بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا..

          47- (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ(1) صلعم قَالَ: إِذَا قالَ الإمَامُ(2): سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ...) الحديث(3). [خ¦796]
          ظاهره(4) من وافق تحميده عند قول الإمام: (سمع الله لمن حمده) قول الملائكة غُفِرَ(5) له، والكلام عليه من وجوه:
          منها: ما معنى قوله ╕: (وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ) هل في الزَّمان، أو في الإخلاص، أو في مجموعهما؟ محتمِلٌ، والأظهر: موافقتُهُما(6) في الزَّمان والإخلاص؛ لأنَّه لم يبق محتمَل ٌآخر، وبقي(7) الوجهان على طريق الطمعِوالرجاءِ في فضل الله تعالى.
          ٌ في قوله ╕: (قَوْلَ المَلاَئِكَةِ): هل يعني به: ملائكةً معروفين فتكونَ(8) (الألفُ واللام) للعهد؟ أو يعني به: جنس الملائكة فتكون للجنس؟احتمل، لكن جاء حديث آخر: «قَوْلَ المَلاَئِكَةِ في السَّمَاءِ» / فدلَّ(9) على أنَّها للعهد وأنَّهم ملائكةٌ في السَّماء، وممَّا يقوِّي هذا ما جاء عنه صلعم في قوله: «يَا مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ وَسَتَرَ الْقَبِيحَ، إنَّ اللهَ ╡ خلقَ تحتَ العرشِ تماثيلَ على صفةِ كلِّ شَخْصٍ منْ بني آدمَ، فَإِذَا تحرَّكَ الآدميُّ بأيِّ نوعٍ تحرَّكَ، تحرَّكَ ذلكَ التِّمثَالُ(10) بمثلِ ما تحرَّكَ به الآدميُّ، لكنْ بفضلِ اللهِ إنْ كانَ تحرَّكَ الآدميُّ بطاعةٍ تحرَّكَ ذلكَ التِّمْثَالُ بِمِثْلِهَا فَأَبْصَرَتْهُ الملائكةُ فَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ودَعَتْ لَهُ، وإنْ كانَ بمخالفةٍ أو مكروهٍ سَتَرَ اللهُ ╡ حركةَ ذلكَ التِّمْثال عنِ الملائكةِ فَلَا يَرَونَهُ حينَ يتحركُ بالْمَعْصِيةِ» فسبحان مَن هذا حِلْمُه بعد(11) عِلْمِه.
          وفيه دليلٌ على عظيم قدرة الله ╡ (12)، يُؤخَذُ ذلك من أنَّ هذا العالم على كثرته تكون الملائكة في العالم العلويِّ(13) يراقبونهم واحدًا واحدًا.
          وفيه دليلٌ لمن يقول: إنَّ بني آدم الصَّالحين أشرفُ من الملائكة، يُؤخَذُ ذلك من كون العالم العلويِّ مترقِّبين(14) لهم ويُؤمِّنُون على دعائهم واحدًا واحدًا.
          وفيه دليلٌ على زيادة شرف هذا الرُّكن من بين أركان الصلاة، لأنَّه لم يجِئ أنَّ الملائكة تشارك الآدميَّ في هذه العبادة بالموافقة إلَّا في هذا الركُّن وتأمينهم عند آخر: {الْحَمْدُ(15) لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]. بقولهم: (آمين)، فهذا أيضًا دالٌّ على فضل السُّورة، لأنَّه لم يجِئ أنَّها تُؤَمِّنُ على القراءة في شيء إلَّا على(16) خاتمة(17) الفاتحة وهذا(18) الموضعُ وهو تحميدها على قول الإمام: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) دالٌّ على تعظيمها من بين الأركان / والأقوال.
          وفيه دليلٌ على فضل صلاة الجماعة على غيرها، يُؤخَذُ ذلك من أنَّها لا تؤمِّن وتحمِّد(19) على قول الفذِّ (آمين(20)) وعند قوله(21): (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) وإنما تفعل(22) ذلك للإمام ليس إلَّا.
          وفي هذا الموضع دليلٌ بقوَّة الكلام على المحافظة عليها؛ لأنَّه لـمَّا أخبر صلعم بما فيها من الأجور كأنَّه بقوَّة الكلام يقول: لا تغفُلْ عنها وحافِظْ عليها.
          وهنا بحثٌ لطيفٌ وهو: ما الحكمةُ بأن خُصَّ هذا الموضع وحدَه بهذا التَّشريف؟ فإن قلنا: تعبدًا(23) فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة(24) فما هي؟
          فنقول والله أعلم: لـمَّا جاء(25) أنَّ الركوع مُنِعَتْ فيه القراءةُ، ومُنِعَ فيه من الدُّعاء، وشُرع فيه تعظيم الرب ╡ وقد قال تعالى: على لسان نبيه ╕: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي(26) السَّائِلِينَ» فلمَّا كان(27) هؤلاء امتثلوا ما أُمِروا به في حال الركوع(28) بترك كلِّ شيء واشتغلوا بتعظيمه جلَّ جلالُه تفضَّل ╡ عليهم بأن جعل لهم في هذا الموطن الذي هو رفع الرأس من هذا التَّعظيم لجلاله(29) هذا الخيرَ العظيم، وأمر نبيَّه صلعم أن يخبرهم به ليعرفوا قدرها من نعمةٍ، لأنَّه ليس في جميع الثَّواب أعظمُ من المغفرة كما قرَّرناه في الأحاديث قبل.
          وفيه معنى آخر لطيفٌ، وهو(30) لـمَّا جاء قول إمامهم: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) أي: أنَّه قد سمع اللهُ(31) حمدَكم إيَّاه وجازاكم عليه بمقتضى وعده الجميل، وهو قوله ╡ : «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» / جاء جوابهم: (اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ) وهذا شكرٌ على تلك النِّعمة؛ لأنَّ الحمدَ يقومُ مقام الشُّكر وهو أعلى وجوه الشُّكر(32) وقد قال جلَّ جلاله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
          فلمَّا شكروا زِيْدَتْ لهمُ المغفرةُ، فجاءتْ زيادةُ الكريم توفيةً لوعده الجميل: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ}[التوبة:111]، وكانت(33) الزيادةُ خيرًا(34) من العمل، لأنَّ الزيادة هي بمقتضى الفضل وإن كان الكلُّ من الخير بفضله سبحانه(35) لكنَّ الزيادة ليست بمقابلة شيءٍ من الأعمال فهي فضلٌ صِرف، فجاءت(36) بأعظم(37) الأشياء، ولذلك قال جلَّ جلاله: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:173]،وهذا أجلُّ البشارات، وأجلُّ السُّرور، لأنّ(38) ما هو مقتضى فضل ذي الجلال والإكرام لا يبقى معه هَمٌّ ولا نَصَبٌ ولا حظٌّ من خيرٍ إلَّا وقد أُجزِلَ لمن مَنَّ عليه بهذه النعمة جعلنا الله من أهلها بفضله، ولذلك قال ╡ : {وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32]. لأنَّه إذا كان السؤال من المسكين إلى الجليل وهو ليس بملتفت(39) لعمله كان أنجحَ في الاستجابة ولا ينتبه إليها إلَّا من خُصَّ بها(40)، جعلنا الله منهم بفضله.
          وهنا إشارةٌ صوفيَّةٌ لأنَّهم لـمَّا رأوا هذه الإشارة(41) وغيرها تقتضي تفضيل ترك الحظوظ على غيرها عملوا على الخروج من حظوظ النفوس جملةً من غير تفصيل(42)، واشتغلوا بذكر الصَّمد الجليل، فأورثهم ╡ العزَّ الرفيعَ بأن شرَّفهم فقال تعالى في محكم التَّنزيل: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} [النور:37].
          وقال ╡ : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]. /
           فَهَّمَنا الله ما فهَّمَهم وجعلنا في الأحوال معهم، لا ربَّ سواه، وصلَّى الله على سيِّدنا(43) محمد وآله وصحبه(44) وسلَّم.


[1] في (ج) و(م) و(ل): ((يموت..)).
[2] زاد في (ط): ((قول)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] أشار في حاشية (ل) أنَّ الراوي أبوهريرة ثمَّ ذكر متن الحديث فقال: ((فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، فإنَّه من وافق قولُه قولَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه))، ولم يذكر في (ج) و(م) و(ل) اسم الراوي وابتدأ الحديث فقال: ((قوله أن رسول الله)).
[4] زاد في (ج) و(م): ((أن)).
[5] زاد في (م): ((الله)).
[6] في (م): ((موافقتها)).
[7] في (ج): ((وففي)).
[8] في (م): ((فيكون)).
[9] في (م): ((يدلُّ)).
[10] في (ج): ((التماثيل)) في المواضع كلها.
[11] في (ج): ((مع))، وفي (م): ((هذا حكمه مع)).
[12] في (ج): ((قدرة تعالى)).
[13] في (ج): ((العلو)).
[14] في (ج) و(ل): ((مترقبون)).
[15] في (ج): ((حمد)).
[16] قوله: ((على)) ليس في (ج).
[17] في (ط): ((خواتم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] في (م): ((وهو)).
[19] في (ج): ((ويحمد)).
[20] قوله: ((آمين)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] ((الواو)) قبل ((عند)) زيادة من (ل) و(ج)، وفي (ج): ((قول)) بدون ((هاء)).
[22] في (ج): ((نفعل)).
[23] في (ج) و(م) و(ل): ((إنه تعبد)).
[24] في (ج): ((إنه بحكمة))، وفي (م) و(ل): ((أنه لحكمة)).
[25] في (ج): ((جاءه)).
[26] قوله: ((ما أُعطي)) ليس في (م).
[27] في (ط): ((كانوا)).
[28] قوله: ((الركوع)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] في (ج): ((بجلاله)).
[30] زاد في (م): ((أنه)).
[31] قوله: ((الله)) من (ل).
[32] قوله: ((وهو أعلى وجوه الشكر)) ليس في (ج).
[33] في (ج): ((كانت)).
[34] في (ل): ((خيرٌ)).
[35] قوله: ((سبحانه)) ليس في (م).
[36] في (ج): ((جاءت)).
[37] في (ط) و(م) و(ل): ((أعظم)) والمثبت من (ج).
[38] في (ل): ((لأنَّه)).
[39] في (ج) و(م): ((بملتفت)).
[40] في (ج): ((ولا ينته إليها من حظي بها))، وفي (ل): ((ولا ينتبه لها إلَّا من خُصَّ)).
[41] في (م): ((الأشياء)).
[42] في الملف: ((تفضيل)).
[43] زاد في (ج) و(ل): ((سيِّدنا)).
[44] قوله: ((وصحبه)) ليس في (ط) و(ج) و(م) و(ل).