بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء

          189- قوله صلعم : (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُم الْأَنْبِيَاءُ...) الحديث. [خ¦3455]
          ظاهر الحديث يدلُّ على ثلاثة أحكام: (أحدها) الإخبار بكثرة أنبياء بني إسرائيل وأنَّهم كانوا يسوسون بني إسرائيل كلَّما هلَكَ نبيٌّ خَلَفه نبي، و(الثاني) الإخبار بأنَّه صلعم آخر الأنبياء ولا نبيَّ بعده، و(الثَّالث) الإخبار بكثرة الخلفاء والأمر بحفظ / بيعة الأوَّل، والوفاء لهم بحقوقهم، وترك(1) الحقوق التي(2) عليهم لله حتى يسألهم عنها، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أنْ يقال: ما معنى: (تَسُوسُهُمْ)؟ وأي شيء هو المقصود مِن الإخبار بأنَّ بني إسرائيل كانت الأنبياء ‰ تسوسهم(3)؟
          فأمَّا معنى (تَسُوسُهُمْ) أي: تَهْديهم إلى طريق النجاة وتلطف بهم في الحمل عليها كما يسُوسُ الرائض الدَّابَّة ويحملها على الطريق الحسنة ويعلمها الخُلُق الجميلة(4).
          وأمَّا الحكمة في الإخبار بهذا فهي إشارة إلى أنَّكم بعدي ليس لكم مَن يسوسكم فلا تغفُلوا عن سياسة أنفسكم، وحافظوا على ما هُدِيتم(5) إليه، وقد جاء هذا المعنى مبيَّنًا(6) في أحاديث كثيرة، فمنها قوله ╕: «تركت فيكم الثَّقلين لن تضلُّوا ما تمسكتم بهما: كتابَ الله وعِترتي أهلَ بيتي(7)» معناه: أنَّ هذين(8) يقومان لكم مقام الأنبياء لبني إسرائيل، وقوله ◙ في حديث آخر: «علماء أمَّتي كأنبياء بني إسرائيل» معناه: أنَّ علماء هذه الأمَّة تسوسهم وترشدهم إلى طريق الحقِّ، كما كانت أنبياء بني إسرائيل مِن هذا الوجه يكون الشبَه بينهم لا أنَّ(9) أحدًا مِن بني آدم تكون درجته مثل درجة نبيِّ مِن الأنبياء ‰، فإنَّ الأنبياء ‰(10) أرفع النَّاس درجة وأعلاهم منزلة.
          وفيه دليل: على حسن طريقة(11) الأنبياء ‰ إذ جُبِل(12) الكلُّ / على حُسْن اللطف بقومهم، يؤخذ ذلك مِن قوله ◙ عن بني إسرائيل: إنَّ جميع أنبيائهم كانوا يسوسونهم والسياسة لا يمكن تَوْفيتُها(13) إلا ممَّن قد طُبع على أحسن الخلق.
          وفيه دليل: على قطع الوحي مِن الأرض وتكذيب مَن ادَّعى مِن ذلك شيئًا بعد وفاته صلعم، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (لَا نَبِيَّ بَعْدِي).
          وفيه دليل: على فضل علماء أمَّة محمَّد صلعم، يؤخذ ذلك مِن الحديث الذي استدللنا به(14) وهو قوله ◙ : «علماء أمَّتي كأنبياء بني إسرائيل» فالدليل منه على فضل علماء أمَّته ◙ ، أنْ جعلهم في الهدى والسياسة(15) لأمَّته كأنبياء بني إسرائيل(16) لبني إسرائيل(17).
          وفيه دليل: على تقديم آكد الحقَّين إذا تعارضا(18)، يؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (أَعْطُوهُمْ حقوقهم فَإنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ(19) عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ) معناه: لا تمنعوهم أنتم حقوقهم لكونهم(20) يمنعونكم حقوقكم، فأعطوهم ما لهم مِن الحقوق واتركوا أنتم(21) حقوقكم(22) فإنَّ الله ينصفكم منهم(23)، لَمَّا تعارض حقُّ المَلِك وحقُّ المسترعي كان حقُّ المَلِك آكد،(24) لأنَّه يترتَّب عليه خير(25) متعدٍّ قُدِّمَ على حقِّ المسترعي، لأنَّ الخير فيه مقصور عليه، وهو لا يفوته إمَّا أنْ يأخذه في هذه الدار وإمَّا أنْ يأخذه في الدار الأخرى فَقُدِّم الأهمُّ وهذه قاعدة مطردة إذا تعارض أمران / قُدِّم أيُّهما أنفع.
          وفيه دليل: على أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يغادر مِن حقوق عباده صغيرةً ولا كبيرةً، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (فَإنَّ(26) اللهَ سَائِلُهُمْ(27) عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ) يدخل تحت ذلك الدِّقُّ والجلُّ، ومما يقوي ذلك قوله ╡ : {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] أي: لا يغادر(28) ذَرَّة ولا أقلَّ ولا أكثرَ منها.
          وفيه دليل: على أنَّ كلَّ مَن له حقٌّ يوفى له يوم القيامة، وإن لم يكن هو(29) يعلمه، لأنَّ كثيرًا مِن النَّاس لا يعلم قدرَ الحقِّ الذي له على الخليقة، فإذا كان الله سبحانه وتعالى يحاسبه عما استرعاه فلا شكَّ أنَّه يوفي لصاحب الحقِّ حقَّه، وإن لم يكن يعلم صاحب الحقِّ به.
          وفيه دليل: على عظيم قدرة الله تعالى، وأنَّه سبحانه ليس كمثله شيء، يؤخذ ذلك مِن إخباره ◙ بأنَّه ╡ يسأل جميع الخلفاء عن كلِّ ما استرعاهم عليه واحدًا واحدًا، وكم على كلِّ خليفة مِن العالمين وتَداخل الحقوق بعضها على بعض(30) فيما أخذوا فيه! هذا في الخلفاء(31) ليس إلا، وفيما بين الناس، ويكون الفراغ مِن هذا الحساب العظيم وهذه المناقشة العظيمة في قدر ما تفعل صلاة واحدة مِن المفروضة(32) وقد جاء قدر ركعتي الفجر، ولذلك كان سيِّدنا صلعم يخفِّفهُما(33) رجاء في تخفيف الحساب / على أمَّته، هذا لا تقدره العقول ولا تحيط به الأوهام ولا يمكن أنْ يكون هذا مِن صفة مَن يُحَدُّ أو يُكَيَّف، فإنَّ هذا لا يدخل تحت هذه الحدود ولا تحت حدٍّ محدود تعالى الله عَن ذلك(34) علوًّا كبيرًا.
          وفيه دليل: لأهل الصوفة الذين يرون تبرئة(35) ذممهم ولا يعبؤون(36) بما لهم لعلمهم بأنَّه ╡ لا يغادر(37) مِن حقِّهم شيئًا، فأراحوا(38) أنفسهم مِن أجل التصديق بهذا الخبر ومثله فاستراحوا وأفلحوا.
إذا علمت أنَّكَ كافلي فلا                      أبالي ما ضيَّعت مِن أمري
          وفيه دليل: على تقديم أهل(39) الدِّين على غيره، يؤخذ ذلك مِن تقدُّم(40) حقِّ(41) الراعي على حقِّ الرعية(42)، لأنَّ حقَّ الراعي به صلاح الدِّين لأنَّه قال صلعم (43): «يَزَعُ الله بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن».
          وفيه دليل: على أنَّ(44) تأخير الحقِّ لا ينقصه، يؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (فَإنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ) فالتأخير لم يبطله إذا كان الله سائلًا عنه.
          وفيه(45) إشارة مِن طريق القوم الذين يقولون بحمل(46) الأذى وإدخال السرور، يؤخذ(47) ذلك مِن قوله ◙ : (أَعْطُوهُمْ حُقُوقَهُم) ولا سرور أعظم مِن إعطاء الحقوق لأهلها وحمل الأذى، فلا حمل أذى أشدُّ على النفس مِن أنْ يكون لك حقٌّ وعليك حقٌّ، فتعطي ما عليك وتَترُك ما لَكَ، لا تطلبه فهذا عدم النُّصرة لها وهو غاية التسليم والمجاهدة وهو أعلى / أحوال القوم وأمَّا ذكر حقِّ الراعي وحقِّ المسترعي ما هو فقد ذكرناه أوَّلا في حديث البيعة.


[1] في (ط): ((وتلك)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[2] في (ج): ((الذي)) وفي (م): ((والذي)).
[3] زاد في (م): ((وأي شيء هو المقصود من الإخبار)).
[4] في (ج): ((والجميلة)).
[5] في (ج): ((هديتكم)).
[6] في (ج): ((بينا)).
[7] قوله: ((بيتي)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (م): ((هذان)).
[9] في (ج) و (م): ((لأن)).
[10] قوله: ((فإن الأنبياء ‰)) ليس في (ج).
[11] في (ج): ((طريقهم)).
[12] قوله: ((جبل)) في (م) ليست واضحة.
[13] في (م): ((توفيها))، وفي (ط): ((توفيقها))
[14] في (ج): ((استد بكتابه)).
[15] في (ج): ((في السياسة)).
[16] زاد في (م): ((فالدليل منه على فضل علماء أمته ◙ أن جعلهم في الهدى والسياسة لأمته كأنبياء بني اسرائيل)).
[17] قوله: ((لبني إسرائيل)) ليس في (ج).
[18] في (ج): ((تعارضنا).
[19] في (ط): ((مسائلهم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (ج) تحتمل: ((واتو لهم)).
[21] قوله: ((يمنعونكم حقوقكم فأعطوهم ما لهم من الحقوق واتركوا أنتم)) ليس في (ج).
[22] في (ج): ((حقوقهم)).
[23] في (ج): ((فمنهم)).
[24] قوله: ((آكد)) ليس في (ج).
[25] في (م): ((حق)).
[26] في (ج): ((إن)).
[27] في (ط): ((مسائلهم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[28] في (ج): ((نغادر)).
[29] قوله: ((هو)) ليس في (ج).
[30] في (ج): ((بعضها ببعض)).
[31] في (ج): ((هذا الخلفاء)).
[32] في (ج): ((المفروضات)).
[33] في (ج): ((يخففها)).
[34] قوله: ((الله عن ذلك)) ليس في (ج) و (م) ولا في الاصل.
[35] في (ج): ((بتبرئة)).
[36] في (م): ((يعنون)).
[37] زاد في (ج): ((صغيرة ولا كبيرة)).
[38] في (ج) صورتها: ((فأراحوي)) ولعله تصحيف.
[39] في (ج): ((أمر)).
[40] في (ج): ((تقديم)).
[41] قوله: ((حق)) ليس في (م).
[42] في (م): ((رعيته)).
[43] العبارة في (م): ((لأنه صلعم قال)).
[44] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[45] زاد في (م): ((دليل و)).
[46] في (ج) و (م): ((بحمل)). كالأصل.
[47] في (ج): ((ويؤخذ)).