بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله

          253-قوله صلعم : (أَخْنَعُ الأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ(1) رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِك(2) الأَمْلاَكِ)(3). [خ¦6205]
          ظاهر الحديث يدلُّ عَلى أنَّ أخسَّ(4) الأسماء / وأرذَلها عند الله يوم القيامة مَن تسمَّى بملك الأملاك. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: هل هذا التَّحقير للاسم يلحق منه للَّذي(5) تسمَّى به شيء خلاف هذا، أم لا؟ ومنها: هل هذا لعلَّة أو لغير علَّة؟ فإنْ كان لعلَّة فهل نَطْرُدُ الحكمَ حيث وجدنا العلَّة(6)، أوْ لا؟ ومَا الحكمة في قوله: (يَوْمَ القِيَامَةِ)؟
          فأمَّا قولنا: هل يلحق لِلمسمَّى(7) بهذا الاسم زيادةٌ على تحقير الاسم أوْ لا؟ فنقول إنَّما جُعل يوم القيامة ترفيع الأسماء(8) للدلالة على ترفيع أهلها، وما لهم في ذلك اليوم مِن الخير والسرور، وكذلك ضدُّه دالٌّ على ضدِّه، لأنَّ ذلك يوم حقٌّ، ليس فيه مجاز وَلا تلبيس.
          وأمَّا قولنا: هَل ذلك لعلَّة أَوْ لا(9)؟ فإنْ قلنا: تعبُّد، فلا بحث. وإنْ قلنا: لعلَّة، فما هي؟ فنقول والله أعلم: لتشبُّهه باسم مَن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] لأنَّ هَذا الاسم لا يكون حقيقة إلَّا لله سبحانه وتعالى، فإنْ كانت العلَّة مَا ذكرنا فيجوز تعدِّي الحكم، مثل أنْ يتسمَّى: «سلطان السلاطين»، وكذلك «قاضي(10) القضاة»، وإنْ كانت العلَّة بهذا الاسم(11) قد تقدَّمت بسنين لا سيما في جهة الشرق(12).
          وقد ذُكر عن الثَّوريِّ ☼ مِن أهل التَّحقيق أنَّه جاءه(13) يزوره مَن كان يتسمَّى(14) بهذا الاسم في زمانه، فلمَّا دخل عليه قال له بعض مَن جاء معه: هذا قاضي القضاة. وكان معهم قاعداً منبسطاً، فلمَّا سمع كلامه قام دهشاناً مسرعاً وهو يقول: هذا قاضي القضاة(15)؟! فهذا يوم الفصل والقضاء، فأين الميزان؟ وأين(16) الصِّراط؟ / وَجعل يعدُّ(17) مِن أحوال يوم القيامة ما شاء الله تعالى، فحصل مِن كلامه في النفوس حال(18) عجيب.
          وقد حدَّثني بعض مَن لقيته مِن السَّادة أنَّ دولة الموحِّدين _وَكانت دار مملكتهم في غرب العَدْوة مرَّاكش_ أنَّ القاضي الذي كان يتولَّى بها كان يُدعى بقاضي الجماعة، لأنَّ الفقهاء إذ ذاك كانوا هناك(19) متوافرين، وكان الغالب عليهم الدِّين، فلم يأخذوا مِن الأسماء وجميع الأشياء(20) إلَّا الذي ليس فيه شيء مِن المكروه، ولا يحتاجون فيه إلى شيء مِن التأويل، وهذه طريقة(21) السَّلف ♥، ولم يُسمع هذا الاسم في السَّلف الصَّالح أيضاً، فنعوذ بالله مِن قلَّة الاهتمام بأمور الدِّين والتَّهاون به.
          وأمَّا قولنا: مَا الحكمة(22) في قوله: (يَوْمَ القِيَامَةِ)؟ لأنَّه(23) يوم تظهر فيه الأمور على ما هي عليه(24) حقيقةً ليس فيها زغل وَلا عناد ولا تجاوز ولا مجاز(25) إلَّا حقائق ظاهرة، وَهذه الدَّار فيها التلويثات(26) والاختلاطات، وقد يكون ظاهر الأمر(27) يوافق باطنه والضدُّ، وفي(28) تلك الأعمال على إبراز(29) الضمائر وتحقيق الحقائق {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس:30].
          وفيه تنبيه عَلى أنَّ الأدب في الدِّين مطلوب جدَّاً. يُؤخذ ذلك مِن كونه لَمَّا تسمَّى هذا المسكين بهذا الاسم، وهو محتمل إنْ أراد ملك ملوك الأرض، وكان ذلك ملكاً له. واحتمل أن يُسمَّى به اختياراً مثلما تتسمَّى بعض نساء العرب وغيرهنَّ في الوقت وقَبْل هذا الوقت: سِتَّ العرب، والنَّاس(30) يعلمون أنَّ ذلك ليس حقيقة، وكَما يتسمَّى(31) بعض / النَّاس بسيِّد النَّاس، وهذا مقطوع أيضاً أنَّه ليس كذلك. وهذا الاسم أيضاً يدخله المنع بالتعليل المتقدِّم(32)، وَما هو في معناه، لأنَّ العلَّة(33) فيه مَوجودة، لكن غفلات توالتْ وعوائد سوء(34) اتُّخذت مَضى الأمر عليها عَلى مَن قُدِّر عَليه(35) بما قُدِّر، واحتمل(36) أن يكون تسمَّى بذلك تمرُّداً وَتجبُّراً.
          لكن ليس في الحديث مَا يدلُّ على واحدٍ مِن هذه خصوصاً، فالكلُّ محتمل، والمحتمل ينبغي أن تبقى كلُّ محتملاته، لا سيَّما في مواضع الخوف، وصيغة(37) اللَّفظ في الحديث العموم، لأنَّه قال: (تَسَمَّى) فيكون معناه: يسمَّى بهذا الاسم على أيِّ وجه وقع هذا الاسم، فصاحبه بتلك الحالة الذَّميمة وَالخزي العظيم، وبهذا(38) يزداد الحضُّ على طلب الأدب في الدِّين.
          وفيه إرشاد إلى علم السُّنَّة وإيثاره عَلى غيره(39)، لأنَّ هَذا ومثله مواضع(40) عديدة وقد نُبِّهنا عليها في مواضع(41) مِن الكتاب، لا تُعلم(42) إلَّا مِن طريق علم السُّنَّة والاهتمام به(43)، وقد غفل عن ذلك كثير مِن النَّاس، وأوقعه ذلك في المهالك وهو لا يعلم، فبقي حالهم(44) كما أخبر تعالى في كتابه: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104] فمِنهم مَن جهله جملة واحدة، ومنهم مَن اشتغل به وكان علمه به كأنْ لا علم لإيثاره غيره عليه(45)، ويجعل ذلك نُبلاً وكَيْساً(46)، وهو غَيٌّ وحرمان، أعاذنا الله مِن ذلك بمنِّه(47).
          ولذلك كانت وصية مَن لقيته(48) مِن أهل التوفيق والعلم بالسُّنَّة(49) يقول: لا يكون الرَّجل رجلاً حتَّى يكون محاسباً / مراقباً. فقلت له(50): ومَا(51) معنى قولكم: محاسباً مراقباً؟ فقال: محاسباً(52): يحاسب نفسه في هذه الدار، لقوله صلعم : «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُم قبلَ أن تُحاسبوا». فإن رأى على نفسه(53) درَكاً أخذ في خلاصه(54).
          ومراقباً: يجعل قلبه أمام رأيه، فإن خطر له قول أو فعل نظره(55) بلسان العلم، فإن كان جائزاً فعل أو قال، وإن كان ممنوعاً أو مكروهاً أمسك، لأنَّ تَرْكَ الذَّنْب أولى مِن طلب المغفرة، وإلَّا كان كتاجر يُنْفِقُ ولا يَعْلَم، فيصبح وقد أفلس، وإن لم يعرف ذلك الذي خطر له مِن أيِّ الوجوه هو توقَّف(56) حتَّى يسأل أهل العلم الَّذين هم عَلى السُّنَّة(57) واتِّباع السُّنن، فإنَّ المؤمن وقَّاف.
          جعلنا الله مِن المؤمنين حقَّاً، الملطوف بهم بمنِّه. لَا ربَّ سواه(58).


[1] زاد في (ج) (ت): ((يوم القيامة)).
[2] في (ج): ((مالك)).
[3] في (ب): ((عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلعم أخنى الأسماء عند الله يوم القايمة رجل تسمى ملك الأملاك)).
[4] في (م): ((حسن)) والمثبت من (ج) و(ت)، وفي (ب): ((أن من أخس)).
[5] في (ج): ((الذي)).
[6] قوله: ((أو لغير علَّة؟ فإنْ كان لعلَّة فهل نَطْرُدُ الحكمَ حيث وجدنا العلَّة)) ليس في (ب)، وبعدها في (ب): ((أم لا)).
[7] في (ب): ((المسمى)).
[8] في (ج): ((ترجيع الأسماء))، وفي (ب): ((إنما ججعل ترفيع الأسماء يوم القيامة)).
[9] في (ب): ((أم لا)).
[10] في (ب): ((يسمى بسلطان السلاطين وقاضي)).
[11] قوله: ((وإنْ كانت العلَّة بهذا الاسم)) ليس في (ج). زاد في (ت) و(ب): ((أعني قاضي القضاة)).
[12] في (ج) و(ب): ((المشرق)).
[13] في (م): ((جاء)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[14] في (ج): ((يسمى))، في (ت): ((تسمى)).
[15] زاد في (م): ((بهذا الاسم))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (م): ((فأين)) والمثبت من (ج) و(ت)، وفي (ب): ((فأين النيران فأين)).
[17] في (ب): ((يعدد)).
[18] في (ب): ((فحصل في النفوس من كلامه حال)).
[19] قوله: ((هناك)) ليس في (ب).
[20] في (ب): ((الأسماء)).
[21] في (ب): ((طريق)).
[22] قوله: ((ما الحكمة)) ليس في (ب).
[23] في (ج): ((فلأنه)).
[24] قوله :((عليه)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] في (م): ((ولا يجاوزون ولا مجازاً)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[26] في (ب): ((التلوينات)).
[27] في (م): ((ظاهر الأمر الحديث)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[28] في (ج): ((والصدق في))، وفي (ب): ((إذا الضد وفي)).
[29] في (م): ((إيراد)) والمثبت من النسخ الأخرى، و قوله: ((على)) ليس في (ب).
[30] زاد في (ب): ((أجمعون)).
[31] في (ب): ((بحقيقة وكما يسمى)).
[32] قوله: ((المتقدم)) ليس في (ج).
[33] في (م): ((الصلة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] قوله: ((سوء)) ليس في (ت).
[35] في (ج): ((علمه))، وفي (ب): ((له)).
[36] في (ج): ((ويحتمل)).
[37] في (ب): ((لأن صيغة)).
[38] في (ب): ((والمخزاة العظيمة فبهذا)).
[39] في (ج): ((غيرها)).
[40] في (ب): ((هذا وأمثاله وهي مواضع)).
[41] في (ج): ((مواضع عديدة)).
[42] في (ت): ((لا يعلم)).
[43] في (ج): ((بها)).
[44] في (ج) و(ت): ((حاله))، وفي (ب): ((وأوقعهم ذلك في المهالك وهم لا يعلمون ويكون حالهم)).
[45] في (ب): ((وكان علمه به كان لأثرة عليه)).
[46] في (ج): ((وكيلاً)).
[47] زاد في (ب): ((وكرمه)).
[48] قوله :((من لقيته)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[49] في (م): ((والسنة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[50] زاد في (م): ((في)).
[51] في (ب): ((مراقباً فكنت أقول له ما)). وفي (م): ((له في ما)) والمثبت من (ج).
[52] في (ب): ((فكان جوابه على ذلك أن يكون محاسباً)). قوله: ((مراقباً. فقلت له...فقال: محاسباً)) ليس في (ت).
[53] قوله :((في هذه الدار، لقوله صلَّى الله عليه... فإن رأى على نفسه)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[54] في (ب): ((خلاصها)).
[55] في (ب): ((نظر)).
[56] في (ب): ((الوجوه وتوقف)).
[57] في (ج) صورتها: ((المسألة)).
[58] كذا في (م)، وزاد في باقي النسخ: ((وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)).