بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: كان النبي إذا اشتد البرد بكر بالصلاة

          52- (عَنْ أَنَسٍ يَقُولُ(1): كَانَ(2) النَّبِيُّ صلعم إِذَا اشْتَدَّ(3) البَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاَةِ...) الحديث(4). [خ¦906]
          على(5) التبكير بصلاة الجمعة في البرد وتأخيرها في الحَرِّ والكلام عليه من وجوه: منها: الكلام على معنى التبكير في(6) أي وقت هو؟ وكذلك التأخير، فأما التبكير(7) فالمعنيُّ / به(8) أول الزوال؛ لأنَّه ما جاء عن النَّبي صلعم أنَّه صلَّاها قطُّ قبل الزوال، وأمَّا التأخير فهو شيء(9) يسير كما جاء عن الصحابة ♥ أنهم إذا رجعوا من صلاة الجمعة كانوا يَقيلون(10) قائلة الضحى فدلَّ ذلك على أنَّه لا يكون تأخيرها كثيرًا؛ لأنَّه قدر ما تبدأ الرياح تهب.
          وهنا بحثٌ(11): ما الحكمة في التبكير بها في البرد؟ وما الحكمة في التأخير بها أيضًا في الحر؟ فإنْ قلنا: إنَّه تعبُّد فلا بحث، وإن قلنا(12): معقولُ المعنى، فما الحكمة؟
          فنقولُ واللهُ أعلم: لَمَّا بعثه الله ╡ رحمةً للمؤمنين كما أخبر جلَّ جلالُه بقوله في حقِّه(13): {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فكان صلعم كل ما كان(14) فيه تأذٍّ أو شيء من التشويش كان(15) يُزيله عن المؤمنين، فلمَّا كان شدَّة البرد ممَّا يؤلمهم لا سيَّما مثل أهل الصوفة(16)؛ لأنَّ الغالب عليهم وعلى البعض من الصحابة ♥ قلَّةُ الثياب بكَّر(17) ╕ بها منْ أجل تألُّـمهم من البرد، والبرد بكرةً شديد كما أنَّ حرَّ القائلة شديدٌ، فكان يُبرِد بها في الحرِّ لكثرة التألِّم من الحرِّ أيضًا.
          ويترتَّبُ على هذا من الفقه أنَّ كلَّما(18) يكون للمرء فيه تشويش في الصَّلاة فينبغي أن يزيله؛ لأنَّه مما يُحسِّن صلاته، لأنَّ التشويش لا يمكن معه حضور ولا خشوع قلب(19)، وهما(20) أجلُّ ما يُطْلَب من المصلِّي(21) ولذلك قال صلعم : / ((لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الأَخْبَثَيْنِ)).
          وفيه دليلٌ على ابتداء الكلام بالألفاظ العامَّة ثمَّ يخصَّصُ ذلك العامُّ(22) في الخبر نفسه، وهو من فصيح الكلام، يُؤخَذُ ذلك(23) من كونه أتى أولًا بلفظ (الصَّلاة) عامة ثمَّ خصَّصها أخيرًا(24) بأن قال: (الجمعة)(25).
          وفيه من الفائدة: أنَّه لا يُؤخَذُ من كلام المرء بعضُه ويُترَك بعضُه(26)؛ لأنَّ أوَّل الكلام قد ينبِّه على آخره(27) وبالعكس لكن بشرط ألَّا يتنافى المعنى الأوَّل مع(28) الآخر.
          وفيه دليلٌ على أنَّ سيِّدنا صلعم يُشَرِّعُ من الأمور في الدين بحسب ما يُفَهِّمه الله تعالى ويجب العمل به، يُؤخَذُ ذلك من كونه ╕ قدَّم الصَّلَاة وأَخَّرها ولم يخبر أنَّ ذلك بوحي، وكان ╕ إذا كان ما يأمر به أو يفعله بوحي يخبر به أولًا.
          وفي هذا دليل للذين يقولون في قول مولانا جلَّ جلالُه: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} [النساء:105] هو: كلُّ ما يخطرُ له أو يراه مصلحةً أن يفعله وإن لم يكن يوحى(29) إليه فيه شيء، لأنَّ كلَّ ما يَتعبَّد ╕ به هو من قبيل الوحي، إمَّا بالواسطة وهو إتيان المَلَك به(30)، وإمَّا بوحي(31) إلهام، ولذلك لم يختلفْ أهلُ التوفيق والتحقيق أنَّ اتِّباع السنَّة في أيِّ شيءٍ كانت هي أفضلُ الأعمال وأقربها إلى الله ╡ ، ويؤيِّدُ ذلك قولُه تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران:31].
          وفيه دليلٌ على أنَّ المطلوبَ في الصَّلاة خلاءُ القلب؛ لأنَّه بيتُ الربِّ ╡ ، / يُؤخَذُ ذلك من كونه ╕ يلحظ شدَّة الحرِّ والبرد(32) اللَّذين هما ولابدَّ يصلان إلى القلب حتَّى يشتغلَ بذلك(33) عمَّا هو بسبيله، فكذلك(34) ينبغي في كلِّ ما يشغلُه مِن(35) أيِّ شيءٍ كان، ومن أجل ذلك خرج أهل التوفيق عن الدُّنيا؛ لأنَّه لا شيء أكثر(36) تشويشًا منها، ومنْ أجل ذلك أيضًا تركوا الشهوات وطلبَ(37) المناصب، لأنَّ ذلك أيضًا من أكبر التشويشات(38)، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، قال أهل التوفيق: سُكارى من حُبِّ الدُّنيا.
          وفيه دليلٌ على أنَّه إذا كان التشويشُ يسيرًا لا يُبالَى به، لأنَّه قلَّما ينفكَّ قلبٌ(39) منه إلَّا الخواص وقليلٌ ما هم، يُؤخَذُ ذلك من قوله: (في الحَرِّ والبَرْدِ) وصفهما(40) بالشدَّة، فإذا لم تكن(41) فيهما شدَّة فلا بدَّ من تألُّمٍ ما، لأنَّ البشريَّة خُلقت(42) ضعيفة، والضعيف كلُّ شيء يؤثر فيه بالقدرة، ولذلك قال العلماء: إنَّ الحقنَ إذا كان يسيرًا لا يمتنع(43) معه الخشوع فالصلاة جائزة.
          وفيه دليلٌ على(44) المصلحة(45) العامة، لأنَّه(46) من أجل قلَّة حمل البعض ذلك الأذى الذي هو الحرُّ والبرد، لأنَّه بالقطع منهم من يحملهما ويفرح بهما لِـمَا يكون له(47) فيهما من الأجر؛ لأنَّ الأجر في العبادة بقدر التعب والتعب(48) يزيد(49) الأجر، لأنَّه من جملة المجاهدات، ولهذا كان(50) بعض المتعبِّدين يصلِّي وِرْدَه في الحرِّ في البيت، وفي البرد في سطح(51) البيت / للعلَّة المذكورة، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فحمل ╕ الكلَّ على محمل(52) واحد فنقص الأجر للبعض(53) من أجل أنَّ غيرهم قد لا تجزئه صلاته من كثرة التشويش الذي يلحقه، أو قد يلحقه منه مرضٌ يمنعه حضور صلوات كثيرة إلَّا أنَّ هنا معنًى ما وهو بشرط ألَّا يدخل لأحد الفريقين خللٌ في الدِّين، لأنَّ أحدَ الفريقين إنَّما يقصدُ(54) زيادة في الأجر(55) بعدما كَمُلَ له فرضُه.
          وفيه دليلٌ على أنَّه لا يُؤخَذُ ما زاد على الواجب من العبادات من المندوبات إلَّا بشرط أنْ لا يدخل(56) على الغير نقصٌ في فرضه، يُؤخَذُ ذلك من كونه ╕ ما حَرَم البعضَ زيادةَ الأجر كما وصفنا إلَّا من أجل نقص فرض الغير.
          وفيه دليلٌ على أنَّ قوله ◙ : «سِيْرُوا بِسَيْرِ أَضْعَفِكُمْ» أنَّه ليس(57) في السفر وحده بل هو(58) في كلِّ موضع، لأنَّ(59) هذا الحديث من ذلك القبيل لـمَّا لم يقدر البعض على حمل الأذى خَفَّفَ ╕ عن(60) الكلِّ وحملهم مَحْمَل الضعفاء.
          ويترتَّبُ على هذا(61) من الفقه: أنَّ الإمام ينظر إلى جماعته فإنْ رأى فيهم مريضًا أو ضعيفًا أو يعلم(62) صاحب حاجة(63) يخفِّف فهي السُّنَّةُ، وإنْ عَلِمَ أنَّهم أقوياء في الأبدان والإيمان أخذ بهم الأفضل وأطال(64) الصلاة، ولذلك(65) ينبغي لكلِّ من له رعاية أعلى أو أدنى(66) أن ينظر إلى ما يرفقهم(67) في جميع الأمور يسيرًا كان أو كثيرًا، والكمال فيه مطلوب وما يوجد / هذا الحال إلَّا بفقه الحال(68)، وفقهُ(69) الحال على ما ذكره السادة الفقهاء أنفع أنواع الفقه؛ لأنَّه هو نورُ الفقه وزبدته مثل التصرُّف(70) للذي(71) يقرأ النحو ويسمُّونه أهل الصُّوفة (المراقبة)، لأنَّه في كلِّ نَفَسٍ مراقب. ما حُكمُ الله عليه؟
          وقد أُخبِرتُ عن بعض الأجلَّة(72) من(73) الفقهاء حقًّا(74) أنَّه كان إذا سُئِل في مسألة سكت(75) ساعة وحينئذ يجيب، فَسُئِل(76) عن ذلك فقال: أنظرُ أيَّهما(77) خير لي وحينئذ أفعل، فانظر كيف جمع هذا السيد بين ثلاث: الفقه العام، وفقه الحال، والمراقبة.
          ولقد(78) أدركت بعض المباركين من أهل الصُّوفة وأنَّه اجتمع يومًا مع بعض الفقهاء المتبرِّزين للفتوى وكان فيه أهليَّة لذلك، غير أنَّه كانت السلطنة تستعمله في(79) المشاورة في الأمور لفضله(80)، فتكلَّم مع ذلك الفقير وطلب منه الدعاء _وكان ذلك من شأنه التنازل للفقراء وطلب الدعاء منهم_ فقال له الفقير(81) على طريق التواضع أيضًا: بل أنت الذي ينبغي أن تدعو(82) لي لأنك من علماء المسلمين وفقهائهم، فلم يتمالك ☼(83) أن غلبته الدموع حتَّى كادت نفسُه تَزهَق مِن كثرة(84) بكائه وهو يردد ويقول: مِثْلي يُحسَب من العلماء! والله ما(85) يكون العالِم عاِلـمًا حتَّى لا يخرج له نَفَس إلَّا لله وبالله، وإنَّما نحن ممَّن يلعب في دين الله.
          فلقد رجوت بذلك اليوم وذلك الاعتراف مع ما كان فيه من الدين أنَّ الله ╡ يرفعُه بذلك في الآخرة مع المقرَّبين جعلنا الله جميعًا(86) هناك بفضله لا ربَّ سِواه(87). /


[1] قوله: ((عن أنس يقول)) ليس في (م)، وزاد في (م): ((قوله)).
[2] في (ج) و(ل): ((سواه..قوله كان النبي)).
[3] في (ج): ((أشد)).
[4] قوله: ((عن أنس يقول)) ليس في (م) و(ج) و(ل)، وذكروا عوضاً عنها: ((قوله))، ثمَّ ذكر تتمة الحديث في حاشية (ل) بقوله: ((وإذا اشتدَّ الحرُّ أبردَ بالصلاة يعني الجمعة)) وأشار في (ل) إلى راوي الحديث بقوله: ((قال سمعت أنس بن مالك يقول)).
[5] قوله: ((يدل على)) ليس في (ج) و(م).
[6] قوله: ((في)) ليس في (ط) و(ج) و(م) والمثبت من (ل).
[7] زاد في (ج): ((أي وقت)).
[8] في (م): ((فيه)).
[9] في (ج) و(م) و(ل): ((التأخير فبشيء)).
[10] في (ج) و(م) و(ل): ((أنهم كانوا إذا رجعوا من صلاة الجمعة يقيلون)).
[11] زاد في (ل): ((وهو)).
[12] زاد في (ج) و(م) و(ل): ((أنه)).
[13] قوله: ((في حقه)) ليس في (م). في (م): ((كلما كان)).
[14] قوله: ((كان)) ليس في (ط).
[15] قوله: ((كان)) ليس في (ط) في الموضعين الأخيرين، والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (ج) و(م) و(ل): ((الصفة)).
[17] في (م): ((يكبر)).
[18] في (م): ((كل ما)).
[19] في (ج) و(م) و(ل): ((معه خشوع ولا حضور))، وقوله: ((قلب)) ليس في (م).
[20] زاد في (م): ((من)).
[21] في (ج): ((المصلين)).
[22] في (ل): ((العلم)).
[23] قوله: ((يُؤخَذُ ذلك)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] في (م): ((خصصها أخيراً))، وفي (ج) و(ل): ((خصصها آخراً)).
[25] ورد في حاشية (ل): ((قال سمعت نافعاً يقول: سمعت ابن عمر يقول: نهى النَّبي صلعم أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه، قلت لنافع يوم الجمعة قال الجمعة وغيرها)).
[26] قوله: ((بعضه)) ليس في (ج).
[27] في (م): ((قد بينه آخره))، وفي (ج): ((قد يبينه آخره))، وفي (ل): ((يبينه آخره)).
[28] في النسخ: ((من)).
[29] في (م): ((أُوحي)).
[30] قوله: ((به)) ليس في (ط) و(ج) والمثبت من النسخ الأخرى.
[31] في (ط) و(م): ((وحي)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[32] في (ج) و(م) و(ل): ((البرد والحر)).
[33] في (ج): ((عن ذلك)).
[34] في (م): ((فكان)).
[35] في (م): ((في)).
[36] في (م): ((أكبر)).
[37] في (ل): ((وطلبوا)).
[38] زاد في (ج): ((أيضا)).
[39] في (ج) و(ل): ((أحد)).
[40] في (ج) و(م) و(ل): ((فوصفهما)).
[41] في (ج): ((يكن)).
[42] في (م): ((خلقة)).
[43] في (ج) و(م): ((يمنع)).
[44] زاد في (م) و(ل): ((الأمر بالنظر)) وزاد في (ج): ((الأمر)).
[45] في (ج): ((لمصلى)).
[46] في (م): ((لأن)).
[47] قوله: ((له)) ليس في (م).
[48] قوله: ((والتعب)) زيادة من (ف).
[49] في (م): ((يبدأ)).
[50] في (ل): ((قال)).
[51] في (ط): ((وسط)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[52] في (ج) و(م) و(ل): ((عمل)).
[53] في (ف): ((يتبعض)).
[54] في (ج) و(م): ((بعضه)).
[55] في (ل): ((إنما نقصه زيادة في الآخر)).
[56] في (م): ((بشرط البعض)).
[57] قوله: ((ليس)) ليس في (ج).
[58] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و(م) و(ل).
[59] قوله: ((لأن)) ليس في (ج).
[60] قوله: ((عن)) ليس في (ج).
[61] في (ج) و(م) و(ل): ((ويترتَّبُ عليه)).
[62] في (ج): ((أو علم)).
[63] قوله: ((حاجة)) ليس في (ل).
[64] زاد في (ل): ((بهم)).
[65] في (ج): ((فلذلك))، وفي (م) و(ل): ((وكذلك)).
[66] في (ط): ((دون)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[67] في (ج) و(ل): ((ما هو أرفق))، وفي (م): ((أدنى كان أو كثيرًا ينظر إلى ما هو أرفق بهم)).
[68] قوله: ((الحال)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[69] في (م): ((وبفقه)).
[70] في (ط) و(ج) و(م) و(ل): ((التصرف)). كذا في النسخ، وفي (المطبوع): ((الصَّرْف))..
[71] في (م): ((الذي)).
[72] في (ج): ((أجلة)).
[73] في (ج): ((أجلة))، وقوله: ((الأجلة من)) ليس في (م).
[74] قوله: ((حقاً)) ليس في (م).
[75] في (ج) و(م) و(ل): ((يسكت)).
[76] في (ج) و(ل): ((فيسأل)).
[77] في (م) و(ل): ((فيما)).
[78] في (ج) و(م): ((وقد)).
[79] في (ج): ((من)).
[80] في (ج): ((في أمور تفضله)).
[81] في المطبوع: ((الفقيه))، وقوله: ((وكان ذلك من....له الفقير)) ليس في (م).
[82] في (م): ((تكون)).
[83] في (ج): ((رحمة الله عليه)).
[84] في (م): ((تزهق لكثرة)).
[85] في (ج): ((لا)).
[86] قوله: ((جميعاً)) ليس في (م)، والعبارة في (ل): ((جعل الله جمعنا)).
[87] قوله: ((لا رب سواه)) ليس في (ط)، وزاد في (م): ((منهم لا رب سواه)).