بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: ابن أخت القوم منهم

          275- قوله صلعم : (ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ مِنْهُمْ _أَوْ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ_)(1). [خ¦6762]
          ظاهر الحديث يدلُّ عَلى أنَّ ابن أخت القوم منهم، وأنَّه يُضاف إليهم. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: مَا معنى (مِنْهُم)؟ هل ذلك عَلى العموم في كلِّ مَن انقطع عن نسبة(2) أبيه، أو ذلك في(3) وجه خاصٍّ؟ وما الحِكْمةُ / في أن أتى(4) بصيغة (القَوْم)؟ وما أراد بها، هَل(5) القبيلة أو غير ذلك(6) مِن الرِّجال دون النِّساء؟ وَهل هذه النسبة أمر لا يُعقل معناه، فيكون تعبُّداً، أو لحكمةٍ تُعرف؟.
          أمَّا قولنا: ما معنى (مِنْهُم)؟ وهل ذلك عَلى العموم، أو في أمر خاصٍّ؟ اللَّفظ محتمِل. وتخصيصه يُؤخذ مِن غير هَذا الحديث(7) مِن(8) قواعد الشَّريعة. فأمَّا تخصيصه مِن جهة قواعد الشريعة فقد(9) قال صلعم : «مَنِ انْتَسَبَ إلى غيرِ أبيهِ وهو يَعْلَمُ أنَّه غيرُ أبيه فالجنَّةُ عليه حرامٌ» أو كما قال صلعم، فَلا يكون عَلى عمومه حتَّى يقطع الابن مِن أبيه ونسبه. وأمَّا تخصيصه مِن غير هذا الحديث فقد قال صلعم : «الخالُ أَحَدُ الأَبَوين» معناه: فيما يجِبُ مِن بِرِّه وتوقيره، لا أنَّه اشترك هُو والأبوان في الصبيِّ، ولا له معهما مِن(10) ميراثه نصيب، فكذلك: ابن الأخت مِن القوم، أي: مِثْل بَنِيهم، لأنَّه مَا يكون مِن القوم إلَّا بُنَيُّهُمْ(11)، فهو كَبَنِيهم في الشَّفقة عليه، ولذلك قدَّم(12) في الحضانة الأمَّ وأهلَهَا مِن بعدها عَلى الأب وأهله. ويلزم الصبيَّ مِن البرِّ لهم والإكرام مثل ما يلزم مِن جهة الأب. وقد قال بعض الحكماء(13): إذا أردت النُّصرة فائْتِ العمومة والقبيلة فهم أشدُّ في الحماية لك، وإن(14) أردت الأكل والحاجة(15) مِن جهة بذل المال أو مَا في معناه فائْتِ الخؤولة فَهُم أحنُّ عليك وَأشفق. وممَّا يبيِّن مَا ذكرناه: ((أنَّه صلعم دَخل على عائشة ♦ وَهي / تبكي فقال لها: ما يُبْكِيكِ؟ فقالت: ليسَ لي بما أُكنَّى، وَعادة العرب يُكنَّون(16) بالأكبر مِن بنيهم. فقال لها: تكنَّي بابنِ أُخْتِك(17))) فجعل ابنَ أختها مثلَ ابنها.
          وأمَّا قولنا: ماذا أراد بقوله: (القَوم) هل الرِّجال دون النِّساء أو الجمع(18)؟.
          فالجواب: أنَّه لَمَّا كان الحُكم في هذا للرِّجالِ والنِّساء سواء، وَعادة العرب إذا كان مذكَّر وَمؤنَّث، وأرادوا جمعهما(19) غلَّبوا المذكَّر وإنْ كان هو الأقلُّ وَجمعوهما(20) جمع المذكَّر، فَلذلك جمع هنا صلعم بصيغة جمع المذكَّر(21).
          وأمَّا قولنا: هل هذا تعبُّد أو لحكمة تُعرف؟ فالحكمة _والله أعلم_ ظاهرة، لأنَّ العرب(22) كانوا لا يَلْتَفِتون لجهة النِّساء ولا يُعنَون بهنَّ، وكانوا(23) يقولون في ابن البنت الذي هو أقربُ منه _أعني مِن(24) ابن الأخت_:
أبناءُ أبنائنا أبناؤنا وأبناء                      بناتنا أبناء الناس الأباعد (25)
          فأراد صلعم بهذا الحديث وما هو في معناه نسخَ أحكام الجاهليَّةِ، والأُلفة بين الأهل والأقارب، والله أعلم.
          وفيه دليل على جواز المخاطبة باللَّفظ العامِّ والمراد منه الخصوص، إذا علمتَ مِن فهم المخاطب أنَّه فَهِم(26) مَا أُلقي إليه. يُؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ مِنْهُمْ) والمقصود بقوله: (مِنهُم) مَا أشرنا إليه باللَّفظ الخاصِّ.
          وفي هذا دليل لمالك(27) حيث يقول: بالمعاني استُعبِدنا لَا بالألفاظ، إشارةً منه إلى هذا المعنى فلا تَشاححَ في الألفاظ(28).
          وفيه دليل عَلى فضل الصَّحابة ♥ وتحرِّيهم في النقل. يُؤخذ ذلك مِن قول الرَّاوي: (مِنْهُمْ _أَوْ: مِنْ / أَنْفُسِهِمْ_) وهذا دأبهم في النَّقل(29).
          وفيه دليل(30) لمن يقول: إنَّ الحديث إنَّما يُنقل مِثل القرآن بالواو والفاء. يُؤخذ ذلك مِن قوله: (مِنْهُمْ _أَوْ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ_) لأنَّ المعنى في اللَّفظتين(31) سواء، فلو لم(32) يكن الأمر(33) عندهم أنَّه يُنقل بالفاء والواو ما(34) فعل هذا.
          وفيه دليل لمن يقول: إنَّ(35) للعالم أن يُعلِّم قبل أن يُسأل. يُؤخذ ذلك مِن أنَّ سيِّدنا صلعم أخبرهم بهذا الحديث مِن غير سؤال تقدَّم، ولَو تقدَّمه سؤال لذكره الرَّاوي، فإنَّ هذا هو المعروف مِن عادتهم ♥.
          وفيه دليل على أنَّ لسيِّدنا(36) صلعم أن يقرِّر مِن الأحكام مَا شاء بغير وَحي في ذلك. يُؤخذ ذلك مِن أنَّه صلعم أخبر بهذا الحديث وَلم يذكر أنَّه بوحي، وبأيِّ طريق(37) أُمرنا مِن هذين الوجهين يلزمنا العمل بذلك، لقول الله ╡ في كتابه: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] وإن كانت المسألة مختَلَفاً فيها. لكن هذا هو الظَّاهر(38) والَّذي عليه الجمهور، وَهو المستقرُّ أيضاً مِن أحكام الشَّريعة لمن تتبَّعها غالباً(39).


[1] في (ب): ((عن أنس عن النبي صلعم قال: ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم)).
[2] في (ج) و(ب): ((نسب)).
[3] في (ب): ((من)).
[4] في (م): ((في أنه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[5] قوله: ((هل)) ليس في (ج).
[6] في (ج): ((بها، القبيلة أو ذلك)).
[7] قوله :((ويتبيَّن أيضاً تخصيصه)) ليس في (م) و(ت) والمثبت من (ج) و(ب). وبعدها في (ج) و(ب): ((من جهة قواعد..)).
[8] زاد في (ج): ((جهة)).
[9] في (ج) و(ب): ((الحديث، ويتبين أيضاً تخصيصه من جهة قواعد السريعة فقد)).
[10] في (ت) و(ب): ((في)).
[11] في (ج) صورتها: ((بينهم)).
[12] في (م): ((قدمه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[13] في (ب): ((العلماء)).
[14] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((وإذا)).
[15] قوله :((والحاجة)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (م): ((مُكنون)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] زاد في (ب): ((عبد)).
[18] في (ج) و(ب): ((الجميع)).
[19] في (م): ((جميعاً)) و في (ب): ((جمعها))، والمثبت من (ج) و(ت).
[20] في (ب): ((وجمعوها)).
[21] قوله: ((فَلذلك جمع هنا صلعم بصيغة جمع المذكَّر)) ليس في (ج) و(ب).
[22] قوله: ((العرب)) ليس في (ج).
[23] قوله: ((كانوا لا يلتفتون لجهة النِّساء ولا يُعنَون بهن، وكانوا)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى. لكن في (ج): ((وكان))، وفي (ب): ((لا يعبؤون))، والمثبت هو الصواب والله أعلم.
[24] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[25] في المطبوع: ((بَـنُونا بَنُو أَبْنائِنـا وبَناتُنا بَنُوهنَّ أبناءُ الـرِّجالِ الأباعدِ)).
[26] قوله: ((المخاطب أنَّه فهم)) ليس في (ج).
[27] في (ب): ((لمذهب مالك)).
[28] قوله :((إشارةً منه إلى هذا المعنى فلا تَشاححَ في الألفاظ)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] قوله: ((وفيه دليل عَلى فضل الصَّحابة... وهذا دأبهم في النَّقل)) ليس في (ب).
[30] في (ب): ((وفي هذا دليل)).
[31] في (م): ((اللفظين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[32] في (م): ((سواء فلم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[33] في (ت): ((الأمن)).
[34] في (م) و(ج): ((وما)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[35] قوله: ((إن)) ليس في (ب).
[36] في (ج): ((سيدنا)).
[37] في (ب): ((بأنه وحي وبأي وجه)).
[38] في (ج): ((الأظهر)).
[39] في (ج): ((من أحكام أيضاً غالباً لمن تتبعها)).