّه لَمَّا أنْ فتح الله عليه بنخل بني النضير، وأجرى الله حكمته(7) أنَّ النخل لا يستغلُّ إلا مرة في السَّنَةِ، كان(8) إذا جاء وقت غلتها كان(9) يعمل صلعم في حقِّ(10) الغير، وإن كانوا أقرب النَّاس إليه، وهم عياله صلوات الله عليهم أجمعين على مقتضى الحكمة، فكان ╕ يعطيهنَّ نفقتهنَّ(11) إلى مثلها مِن قابل فذلك سَنَة.
          وكان ╕ يعطي لكلِّ واحدة منهن ثمَّانين وَسْقًا مِن تمر وعشرين(12) وَسْقًا مِن شعير، وكان ╕ في خاصَّة نفسه المكرمة لا يدَّخر لها(13) شيئًا، وكنَّ هنَّ(14) ╢ يقدِّمنَ(15) منها لآخرتهنَّ(16) الأكثرَ بل أكثرَ مِن الأكثر(17)، وقيل: نخل بني النضير كان هو وهنَّ جميعًا صلوات الله عليه ورضي عنهنَّ على حسب ما يفتح الله تعالى لهنَّ(18)، فكنَّ يؤثرن بما يفتح الله عليهنَّ(19)، حتى إنَّه قد ذكر عنه صلعم أنَّه أُتِيَ له بكبش ففرَّقه وما حبَس(20) لعياله إلا رأسه، فقالت له إحداهنَّ: ذهب الكبش كله إلا / الرأس، فقال صلعم مجاوبًا لها: «بقي(21) كلُّه إلا الرأس هو الذي ذهب»، أو كما ورد.
          ويترتَّب على هذا مِن الفقه أنَّه لا يحمل الراعي(22) مَن له عليه رعاية على الزهد بالجبر(23)، ولا بأن يحبس له مِن حقِّه شيئًا لعلَّه يزهد، بل يوفِّي(24) له حقوقه، ويندبه بعد إلى الزهد ويرغِّبه فيه، ويكون هو في خاصَّة(25) نفسه يحملها في ذلك على ما يشتهيه أو ما يختاره(26).
          وفيه دليل على أنَّ(27) الزهد ليس مِن شرطه خروج المال عن اليد(28) وإنَّما الزهد خروج المال عن القلب، وأن لا يتعلَّق به، وأن يكون يصرفه(29) فيما يرضي به ربه، يؤخذ ذلك مِن مسك سيِّدنا(30) صلعم نخلَ بني النضير ولم يخرج عنها حتى مات وبقيت بعده(31)، وكان تصرُّفه فيها كلها على ما يرضي ربَّه ويقربه(32) إليه، وقد زاد ذلك بيانًا بقوله(33) ╕ في حديث غير هذا: «ليس الزهد بتحريم الحلال وإنَّما الزهد بأن تقطع(34) الإياس ممَّا في أيدي النَّاس، فتكون بما(35) في يد الله أوثق ممَّا في يدك» أو كما قال ╕، وقد قال(36) السَّادة: رُبَّ تارك وهو آخذ، ورُبَّ آخذ وهو تارك، لأنَّ مدار الأمر على ما تحويه القلوب، ولذلك قال صلعم : «إنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى صُوَرِكُم ولكن ينظر إلى قُلوبكم».
          وفيه دليل على أنَّ التصرُّف أيضًا في مصالح المال لا ينافي الزهد، يؤخذ ذلك مِن بيعه صلعم نخلَ بني النضير لأنَّ البيع مِن جملة التصرف في المال(37) وقد كان ╕ يبعث / مَن يَخرص عليهم وينظر في ما يصلحه(38)، وقد أجمع(39) أهل المعاملات المحقِّقون أنَّ(40) أعلى المراتب الذي يشارك النَّاس في الظاهر في التصرف(41) على لسان العلم ويكون فيما بينه وبين مولاه على حالة الكمال مِن حُسن الزهد والخدمة المَرْضِية، فإنَّ(42) الخروج عن العادة الجارية(43) بين النَّاس هو مِن الضعف في الحال، لأنَّ المخالطة خيرُها(44) متعَدٍّ، وهو في ذلك متَّبع للسنَّة وهي أعلى الطرق، ولكن بشرط أنْ يقدر على ذلك، فإن وجد ضعفًا فالهرب بالكلية، أو يكون لا(45) يجد كيف يمشي في ذلك على لسان العلم فالهرَبَ الهربَ، ويبقى كما أخبر سيِّدنا(46) صلعم حين أخبر خَبَرَ(47) عن الفِتن فقال له بعض الحاضرين: ما تأمرني إنْ أدركني ذلك الزمان؟ قال: «تلزم إمام المسلمين وجماعتهم»، قال: فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة؟ قال: «تعتزل تلك الشِّيع(48) كلها ولو أنْ تعضَّ(49) بأصل شجرة حتى يدركك الموت على ما أنتَ عليه(50)، وأنتَ على ذلك»، أو(51) كما قال ╕.
          وفيه دليل على أنَّه(52) ما زاد على ادِّخار قوت السَّنَة للعيال فليس مِن طريقه صلعم، ويكون ذلك مِن باب الادِّخار(53)، يؤخَذُ ذلك مِن كونه لم يجىء عنه ╕ في هذا الحديث ولا في غيره أنَّه زاد عياله على قوت السَّنَة شيئًا.
          وفيه دليل على أنَّ اتخاذ العيال لا يخرج عن الزهد بل هم عون على الطاعة / إذا كنَّ مِن أهل التوفيق، يؤخذ ذلك مِن اتخاذه ╕ العيال وقد زاد ذلك بيانًا بقوله ╕: «النِّكاح مِن سنَّتي(54) فمَن رغب عن سنَّتي فليس مني».
          وقد كان عمر ☺ يقول: (إنِّي لأتزوج النساء وما لي إليهنَّ حاجة رجاءَ أنْ يُخرجَ الله مِن(55) صلبي مَن يَكثُرُ به محمد صلعم الأممَ يوم القيامة)، لكن بشرط أنْ يقدر على القيام بحقهنَّ(56)، وإلاَّ فلا يجوز له ذلك، ووظيفته(57) التعفُّف(58) والصبر والصوم(59) والصَّون حتى يلطف الله تعالى به وتكون نيَّته أنَّه إنْ(60) قدر على الزواج أنَّه يتزوج اتِّباعًا لسنَّة نبيه صلعم فيكون مأجورًا على نيَّته.


[1] زاد في (م): ((أن)).
[2] قوله: ((والكلام عليه من وجوه: منها ادخار قوت العيال سنة)) ليس في (ج)، وبعدها في (ج) و (م): ((ولأن)).
[3] قوله: ((بسنة)) ليس في (م).
[4] في (م) و(ج): ((الأقرباء)).
[5] في (ج): ((يكون بمقتضى الحكم)).
[6] قوله: ((على وجهها)) ليس في (ج) و (م).
[7] قوله: ((حكمته)) ليس في (ج).
[8] في (م): ((إلا مرة واحدة كان)).
[9] قوله: ((كان)) ليس في (م).
[10] في (ج): ((جار من غلتها يعمل في حق)).
[11] في (ط): ((يعطيهم نفقتهم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[12] في (ج): ((وشعير)).
[13] قوله: ((لها)) ليس في (ج) و (م).
[14] قوله: ((هن)) ليس في (ج) و (م).
[15] في (ج): ((يدخرن)).
[16] في (ج) صورتها: ((ماخرتهن)) ولعله تصحيف.
[17] قوله: ((بل أكثر من الأكثر)) ليس في (ج) و (م).
[18] في (ج): ((لهم)).
[19] في (ط): ((فكانوا يؤثرون بما يفتح عليهن)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (ج): ((أبقى)).
[21] في (م): ((بل بقي)). في (ج): ((بل بقي الكبش)).
[22] في (ط) و(ج): ((للراعي)).
[23] في (م): ((بالخير)).
[24] في (ج): ((ينوفي)) وفي (م): ((شيئا لعله بل توفي)).
[25] في (ج): ((ويكن خاصة)) وفي (م): ((ويكون في خاصة)).
[26] في (ج): ((على ما يختاره)) و (م).
[27] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[28] قوله: ((عن اليد)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] في (ج): ((يصرفها)) وفي (م): ((تصرفه)).
[30] زاد في (ج): ((رسول الله)).
[31] في (م): ((عنده)).
[32] في (ج): ((يرضي الله تعالى ويقرب)).
[33] في (ج) و (م): ((بقوله)). كالاصل.
[34] في (ج): ((يقطع)).
[35] في (ج): ((وتكون مما)) وفي (م): ((وتكون بما)).
[36] في (م) و (ج): ((قالت)).
[37] قوله: ((لأنَّ البيع من جملة التصرف في المال)) ليس في (ج).
[38] في (م): ((يصلحها)).
[39] في (ج) و (م): ((قال)).
[40] في (ط): ((المحققين بالصدق والإخلاص أن))، وفي (ج): ((المتحققين أن))، وفي (م): ((المحققين أن))، ولعل المثبت هو الصواب، وهو مطابق للمطبوع.
[41] قوله: ((في التصرف)) ليس في (ج) و (م).
[42] في (ج) و (م): ((وإن)).
[43] في (ج): ((المرضية)).
[44] في (ج): ((وأن المخالطة خير)).
[45] في (ج): ((ما)).
[46] زاد في (ج): ((رسول الله)).
[47] كلمة: ((خبر)) ليست في (ط) و(م).
[48] في (ج) و (م): ((الفرق)).
[49] في (ط): ((تبقى في)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[50] قوله: ((على ما أنتَ عليه)) ليس في (ج).
[51] قوله: ((أو)) ليس في (ج).
[52] في (ج) و (م): ((أن)).
[53] في (م) و (ج): ((للعيال فليس من التوكل ويكون من باب الادخار)).
[54] في (ط): ((النكاح سنتي)).
[55] في (م): ((أن يخرج من)).
[56] قوله: ((بحقهن)) ليس في (م).
[57] في (ج): ((ووظيفة)).
[58] صورتها في (م): ((التعنف)).
[59] قوله: ((والصوم)) ليس في (ج).
[60] في (ج): ((ويكون بنيته أنه إذا)).