بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا

          256- قوله صلعم : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا...) الحديثَ(1). [خ¦6243]
          ظاهر الحديث يدلُّ على الإخبار بأنَّ مَن كَتَبَ الله عليه مِن بني آدم شيئاً(2) مِن الزِّنى لا بدَّ أن يفعله، ولو تحرَّز بما عسى أن يتحرَّز. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّه صلعم قسم الزنى على قسمين: زنى الفرج، وهو الزنى الحقيقي، وهو الذي يوجِب الحدَّ، وزِنى العين بالنظر، واللِّسان بالكلام، وَهو الذي يدخل تحت حدِّ(3) اللَّمَم _على قول بعض العلماء_ لأنَّهم قالوا: ما دون الوَطْءِ فهو اللَّمَم(4)، ويستشهدون بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] ومِصداقُ ذلك مِن الحديث نفسه قوله ◙ : (وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْيُكَذِّبُهُ(5)). فإذا كذَّبَهُ الفرج فلا زنى.
          وبقي فيه سؤال وَهو أن يُقال: ذكره العين واللسان(6) هل ذلك الزِّنى(7) / مقصور على هاتين الجارحتين، أو ذِكْرُ هاتين الجارحتين(8) مِن باب التنبيه بالأعلى عَلى الأدنى؟ الظَّاهر أنَّه مِن باب التنبيه بالأعلى على الأدنى(9)، لأنَّ لكلِّ جارحة زنى، وهو خروجها في تصرُّفها عمَّا شُرع لها، فإن اليد(10) إذا لمست مَا لم(11) يَجُز لها فقد زنت، وَكذلك الأنف إذا شمَّ مَا لا يجوز له فقد زنى(12)، وكذلك الأذن إذا سمعتْ ما لا يجوز لها فقد زنت(13)، وكذلك الرِّجْل إذا مشتْ فيما لا يجوز لها(14) فقد زنت، وكذلك جميع الحواسِّ، فزنى(15) كلِّ جارحةٍ بحسب خروجها عمَّا شُرع لها. لكن لا تخلو كلُّ جارحة مِن الجوارح(16) أن يكون خروجها عما(17) شُرِع لها مما هُو مِن أسباب النِّكاح وأدواته، أو مِن غير ذلك، فإن كان ممَّا هو مِن أسباب النكاح وأدواته فهو(18) الذي يكون الفرج يصدِّقه ويكذِّبُهُ، وهو الذي أشار إليه سيِّدنا صلعم في الحديث الذي نحن بسبيله، وإن كان خروجها عمَّا شُرع لها لا يمكن أن تكون تلك المخالفة إلَّا منها، وهي التي تحقِّقُها إن كانت لها مشاركة مع غيرها مِن الجوارح فيها، وتكذِّبُها(19)، فليس مِن هذا الحديث الذي نحن بسبيله، وَلها(20) حكمها منصوص عليه في موضعه.
          مثال ذلك: الغيبة التي هِي مختصَّةٌ باللِّسان، وهَي مِن الكبائر بلا خلاف(21)، لقوله صلعم : «الرِّبا(22) اثنانِ وسبعون باباً، أدناهُ مثلَ أن يطأ الرَّجل أُمَّه، وأربى الرِّبا(23) استطالةُ لِسان المسلم في عِرض أخيهِ» أو كما قال ◙ (24). فمن وَقع في الغِيبة بلسانه فقد تحقَّق عليه إثم الغيبة، ولا يحتاج في ذلك / لجارحة أخرى تصدِّقه أو تكذِّبه، وَعلى هذا النوع فانظر جارحةً جارحةً(25) تجد القاعدة مطَّردة، والحُكمُ فيها واحدٌ(26).
          قوله(27) صلعم : (أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ) لا يختصُّ هَذا بالزنى وحدَه(28)، كذلك حكم الله في جميع أنواع الخير والشرِّ، مَن كَتَب له مِن أحد الوجهين شيئاً واجباً فلا بدَّ له منه، لا يَردُّه عنه رادٌّ، لأنَّه قد نصَّ العلماء عَلى أنَّ ما قُدِّر عَلى العبد على ضربين: قَدَر قُدِّر وقدَر أن يردَّه وجه(29) مَا مِن الوجوه، فذلك الذي ينفع أثر الحكمة فيه، وهي التسبُّب في دفعه. وما قدِّر له أو عليه حتماً، فذلك لا يردُّه شيء(30) مِن الأشياء، وَمنه خوف الرِّجال(31) وأهل العقول.
          وقوله صلعم : (وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى ذَلِكَ وَتَشْتَهِيْ) يعود عَلى جميع ما ذُكر في الحديث، لأنَّها مطبوعة عَلى تمنِّي جميع الشهوات، حلالاً كانت أو حَراماً، لكن(32) لا يضرُّ ذلك إذا زجرها صاحبها، ولم يوافقها(33) عَلى ذلك، ودَخل تحت مضمَّن(34) قوله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 -41].
          فإن لم ينهها، ولم يقع(35) ما طلبته منه بحكم الوفاق، لم يكن مِن أحد القِسْمَين، ولم يكن ممَّن ينطلق(36) عليه اسم (زانٍ) لأنَّه لم يقع الفعل بالفرج الذي هو يصدِّقه، وَلم يكن أيضاً ممَّن زجر النفس عن الهوى فتكون الجنَّة له مأوى. وكذلك كلُّ مَا حدَّثت به النفس مِن غير ذلك إنَّما هُو مفتقر إلى ظهوره على جارحة مِن الجوارح التي(37) ذلك الفعل مختصٌّ بها، فإنْ هو زجرها ونهاها كان(38) مِن / المفلحين، وإن هو وافقها حتَّى ظهر ذلك على تلك الجارحة كان مِن الخاسرين، وإنْ هو لم ينهها(39) وَلم يفعل بحكم الوفاق كَان مِن المذَبْذَبين(40).
          وكذلك يتعدَّى(41) الحُكم إلى ما الشَّخص(42) فيه مؤاخذ بعقد النِّية الذي هُو مِن الأمور القلبية، إذا وافقها(43) عَلى مَا سوَّلت له عقد(44) نيَّته عَلى ذلك كان مِن الخاسرين، وإن نهاها عَن ذلك كان مِن المفلحين التقسيم بعينه. ومثل(45) ذلك الحسد المنهيُّ عنه شرعاً، إذا دَعته النَّفس إليه جرى فيه(46) ذلك التقسيم، وكذلك مَا أشبهه ممَّا هو مختصٌّ بالقلب ليس إلَّا، فتكون النِّية وَعَقْدُها هي التي تصدِّق ذلك أو تكذِّبه(47).
          وفيه دليل لطريق أهل الصوفة الذين يرون بمخالفة(48) النَّفس وحديثها(49)، يُؤخذ ذلك مِن نصِّه صلعم في الحديث أنَّ مِن وصفِها(50) التي طُبعت عليه أنَّها تتمنَّى ذلك الحرام وتشتهيهِ(51)، فمَن هذه صِفَتُها وَجَبَت مخالفتُها عقلاً وديناً، فإنَّها تفضي بصاحبها إلى الهلاك، وقد قيل(52): نفسك وإن صلَحت لا تأْمَنْها، فإنَّ الشَّرَّ يلمع في(53) أفئدتها.
          ويترتَّب على فهم الحديث بشرحه فائدتان:
          إحداهما(54): أن تجتهد في أفعال الخير، لعلَّه يدفع عنك بها(55) من الشرِّ ما لا تعلمه، وقد كُتب عليك، فتكون ممَّن وقاه معروفُه مصارعَ السوء(56).
          والأخرى(57): دوام الخوف، وإن كنت على أرفع الأحوال، أو على أيِّ حالة كنت، خوفاً أن يكون قد(58) سبق عليك في الكتاب(59) الخَتْمُ ما لا تطيقُهُ وأنت لا تعلمُ، ومِن / أجل هذه الإشارة قال جلَّ جلاله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
          جعلنا الله ممَّن يخشاه، وَكانت خشيته سبباً إلى سعادته، بمنِّه ويمنه وكرمه(60).


[1] في (ب): ((عن أبي هريرة عن النبي صلعم : إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى ذلك وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)).
[2] في (ب): ((من كتب عليه من بني آدم شيءٌ)).
[3] قوله: ((حد)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ب): ((ما دون النكاح فهو اللمم)). وقوله: ((_ على قول بعض العلماء _ لأنَّهم قالوا: ما دون الوَطْءِ فهو اللَّمَم)) ليس في (ج).
[5] كذا في (ب): ((أو يكذبه))، وفي باقي النسخ: ((ويكذبه)). وزاد في (م) قبلها: ((من الحديث نفسه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[6] قوله: ((ذكره العين واللسان)) زيادة من (ب) على النسخ الأخرى. وقوله بعدها: ((الزنى)) ليس في (ج).
[7] قوله: ((الزنى)) ليس في (ج).
[8] قوله :((أو ذكر هاتين الجارحتين)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] قوله: ((الظَّاهر أنَّه مِن باب التنبيه بالأعلى على الأدنى)) ليس في (ب).
[10] قوله: ((فإن اليد)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى، وبعدها في (ب): ((لما)).
[11] في (م): ((إذا لمست ما لم)).
[12] في (م): ((لها فقد زنت)) والمثبت من النسخ الأخرى، وقوله: ((له)) ليس في (ب).
[13] قوله: ((وكذلك الأذن إذا سمعت ما لا يجوز لها فقد زنت)) ليس في (ب). وفي (ج) و(ت): ((إذا لمست ما لم يجز لها فقد زنت وكذلك الآذان [في (ت): ((الأذن))] إذا سمعتْ ما لا يجوز لها فقد زنت وَكذلك الأنف إذا شمَّ مَا لا يجوز له فقد زنى)).
[14] قوله: ((لها)) ليس في (ب).
[15] في (ج) و(ت): ((زنى)).
[16] قوله: ((فزنى كلِّ جارحةٍ بحسب خروجها عمَّا شُرع لها. لكن لا تخلو كلُّ جارحة مِن الجوارح)) ليس في (ب).
[17] في (ج): ((عنها)).
[18] في (ت): ((فهذا)).
[19] في (ج): ((أو تكذبها))، في (ت): ((أو يكذبها)).
[20] في (ج): ((ولهما)).
[21] قوله: ((بلا خلاف)) ليس في (ج) و(ت).
[22] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((الزنا)).
[23] في (ب): ((وأزنى الزنا)).
[24] زاد في (م): ((في عرض)) والمثبت من النسخ الأخرى، و قوله: ((أو كما قال ◙)) ليس في (ب).
[25] في (ب): ((بجارحة)).
[26] في (ب): ((والحكم واحد)).
[27] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((وقوله)).
[28] زاد في (ب): ((بل)).
[29] في (ب): ((وقدر أنه يرد وجه)).
[30] في (ج): ((شيئاً)).
[31] قوله: ((الرجال)) ليس في (ج). قوله: ((الرجال و)) ليس في (ت).
[32] قوله: ((لكن)) ليس في (ب).
[33] في (ج): ((يوفقها)).
[34] في (ب): ((متضمن)).
[35] في (ج): ((يقطع)).
[36] في (ب): ((يطلق)).
[37] في (ج): ((الذي)).
[38] زاد في (ب): ((هو)).
[39] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((ينه)).
[40] في (ج): ((المدبرين))، وزاد في (ب): ((كما تقدم التقسيم)).
[41] في (ج) و(ب): ((تعدي)).
[42] في (ج): ((أشخص))، وفي (ب): ((إلى ما هو الشخص)).
[43] في (ج): ((وفقها)).
[44] في (ج) و(ت): ((وعقد)).
[45] في (ج): ((ومثال))، وفي (ب): ((مثال)).
[46] في (ب): ((النفس إلى شيء منه فيه)).
[47] في (ج): ((هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه)).
[48] في (م): ((لمخالفة))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[49] زاد في (ب): ((جملة واحدة)).
[50] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((وضعها)).
[51] في (ت): ((وتشتهي)).
[52] في (ب): ((وقد قال)).
[53] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((من)).
[54] في (ب): ((أحدهما)).
[55] في (ب): ((بها عنك)).
[56] قوله :((مصارع السوء)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[57] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((والآخر)).
[58] قوله: ((قد)) ليس في (ب).
[59] قوله: ((الكتاب)) ليس في (ج)، وفي (ت) و(م): ((الكتب)).
[60] في (ب): ((بمنه وكرمه))، وقوله: ((ويمنه وكرمه)) ليس في (ج) و(ت).