بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إنه لا يرد شيئًا وإنما يستخرج به من البخيل

          272- قوله: (نَهَى النَّبِيُّ(1) صلعم عَنِ النَّذْرِ...) الحديثَ(2). [خ¦6608]
          ظاهر الحديث يدلُّ على حكمين: أحدهما: النَّهي عن النَّذْر، والآخر: إخباره صلعم أنَّ النذر لا يردُّ شيئاً مِن القَدَر، وإنَّما هُو يُستخرج به مِن(3) البخيل، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: هل النَّهي على(4) التحريم أو الكراهية؟ وقوله(5) هذا على عموم النَّذْر أو مِن النَّذر المعيَّن؟ وما معنى(6): (يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ)؟ ومَن المستخرِج له؟ ومَن هو(7) البخيل؟.
          وأيُّ شيء العلامة(8) التي نعرفه بها؟ وما معنى (لَا يَرُدُّ شَيْئًا)؟ وما(9) الشَّيء الذي لا يُرَدُّ؟.
          أمَّا قولنا: هل النَّهي على التحريم أو(10) الكراهة(11)؟ اللَّفظ محتمل، لكن مَا جاء في الشِّرع بإلزام النَّذر لمن نذره(12)، والوفاء به، يدلُّ على أنَّ ذلك ليس بحرام، لأنَّه لو كان حراماً ما لزم(13) صاحبه الوفاء به(14)، لأنَّ الله ╡ يقول في كتابه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ(15)(16)} [الإنسان:7] فمدحهم بالوفاء بالنَّذْر.
          وأمَّا قولنا: هل هذا على العموم في جميع وجوه النَّذر، أو هو على الخصوص في وجه مِن وجوهه؟ اعلم أنَّ النَّذْر(17) على خمسة(18) وجوه:
          منه حرام لا يجوز، وما لا يجوز فعله لا يجوز نذره(19)، ولا الوفاء به. وقد جاء: «لا نذرَ في مَعْصِيةٍ». ومَن نذَره هل تلزمه كفَّارة يمينٍ أم لا؟ قولان للفقهاء.
          ومنه نَذْر(20) لا يلزم الوفاء به، وَلا عَلى قائله / شيء، وَهو نذر(21) مَا لا تملِكه، لقوله صلعم : «لا نَذْرَ فِيْمَا لا تَمْلِك» أو كما قال ◙ .
          ومنه نَذْر(22) مُباح إن شئتَ فعلتَ، وإن شئتَ لم تَفعل، وَلا شيء عليك. وهو مَا نذرتَ مِن(23) الأفعال المباحات، مثل أن تنذر(24) أن تمشي اليوم للسُّوق(25)، أو تلبس الثَّوب الفلاني، أو مَا في معناه.
          ومنه نَذْر مستحَبٌّ وَهو: أن تنذر(26) لله طاعةً، ولا تعلِّقها بشيء تطلبه مِن الله تعالى يفعله لك، فيلزم الوفاء به.
          والدليل عَلى لزوم مَا كان منه طاعة بغير عوض تطلبه وَترك مَا هو غير(27) طاعة لله مَا جاء عنه صلعم : «أنَّه مرَّ على ناسٍ مُجْتَمِعينَ عَلى شَخْصٍ قائمٍ في الشَّمس. فقال: ما بالُ هذا؟ فقالوا: إنَّه نَذَرَ أَلَّا يتكلَّمَ وَلا يَستَظلَّ وَلا يجلسَ(28)، ويَصُومَ. فقال: مُروه فلْيتكلَّم وَلْيستظلَّ وَلْيَجْلِسْ، ولْيتمَّ صومَه» أو كما قال صلعم. فكلُّ مَا كان مِن طريق المباح، وكان عليه فيه مشقَّة، لم يلزمه منه شيء، والَّذي كان لله فيه(29) طَاعة وهو الصَّوم أمره بإتمامه.
          وأمَّا المكروه(30) منه فهو الذي الإشارة إليه في هذا الحديث، وَهو الَّذي ينذر النَّذر وَهو يعتقد أنَّه يردُّ عنه شيئاً يخافه، أو يجلب إليه شيئاً يحبُّه، وَيعتقد أنَّ ذلك يؤثِّر على زعمه، فَهذا لا يردُّ عنه شيئاً يكرهه، وَلا يقرِّب إليه شيئاً يحبُّه. فأمَّا إن كان نذره ذلك عَلى طريق الشُّكر لله، وهو أن يقول: إن قُدِّر لي بكذا وكذا لشيء يحبُّه، أو يندفع عني لشيء يكرهه، فللَّه / عليَّ شكر هذه النَّعمة كذا وكذا لشيء يسمِّيه مِن أنواع البرِّ، فذلك مِن قبيل الحسن.
          وقد فعله عليٌّ وفاطمة ☻، فإنَّه مَرض الحسن والحسين فقالا: إنْ شفاهما الله نَصُمْ(31) شكراً لله تعالى ثلاثة أيام، فلمَّا شفاهما الله تعالى وأخذا في صوم نذرهما، فعند فطرهما جاء مسكينٌ إلى الباب، فأخرجا له جملة طَعامهما، وَطويا ليلتهما وَأصبحا صَائمَين(32)، فعند فطرهما أيضاً جاءهما(33) يتيم، فأخرجا له جميعَ(34) طعامهما وطويا اللَّيلة الثانية فأصبحا صَائمين، فعند(35) فطرهما جاءهما أسيرٌ، فأعطياه(36) أيضاً جميع طعامهما وَطويا اللَّيلة الثالثة، فأنزل الله ╡ في حقِّهما: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً(37)} [الإنسان:7-11].
          وأمَّا قولنا: مَا معنى يُستخرج به(38) مِن البخيل؟ ومَن المستخرِج له؟ ومَن هو البخيل؟ وما(39) علامته؟ فأمَّا البخيل شَرعاً فهو الذي يَبْخَلُ بزكاة مَاله ومَا فُرض عليه، هذا قول فقهاء الدِّين وأئمَّته.
          وأمَّا مَن المستخرِج له؟ فالقدر المحتوم عليه بوساطة(40) الشَّيطان وتسويله، لأنَّ الله ╡ قَد جعله واسطة(41) لكلِّ شرٍّ(42) مقدور، كما جعل الرُّسلَ / ‰الوسائط إلى كلِّ خيرٍ مقدور، وكذلك مُتَّبعوهم بإحسانٍ إلى يوم(43) الدِّين.
          وأمَّا قولنا: مَا معنى استخراجه؟ فهو ذهابه(44) عَن يدِه.
          وهنا إشارة إلى أنَّه مَن كان على السُّنن المباركة والطَّريقة(45) المرضية فلا يُخْرج ماله إلَّا فيما يُرضي ربَّه، ويعود عليه نفعه(46) في الدَّارين، وَمن كان غير مُمْتَثِلٍ لأمر ربِّه يخرج(47) مَاله إمَّا فيما لا يُرضي ربَّه، أو فيما لا ينفعه، حتَّى تكون النَّفقة بحسب الحال {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية بكمالها [النور:26]، يشهد لذلك(48) قوله صلعم : «مَن جَمَعَ مالاً مِن نَهاوِش(49) أذهَبَهُ الله في(50) نَهَابِر» أو كما قال ◙ (51).
          وأمَّا قولنا: (لَا يَرُدُّ شَيْئًا) مَا(52) معناه؟ فهو بمعنى أنَّه(53) لا يردُّ عنه شيئاً قُدِّر عليه، وَكما لا يَردُّ عنه شيئاً قُدِّر عليه كذلك لا يُوصِل إليه شيئاً(54) لم يُقدَّر له(55)، بخلاف الصَّدقة، لأنَّه قد(56) قال صلعم : «ادْفَعُوا البلاءَ بالصَّدقة، واسْتَعِينُوا عَلى قَضَاء حَوائجِكُم بالصَّدقة(57)».
          وهنا بحث: هذه الصَّدقة تدفع البلاء وتأتي بالحوائج، والنَّذر صدقة أيضاً وَلا يردُّ شيئاً مِن البلاء، وَلا يأتي بشيء مِن الخير، لأنَّ(58) تيسير الحوائج مِن أعلى وجوه الخير، والجواب من وجهين:
          أحدهما: أنَّ الأحكام لله سبحانه، يجعل مَا يشاء كيف يشاء، وَليس ذلك لغيره، فمَن جعل لشيء حكماً مِن الأحكام مِن تِلقاء نفسه أو رأيه لا يصحُّ(59) مِن ذلك شيءٌ، فشاء الحكيم أنْ / جعل للصَّدقة هذه المنزلة المباركة، ولا يلهم إليها إلَّا مَن سبقت له سابقة خير، ولم يَجعل للنَّذر الَّذي هو مِن قبيل المكروه _كما تقدَّم مِن الفائدة_ شيئاً غَير الاستخراج مِن البخيل.
          والوجه الآخر: مِن طريق النَّظر، وَكيف يجب أن يكون أدب العبودية مع الرُّبوبيَّة، وَهو أنَّه لَمَّا أمر الله ╡ بالصَّدقة، وأخبرنا أنَّها تردُّ البلاء فجاد(60) هذا العبد بماله الَّذي هو معلَّق بقلبه تصديقاً لوعدِ مولاه، ورَجاءً في فضله في دفْعِ ما يخافه، أو تيسير مَا يرجوه، فجاد الله تعالى عليه بما أمَّله مِن ذلك بفضله، وَجاء صاحب النَّذر المكروه، وَأساء الأدب مَع مولاه، وَقال: إنْ أنتَ دفعتَ عنِّي ما أخافه مِن كذا، أو بلَّغتني(61) ما أُريده مِن كذا لشيء يسمِّيه، فإنِّي أعطيك مِن مالك الَّذي خوَّلتني، وقد حبستُ منه الحقوق الَّتي أمرتني بها، كذا. فلسوء أدبه لم ينفعه نذره شيئاً، وَأخرج مالَه عَن يده، ولم يبلغ به مَا أَمَّله(62)، عقاباً عَلى سوء أدبه وتعدِّيه في منع مَا أُمر به(63).
          ويترتَّب عَلى هذا مِن الفائدة أنَّه لا يُنال ما عند الله تعالى إلَّا بما أَمَرَ به ونهى عنه، وحدَّ وشرع مِن الواجبات والمندوبات والمستحبَّات لَا بغير(64) ذلك.
          جعلنا الله ممن هُدي إلى مَا به أُمر، وجنَّبنا البدع وَالآثام بمنِّه(65).


[1] في (ج): ((رسول الله)).
[2] في (ب): ((عن ابن عمر قال: نهى النبي صلعم عن النذر فقال: إنه لا يردُّ شيئاً إنما يستخرج به من البخيل)).
[3] زاد في (ب): ((مال)).
[4] في (م): ((عن)) والمثبت من النسخ الأخرى. والمثبت بعدها من (ب) وفي باقي النسخ: ((الوجوب)) بدل التحريم.
[5] قوله :((وقوله)) ليس في (م) و(ت)، والمثبت من (ج) و(ب).
[6] قوله: ((وما معنى)) ليس في (ج).
[7] قوله: ((هو)) ليس في (ج).
[8] في (م): ((العلاقة))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] في (ج): ((ولا)).
[10] في (ج): ((أو ما)).
[11] في (ت): ((الكراهية)).
[12] في (ج): ((نذر)).
[13] في (م): ((حراماً لزم))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[14] قوله: ((يدلُّ على أنَّ ذلك ليس بحرام، لأنَّه لو كان حراماً لزم صاحبه الوفاء به)) ليس في (ج).
[15] زاد في (م): ((ويخافون))، والمثبت من النسخ الأخرى. و في (ب): ((الذين يوفون بالنذر)).
[16] قوله: ((ويخافون)) ليس في (ج) و(ت).
[17] في (ب): ((فاعلم أن النذر)). وقوله: ((أو هو على الخصوص في وجه مِن وجوهه؟ اعلم أنَّ النذر)) ليس في (ج).
[18] في (ج): ((خمس)).
[19] قوله: ((نذره)) ليس في (ج).
[20] في (ج): ((ونذر منه)).
[21] زاد في (ج): ((أو كما قال ◙ ومنه)).
[22] في (ج): ((◙ ونذر)).
[23] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[24] في (ج): ((تنذره)).
[25] في (ب): ((إلى السوق)).
[26] في (ج): ((تنذره)).
[27] قوله: ((غير)) ليس في (ب).
[28] قوله: ((ولا يجلس)) ليس في (ب).
[29] في (م) و(ت): ((في)).
[30] في (ج): ((والمكروه)).
[31] في (ب): ((نصوم)).
[32] قوله: ((وأصبحا صائمين)) ليس في (ب).
[33] في (م) و(ت): ((جاءهم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] قوله: ((جميع)) ليس في (ب).
[35] في (م): ((الثانية فأصبحا، فعند)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[36] في (م): ((فأعطيانه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] زاد في (ب): ((وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا)).
[38] في (ت): ((منه)).
[39] قوله: ((هو البخيل وما)) ليس في (ج).
[40] في (ب): ((بوساطة)).
[41] في (ت): ((وأهبطه)).
[42] في (ب): ((شيء)).
[43] قوله: ((يوم)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[44] في (ب): ((نهاية)).
[45] في (ج): ((المبارك والطريق)). في (ت): ((المبارك والطريقة)).
[46] في (ب): ((أو فيما ينفعه)).
[47] قوله: ((يخرج)) ليس في (ج). و قوله بعدها: ((إما)) ليس في (ب).
[48] في (م): ((ذلك)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[49] في (م): ((مالاً وعدده)) والمثبت من (ج) و(ت). و في (ب): ((من تهاوش)).
[50] في (م): ((من)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[51] فيه: عمرو بن الحصين، قال عنه في التقريب: متروك.
[52] قوله: ((ما)) ليس في (ج).
[53] قوله: ((أنه)) ليس في (ب).
[54] في (ب): ((له شيئاً)). وقوله: ((قُدِّر عليه، وكما لا يَردُّ عنه شيئاً قُدِّر عليه كذلك لا يُوصِل إليه شيئاً)) ليس في (م). والعبارة في (ت): ((فهو بمعنى أنَّه لا يردُّ عنه شيئاً قدِّر عليه فلذلك لا يوصل إليه شيئاً)). والمثبت من (ج).
[55] في (م) و(ب): ((عليه)) والمثبت من (ج) و(ت).
[56] قوله: ((قد)) ليس في (ج) و(ب).
[57] قوله: ((واسْتَعِينُوا عَلى قَضَاء حَوائجِكُم بالصَّدقة)) ليس في (ب).
[58] في (م): ((لا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[59] في (ب): ((لم يصح)).
[60] في (ج) و(ب): ((فجاء)).
[61] في (م) و(ج): ((بلغني))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[62] في (ج): ((أمل)). و قوله: ((به)) ليس في (ب).
[63] في (ج): ((نفسه)).
[64] في (م): ((غير))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[65] في (ب): ((إلى ما أمر به، وجنبنا البدع والآثام بمنه وكرمه)).