بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه

          263- قوله صلعم : (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ...) الحديثَ(1). [خ¦6507]
          ظاهر الحديث يدلُّ على حكمين:
          أحدهما: أنَّ مَن أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
          والثاني: إخباره صلعم أنَّه لا تخرج نَفْسٌ مِن هذه الدار حتَّى تعرف ما(2) لها في تلك الدَّار مِن خير أو ضدِّه، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: الكلام على معنى (أحبَّ) وَمعنى (كَرِه). الكلام على هذا المؤمن أيُّ مؤمنٍ هو(3)؟.
          فأمَّا الكلام على معنى الحبِّ ومعنى الكراهة(4)، فهو عَلى نحو مَا تقدَّم الكلام عليه في الحديث قبله(5)، على أحد الوجهين المذكورين بعلَّتيهما.
          وأمَّا قولنا: أيُّ(6) مؤمنٍ هذا؟ فظاهره يعطي أنَّ المراد به(7) المؤمن الكامل الإيمان، الذي / إيمانه بتوفية ما أُمِر به ونُهِي عنه، لأنَّه جاء ذكره ╕ هنا للطَّرفين معاً، الطَّرف الواحد مِن جهة الإيمان، والطَّرف الآخر طرف الكفر والحرمان التامِّ. وبقي(8) الكلام على المتوسط بين(9) ذلك، وهو المؤمن الذي شاب إيمانَه بالمعاصي وَالآثام.
          والجواب عليه مثل ما تقدَّم الجواب عَلى المتوسِّط في حديث فتنة القبر فيما تقدَّم مِن الكتاب، حين أخبر صلعم أنَّ الموقِنَ(10) هُو الذي يجاوبُ بالحقِّ ثلاثاً، ذلك النَّاجي، وأنَّ المرتابَ الذي لا يعرف دِينه يقول: «سَمِعْتُ النَّاسَ يقولون شَيئاً فَقُلتُه» فذلك(11) الهالك. وبقي القسم المتوسط بين ذلك، وتكلَّمنا عليه هناك(12). والكلام عليه هناك مثله يكون شأن المتوسِّط هنا.
          وفيه دليل على فَضْل أزواج النَّبيِّ صلعم وعليهنَّ(13) أجمعين وفقهِهِنَّ(14)، يُؤخذ ذلك مِن مراجعتهنَّ للنَّبيِّ صلعم في هذا الموطن بحسن الأدب بقولهنَّ: (إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ). فانظر إلى اختصار هذا اللَّفظ وما تحته مِن الأدب والفوائد.
          ويترتَّب عليه مِن الفقه: جواز مراجعة العالم إذا بقي عَلى السَّامع(15) في فهمه إشكالٌ، ويكون بأدب.
          وفيه: دليل على جواز إطلاق اللَّفظ المحتمِل، وإنْ كان الَّذي قَصَدَ المتكلِّمُ مِن محتملاته ليس هو المستعمل بجري العادة. يُؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ / كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) وظاهر اللَّفظ(16) المستعمل بين النَّاس والَّذي يسبق(17) إلى الفهم هو الذي راجَعَتْ به هذه السيِّدة، وكان قَصْدُ سيِّدنا صلعم بذلك وجهاً خاصَّاً، وهو ما أبداه صلعم وبيَّنه عند مراجعة هذه السيِّدة.
          وفيه: دليل على جواز(18) إلقاء العِلم للنِّساء، وأخذه منهنَّ، يُؤخذ ذلك مِن إلقائه صلعم هذه القاعدة الشرعيَّة لهذه السيِّدة، وإلقاؤه ذلك إليها يدلُّ على جواز أخذه منها، لأنَّ عِلم الشريعة لا يحلُّ كتمه.
          ويُؤخذ منه جواز إلقاء المعلِّم المسألةَ المحتمِلة لأنْ يختبر بها أصحابه، أو يسألوه(19) عَن بيانها، يُؤخذ ذلك مِن هذه اللَّفظة المتقدِّم ذكرُها.
          وفيه: دليل على أنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يعمل على لفظ محتمِل على أحدِ محتمَلاته حتَّى يدلَّ الدليل عليه(20) أنَّه هو المقصود. يُؤخذ ذلك مِن مراجعة هذه السيِّدة حتَّى زال الاحتمال، وأقرَّها صلعم على ذلك.
          وفيه دليل على تهوين الموت على المؤمن. يُؤخذ ذلك مِن فرحه بما(21) أمامه ممَّا بُشِّرَ(22) به مِنْ رضا مولاه عنه وإحسانِهِ إليه(23)، فإنَّه مَن فرِح بشيءٍ هانَ عليه ما لقيَ عليه أو دونه مِن الشَّدائد، وهذا ندركُهُ حسَّاً في أهل الدنيا. فإنَّهم مَا حملوا فيها مَا حملوا مِن المشاقِّ والشَّدائد إلَّا لفرحهم بها(24) وحبِّهم لها، فكيف بالفرح الذي ليس مثله فرح؟! جعلنا الله مِن أهله بفضله.
          وفيه دليل على تشديد الموت على الكافر. يُؤخذ ذلك مِن همِّه وحزنه على ما أمامه، فتضاعفتْ / عليه الهموم والشدائدُ، ومما في معنى ما أشرنا إليه أنَّ بعض النَّاس مرَّ في بعض طريقه بشخص نحيف البدن، وهو يُضرَب بالسِّياط ضرباً شديداً، وَهَو مع ذلك الحال لا يتكلَّم، ولا يلتفت لها، حتَّى إلى آخر سوطٍ صاح واستغاث استغاثة شديدة(25)، فتعجَّب مَن كان حاضراً مِن شدَّة صبره(26) أوَّلاً، ثم تعجَّب منه آخراً ممَّا ظهر منه. فلما خُلِّي عنه تَبِعه، فقال له: ناشدتك الله مَا شأنك؟ إنِّي تَعجَّبتُ منك أوَّلَاً مِن صبرِك، وحَملِك ذلك البلاء العظيم، ثمَّ تعجَّبت منك مِن كونك آخراً مِن سوط واحدٍ ظهر منك ضدُّ ما كنتَ عليه؟ فقال له: إنَّ العَين(27) التي(28) كنتُ أُعذَّب مِن أجلها كنتُ أشاهِدها، فلم(29) أحسَّ بتلك الأمور التي جرت على البدن مع ضعفه، فلمَّا احتجبَت عني وجدتُ أَلَم الحجاب أشدَّ مِن تلك الآلام، فاجتمعت عليَّ المحن فلم أحملها، فظهر ذلك الَّذي ظهر مني. أعاذنا الله مِن المحن جميعاً(30) بمنِّه وَكرمه.
          وفيه دليل على أنَّه(31) عند بوادي أمور الآخرة يقع هناك التَّصديق بها للمؤمن والكافر بلا شكٍّ ولا ارتياب. يُؤخذ ذلك مِن فرح المؤمن بما يُبشَّر(32) به، وَحزن الكافر وكراهيته بما يبشَّر به(33)، فلولا أنَّهما في التَّصديق عَلى حدٍّ سواء مَا حزن هذا، وفرح هذا(34).
          وبقي بحث وهو أن يُقال: متى يكون ذلك؟ فالجواب: أمَّا مِن الحديث فلا يُؤخذ تعيين الوقت، لكن يُؤخذ ذلك مِن حديث غير هذا، وهو قوله(35) صلعم : «إنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوبَةَ العَبْدِ(36) المؤمِن ما لم يُغَرْغِر» أو كما قال، وهو إذا كانت الرُّوح في الحلقوم، وَعاين مبادئ أمور الآخرة، فهناك(37) يكون وقت البشارة، لأنَّه / لَو كانت البشارة للكافر قبل ذلك الوقت الذي تُقبل منه التوبة والإسلام، وحصل له التَّصديق كان إذ ذاك يُسلِم الكافر ويتوب العاصي، فلمَّا كانت البشارة في وقت لا تنفع فيه التوبة وَلا الإسلام حَصل له التَّصديق في وقت لا حيلة له في الخلاص، فاشتدَّ لذلك الحزن عليه، والله أعلم.
          وقد أخبرني مَن أثق به(38) ممَّا يُقوِّي ما أشرنا إليه، أنَّه كان لبعض(39) مَن يَقْرُب منه، وكان مسرفاً على نفسه فابتُلي في بدنه فتاب ورجع إلى الله تعالى، وبقي معه الخوف ممَّا تقدَّم، فكان يقول لذلك الشخص مع مرور الأيام: يا(40) فلان، كيف يكون قدومي على الله تعالى؟ وبماذا ألقاه؟ ويحزن لذلك كثيراً. فلمَّا مَرِضَ مَرَضَ الموت واحتُضِرَ، التفتَ إلى ذلك الشَّخص بعدما نظر إلى السماء وتبسَّم، وتهلَّل وجهه فرحاً، فقال: يا فلان أبشِرْ، فَما ثَمَّ إلَّا خيرٌ(41). وشهق شهقةً طلعتْ فيها(42) روحه. وفيه قيل:
للموت استعدَّ(43) إن كنتَ عاقلاً                      وبالتقوى فتزوَّدْ إن كنتَ راحلاً(44)
وإلى الله فارجعْ فإنَّك عليه قادمٌ عاجلاً(45)                     وفي البِشَاراتِ إشاراتٌ لها السَّعيد حافلاً (46)
          جعلنا الله ممَّن احتفل بها، وبها سعد بمنِّه ويُمْنِهِ وكَرَمِهِ(47).


[1] في (ب): ((عن عبادة بن الصامت عن النبي صلعم قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت؟! قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه)).
[2] في (ج) و(ت): ((بما)).
[3] في (ب): ((والكلام على هذا المؤمن من هو)). قووله: ((أي مؤمن)) ليس في (ج).
[4] في (ب): ((والكلام على معنى الحب ومعن الكراهية)).
[5] في (ب): ((قبل)).
[6] في (م): ((أن))، والمثبت من النسخ الأخرى. وبعدها في (ب): ((مؤمن هو؟)).
[7] زاد في (ج): ((ذلك)).
[8] في (ج) و(ب): ((ويبقى))، في (ت) غير واضحة.
[9] في (ب): ((المتوسطين)).
[10] في (ج): ((الموفق)).
[11] في (ج): ((ذلك)).
[12] في (ب): ((هنالك)).
[13] في (ت): ((عليهن))، وفي (ب): ((ورضي عنهن)).
[14] في (ت): ((وفقهُهُنَّ)) بضبط الحركات.
[15] في (ت): ((المسامع)).
[16] قوله: ((اللفظ)) ليس في النسخ، ولعل إثباتها أولى،.
[17] في (ج): ((سبق)).
[18] قوله: ((جواز)) ليس في (ب).
[19] في (ب): ((ويسألوه)).
[20] قوله: (عليه)) ليس في (ت).
[21] في (م) و(ت): ((بها)). قوله: ((بما)) ليس في (ج)، والمثبت من (ب).
[22] في (ب): ((مما يسرُّ)).
[23] في (ج) و(ت): ((له)). و قوله: ((إليه)) ليس في (ب).
[24] في (ب): ((بفرحهم بها)).
[25] في (م) و(ج): ((استغاثاً شديداً))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[26] في (ج): ((ضربه)).
[27] قوله: ((العين)) ليس في (ج).
[28] في (م) و(ت): ((الذي)) والمثبت من (ج) و(ب). وقوله: ((العين)) ليس في (ج).
[29] في (ج): ((فلا)).
[30] قوله: ((جميعاً)) ليس في (ب).
[31] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((أن)).
[32] في (ب): ((بشر)).
[33] قوله: ((وَحزن الكافر وكراهيته بما يبشَّر به)) ليس في (ب).
[34] في (ج): ((ما فرح هذا وحزن هذا)).
[35] في (ج): ((هذا وقوله)).
[36] في (ج) و(ب): ((عبده)).
[37] في (ج): ((فهنا)).
[38] قوله: ((به)) ليس في (ج) و(ت).
[39] في (المطبوع): ((به بعض)). في (ب) و(ت): ((كان له بعض)).
[40] قوله: ((يا)) ليس في (ج) و(ب).
[41] في (ب): ((إلا الخير)).
[42] في (م): ((منها))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[43] في (م): ((استعد للموت))، وفي (ج) و(ت): ((الموت فاستعد))، والمثبت من (ب).
[44] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((فإنك راحل)).
[45] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((عاجل)).
[46] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ:((وفي بِشَاراتِ الإشاراتِ بها السَّعيد حافلٌ)).
[47] قوله: ((ويمنه وكرمه)) ليس في (ت) و(ب).