بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث ابن عمر: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له...

          246-قوله صلعم : (لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا)(1). [خ¦6154]
          ظاهر الحديث يدلُّ على ترجيح أنْ يمتلئ الجوف / قيحاً الذي هو عين الهلاك على أن يمتلئ شعراً، والكلام عليه من وجوه:
          منها: أن يُقال: ما المراد بـ (جَوْفه)؟ ومنها: هل قوله: (شِعْراً) على(2) عمومه أو لا؟ وما(3) المراد بقوله: (من(4) أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا) هل لكثرة حفظه الشِّعر، أو لتعلُّق الخاطر به؟ وما(5) الحكمة في أنْ مثَّل بالقيح دون غيره؟
          أمَّا قولنا: ما المراد بـ (جوفه)(6)؟ احتمل وجهين: (أحدهما): أن يريد به القلب، واحتمل أن يكون على ظاهره، والمراد الجوف(7) كلُّه وما فيه مِن القلب وغيره. والأوَّل أظهر، والله أعلم.
          وأمَّا قولنا: مَا المراد بقوله(8) صلعم : (شِعراً)؟ هل ذلك(9) على العموم مِن أيِّ نوع كان الشِّعر، أو على الخصوص؟ احتمل اللَّفظ. لكن قواعد الشَّريعة تخصِّصه، لأنَّ مَا كان مِن الشِّعر في مدحه صلعم فهو قُرْبة إلى الله تعالى، وقد(10) كان رسول الله صلعم يحضُّ عليه مثل قوله صلعم لحسَّان: «أَجِبْهُم عَنِّي». (فقال له حسَّانُ: والله لأسلَّنَّكَ مِنْهُم كما تُسلُّ الشَّعرة مِن العجين) أو كما قال.
          وما كان منه في تنزيه الحقِّ سبحانه وتعالى(11) فذلك قربة أيضاً، وَما كان منه يحضُّ عَلى الآخرة ويزهِّد في الدنيا فذلك مِن باب الوعظ والتِّذكار بالخير، وقدْ قال صلعم : «إنَّ مِن الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» فما كان منه حكمة فكيف يكون ملءُ الجوف بالقيح خيراً(12) منه؟ هذا لا يمكن، فيكون اللَّفظ عامَّاً ومعناه الخصوص، والله أعلم، على هذا التوجيه المتقدِّم فيكون المحذور مِنه مثل النوع الذي ذمَّه مولانا / جلَّ جلاله في كتابه حيث قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224-226] وذلك مثل شعراء الجاهلية وتغزُّلهم، فإنَّهم(13) كانوا يتغزُّلون في مدح النِّساء وذِكرهنَّ(14) وغير ذلك مِن الوجوه المحرِّكة للشَّهوات وَحبِّها، وحبِّ الدنيا وفخرهم(15) بما لا يجوز شرعاً، وما في معناه.
          ولذلك ذُكر عَن بعض أهل الطريق _وَكان مِن أكابر وقته_ أنَّه جاءه بعض النَّاس بابنه بعدما علَّمه العربية والأدب، ورغب منه أن يقرأ عليه شيئاً(16) مِن طريق القوم لعلَّه تنبعث له همَّة. فقال له: لا أفعل، لأنَّك أتيتَ به إليَّ(17) بعدما ملأتَ قلبه بالشِّعر(18)، وَخالط بشاشته الشهوات(19) وحبَّ الدنيا فما عسى أن أفعل فيه؟ فامتنع منه ولم يقبله.
          وهنا(20) إشارة كما(21) قال في «الرسالة»: وأَوْلى القلوب بالخير مَا لم يسبق الشرُّ إليه.
          وأمَّا قولنا: ما المراد بقوله (يَمْتَلِئَ شِعْرًا)(22)؟ هل المراد به الذي يُكثِر مِن حفظ هذا النوع مِن الشِّعر، أو المراد به: مَنْ تَعَلَّقَ به خاطِرُه حتَّى يكونَ به مشغوفاً؟
          فالجواب: أنَّ هذا عَلى وجهين: إمَّا مشغوفاً بتردَاده وذِكره والنَّظر فيه، أو مشغوفاً به وبنظمه وإنشائه واختراعه ومعارضة مَن تقدَّم مِن أهل ذلك الشأن، احتمل الوجوه كلَّها، لكن الأظهر _والله أعلم_ أنَّ المراد هو الذي تعلَّق خاطره به التَّعلق الكُلِّي الَّذي يُلْهيهِ عَن غيره، / كَان ممَّن يخترعه وينشئه أو ممَّن ينقله ويحفظه(23)، فَالوجهان سِيَّان، مثل الَّذي ابتُلي بحبِّ الدنيا، كان بيده منها شيء أو لم يكن، مِن أبنائها يُحْسَبون(24).
          وأمَّا قولنا: ما الحكمة في أنْ مثَّل بذكر القيح؟ فاعلم(25) _وفَّقنا الله وإيَّاك_ أنَّ تمثيله ◙ بالقيح مِن أعظم الحذر عمَّا(26) مثَّل به، وذلك(27) أنَّ أهل صنعة(28) الطِّبِّ يزعمون أنَّه إذا وصل إلى القلب مِن الدَّاء شيء، وإن كان يسيراً، فإنَّ صاحبه يموت لا محالة، لأنَّه عضو رئيسٌ لا(29) يحمل مِن الآلام شيئاً، وإنَّ غيره ممَّا في الجوف مثل الكبد والرِّئة إلى غير ذلك أنَّ الآلام إذا كانت في بعضها أنَّ ذلك مِن الأمور المخوفة غالباً(30)، والغالب على صاحبها الهلاك، فكيف إذا امتلأ الجميع بالقيح؟ لا شكَّ في هلاك صاحب ذلك. ألَا ترى أنَّه إذا كان بعضُ الأنامل فيه نبت(31) عند أخذه في جمع(32) القيح لا يهنأ لصاحبه عيش وَلا حال؟ وكذلكَ إن كان صاحبه ورمُ الكبد(33) يموت مخبولَ الدِّماغ مِن هول ما يقاسي؟ فترجيحه صلعم هَذه الحالة التي ذكرناها على الشِّعر الَّذي فيه راحة النَّفس إنَّما ذلك لجمعه علَّتين، وَهما: شغله عن الله تعالى بما لا يجوز مِن ذكر(34) تلك الأمور التي يتضمَّنها تغزُّل الشِّعر، لأنَّه قد قال صلعم : «مَثَل الذي يَذْكُرُ ربَّه والذي لا يَذْكُرُ مَثَلُ الحيِّ والميتِ». ولَمَّا / كان هنا الشغل بمكروه أو حرام كان الموت(35) على الحالة المذكورة خيراً له.
          وهنا بحث وهو أن يُقال: هل(36) يتعدَّى الحكم بوجود العلَّة أم لا؟ الظَّاهر تعدِّيه، لأنَّ كلَّ ما يشغل عن الله تعالى فصاحبه محروم، فإنْ كان بمحرَّم مِن أيِّ المحرَّمات كان الموت(37) على هذه الحالة خيراً(38) له ممَّا هو فيه.
          تنبيه: إذا كان مَلْؤه بالقيح خَيراً له مِن الشِّعر، ومَا فيه إلَّا العلَّتان اللَّتان ذكرناهما(39)، فكيف إذا امتلأ بعلم الجدل وما يشبهه؟! لأنَّ تلك العلوم تُقسِّي القلوب وَتشغلها عَن الله تعالى، وتُحدِث الشكوك في الاعتقادات، وَتطيل اللِّسان، وَتزرع الحسد في القلوب والتَّنافس، وَتفضي إلى التَّباغض والتَّحكم عَلى القدرة بأشياء لَا توافقها الأدلَّة الشرعية؟ فكيف يكون حال صاحبه؟.
          تنبيه آخر: في ترك حظوظ(40) النفس والعوائد السوء. يُؤخذ ذلك مِن أنَّ(41) سيِّدنا صلعم بُعِث والعرب في معظم فصاحتها واشتغالها بالشِّعر وتنافُسِها فيه، فزجرهم النَّبيُّ صلعم (42) عن ذلك بهذا الزَّجر العظيم الذي تضمَّنه الحديث.
          ويترتَّب عَلى ذلك مِن الفقه أنَّ شَغل الباطن بغير مَا يُرْضِي الله تعالى مِن أعظم الأمور المهلكة، ولم يُجعل له مخرج، والأمور الواقعة في الخارج مِن الكبائر والصَّغائر ومَا بينهما جُعلت فيها الحدود وَالكفارات، إلى غير ذلك ممَّا هو معروف مِن قواعد الشرع.
          ويترتَّب عليه أيضاً أنَّ الزجر إِذا(43) كان لنفسك أو لغيرك يكون(44) بحسب / الشيء المنهيِّ عنه مِن قوَّة أو لِين، حتَّى يكون عاصماً لتلك المادَّة الرديئة.
          وفيه دليل لأهل المجاهدات، وهو أنَّه لَمَّا عَسُرت(45) عليهم نفوسهم في الانقياد إلى مَا أُريد منها أخذوها بالمجاهدات عَلى قدر رعونتها، حتَّى انقادت. وَقد ذُكر عن بعضهم أنَّ نفسه كان فيها رُعونة، فجاهدها عشرين سنة بأكل نِشارة(46) الخشب، ولم يُطعمها خبزاً(47)، حتَّى انقادت واستقامت لِمَا أُريد منها، ومثل ذلك التنفُّل(48) في قطع العوائد السُّوء، ولا يُنظر في ذلك إلى كثرة انتشارها في النَّاس، وإنَّما يُنظر فيها بلسان العلم هل تجوز(49) أم لا؟ وَعلى ذلك يكون العمل فهي طريق النَّجاة، جعلنا الله مِن أهلها في الدَّارين بمنِّه وفضله.


[1] في (ب): ((عن ابن عمر ╠عن النبي صلعم قال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)).
[2] في (ت): ((بجوفه وقوله شعراً هل هو على)).
[3] في (ج): ((ما))، وفي (ب): ((أو ليس وما)).
[4] قوله: ((من)) ليس في (ب).
[5] في (ب): ((ومنها ما)).
[6] قوله :((ومنها: هل قوله: (شعراً) على عمومه أو.... غيره أمّا قولنا: ما المراد بجوفه)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى. وفي (ب): ((أما قولنا ما معنى جوفه)).
[7] في (ب): ((على ظاهره فيعنى به الجوف)).
[8] في (ب): ((ما يعنى بقوله)).
[9] زاد في (م): ((الزمان)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] زاد في (م): ((قال)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[11] زاد في (ت): ((سبحانه)).
[12] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((خير)).
[13] في (ج) و(ت): ((لأنهم)).
[14] في (ج): ((في مدح ذكورهن)).
[15] في (ت) صورتها: ((وبحرم)).
[16] في (ج): ((شيئاً عليه)).
[17] قوله: ((إليَّ)) ليس في (ب).
[18] في (ج): ((الشعر)).
[19] في (م): ((بالشهوات)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] قوله :((وهنا)) زيادة من (ب) على النسخ.وبعدها في (ب): ((إشارة لطيفة كما قال صاحب الرسالة)).
[21] في (ت): ((لما)).
[22] في (ب): ((ما معنى يمتلئ شعراً)).
[23] زاد في (ج) و(ت): ((وقد أغري به))، وزاد في (ب): ((وقد أغرم به)).
[24] في (ب): ((أو لم يكن الكل ممن غلب عليهم حب الدنيا من أهلها يحسبون)).
[25] في (ج): ((اعلم)).
[26] في (ت): ((ممَّا)).
[27] في (ج): ((وكذلك)).
[28] قوله: ((صنعة)) ليس في (ج) و(ت).
[29] في (م): ((عضو فلا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[30] كذا في (م)، وقوله: ((غالباً)) ليس في باقي النسخ.
[31] في (ب): ((نبات)).
[32] في (ج): ((أخذه جميع)).
[33] في (ب): ((ولا حال وإن أيضاً صاحب ورم الأكباد)).
[34] في (ج) و(ت): ((ذكره)).
[35] في (ب): ((كانت الموتة)).
[36] قوله :((هل)) ليس في (م) و(ت) والمثبت من (ج) و(ب).
[37] في (ج): ((فالموت)).
[38] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((فالموت على هذه الحالة المذكورة خير)).
[39] في (ج): ((التي ذكرناها)).
[40] في (ب): ((وفيه تنبيه على ترك حظوظ)).
[41] في (ت): ((حظوظ النفوس والعوائد السوء. يؤخذ ذلك من كون)).
[42] قوله: ((فزجرهم النَّبيُّ صلعم)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى. وقوله: ((النبي)) ليس في (ت).
[43] في (ب): ((ويترتب عليه من الفقه أن الزجر))، وزاد في المطبوع: ((إذا)).
[44] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((فيكون))، وقوله بعدها: ((الشيء)) ليس في (ب).
[45] في (ج): ((عثرت))، وفي (ب): ((عصت)).
[46] في (ب): ((نشارات)).
[47] زاد في (ب): ((أصلاً)).
[48] في (ج) و(ت): ((التغفل)). وفي (ب): ((الشأنُ)).
[49] في (ب): ((هل يجوز)).