بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: حق الجوار في قرب الأبواب

          244- قولها: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ...) الحديث(1). [خ¦6020]
          ظاهر الحديث(2) يدلُّ على أنَّ أقرب(3) الجيران منك باباً أولى بالهدية مِن غيره، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: هل هذا عَلى طريق الاستحباب أو الوجوب؟ فالجواب: أمَّا أن يكون(4) على الوجوب فليس بظاهر، لأنَّ الهدية لم يَقُل أحدٌ إنَّها واجبة. فإذا كان الفعل في نفسه مندوباً فتقديم النَّاس فيه بعضهم على بعض مِن باب المندوب أيضاً، فإنَّه لا يكون الفرع أقوى مِن الأصل.
          وفيه دليل على أنَّ المستحب في الأعمال: الأخذُ بما هو أعلى، يُؤخذ ذلك مِن إرشاده صلعم لِمَا هو الأفضل في الترتيب بين الجيران والأعظمُ حرمةً، أليس أنَّها لَو أهدت لغير الأقرب باباً لكانت مأجورةً في هديتها؟ فلمَّا كان الأقرب باباً(5) أعظم حرمةً كان بالمعروف أَولى، وَكان(6) صاحبه أكثر أَجراً، وَكذلك السُّنَّة في غير ذلك مِن أفعال البِرِّ. يؤيِّد(7) ذَلك / وَيقوِّيه(8) قوله ╡ في كتابه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57].
          وفيه دليل على تقديم(9) العلم قبل العمل، يُؤخذ ذلك مِن سؤالها ♦ قبلَ عملها(10).
          وفيه دليل لأهل الطريق، لأنَّهم يؤخِّرون العملَ لاشتغالهم بتصحيح النيَّة. يؤيِّد هذا قوله صلعم : «خيرُ العَملِ ما تقدَّمته(11) النِّيَّةُ» أو كما قال صلعم.
          وفيه دليل على أنَّ الجوار الذي وكَّد في حقِّه عَلى نحو الحديث قيل: إنَّه مَا يتعدَّى لأكثر مِن اثنين(12)، وما عداه أخفض رتبة في الطلب، / فأوجب ذلك تأكيداً مَا عَلى(13) غيره.
          وفيه أيضاً دليل عَلى أنَّ آكد الجِهات في الجوار جِهةُ الأبواب، لأنَّ الذي هُو أقرب منك باباً هو الذي تكثُر مشاهدته لكَ، ولكلِّ ما يَرِد عليك، وقد يَعلم مِن حالك لكثرة الملازمة مَا لا يعلمه غيره، وأنتَ أيضاً تعلم مِن حاله كذلك، وهذا كلُّه إذا كان الجوار عَلى الشروط المتقدِّم ذِكرها في الحديث قبل، وعَرِي عن الحقوق الزَّائدة عليها كما تقدَّم أيضاً.
          وفيه دليل على أنَّ(14) الندبَ إلى حفظ الجار: الرِّجال والنِّساء فيه سواء. يُؤخذ ذلك مِن قولها: (إِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟) فإنَّها سألت عمَّا يخصُّها في ذلك، وَلو كانت في ذلك نائبةً عنه صلعم (15) لقالت: إلى أيِّهما نُهدي(16).
          تنبيه: القُرب بأيِّ وجهٍ كَان كانت له حُرْمة مَا، أمَا ترى الجار قد جُعلت له حُرمةٌ مِن أجل الجوار بالجدار(17)، وإن كان كافراً(18)؟ ففيه إرشاد إلى أن تكون لك همَّة فيها فحولية، لعلَّ قربَك يكون مِن النوع الذي لا قَطْعَ له، فإنَّ قُرب الكافر بجوار(19) الجدار ينقطع بانقطاع هذه الدار، والقرب بمناسبة الطريقة(20) والحال يتأكَّد حقُّه(21) في تلك الدار كما جاء في الأثر: أن عمَّار المساجد جيران الله(22)، فإذا كانوا جيرانه في هذه الدار فكيف يكون حال حرمتهم(23) في تلك الدار؟.
          تاه(24) حبَّاً فيهم، وشوقاً إليهم، مَا أحسن مَا أثنى عليهم مولاهم / حيث قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ. رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:36-38] وماذا(25) أعدَّ لهم بمتضمَّن(26) قوله: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38](27) فثواب أعمالهم محدود معلوم، ومَا كان مِن فضله ╡ فلا تَصِلُ إليه العقول، ولا تحيط به الأوهام، جعلنا الله مِن أهل القرب المقرَّبين بفضله، كما يليق بفضله(28).
          وصلَّى الله عَلى سيِّدنا محمِّد نبيِّه وعبده وعلى آله وسلَّم(29).


[1] في (ب): ((عن عائشة ╦ قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً)).
[2] قوله: ((ظاهر الحديث)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] في (ج): ((قرب)).
[4] كذا في (م)، وزاد في باقي النسخ: ((ذلك)).
[5] قوله :((لكانت مأجورةً في هديتها؟ فلما كان الأقرب باباً)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[6] في (ج): ((كان)).
[7] في (ج): ((يؤخذ)).
[8] في (ب): ((ويقربه)).
[9] قوله :((تقديم)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] في (م): ((علمها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[11] في (ب): ((قدمته)).
[12] زاد في الملف: ((مِن الجهة الواحدة. يُعلَم ذلك مِن موقع بيتها ♦، فهو محاطٌ بالمسجد النبوي من جهاته الثلاث، وبيوتِ أزواجه صلعم، فلم يبقَ إلا جهةٌ واحدة. يؤخذ ذلك من قولها: (إن لي جارَينِ).
فلو كان العدد فيهم أكثرَ لَذَكَرَتْ أكثرَ من الاثنين، بالعلم الضروريِّ الذي لا شكَّ فيه، أنَّ بيوتَ رسول الله صلعم كانت وسطَ المدينة، وأنَّ الدُّورَ في المدينة متَّصلٌ بعضُها ببعض، ولو كان وجهُ الجيرة _ كما ذُكِر عن العلماء _ أربعين داراً لكان أكثرُ أهل المدينة جيرانَهم، وفي الغالب أنَّه لا يعلم أحدٌ حَفِظَهم على حدٍّ سواء، ولكان مندوباً يُفْضِي بصاحبه إلى الضَّرر والمشاقِّ، وهذا في الدِّين _ والحمد لله _ قد عوفينا منه. وبتعليله صلعم بأقربهم باباً، يظهر أن حدَّه هنا ما تضمَّنه قولها: (جارين) لأنَّه هو الذي أقرب منها باباً)) وهو ليس في المطبوع.
[13] في (ب): ((تأكيده على)).
[14] قوله: ((أن)) ليس في (ب).
[15] في (ج): ((ولو كانت نائبة عنه صلعم في ذلك)).
[16] في (ب): ((تهدي)).
[17] قوله: ((بالجدار)) ليس في (ج).
[18] في (م) و(ت): ((كافر)) والمثبت من (ج) و(ب).
[19] في (ج): ((الكافر له)).
[20] في (ب): ((الطريق)).
[21] قوله: ((حقه)) ليس في (ج).
[22] قوله: ((كما جاء في الأثر: أن عمَّار المساجد جيران الله)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[23] في (ب): ((فكيف تكون حرمتهم)).
[24] كذا في (ج)، وفي باقي النسخ: ((هاه)). وفي المطبوع: ((هذه)).
[25] في (ج): ((وما)).
[26] في (ج): ((بمقتضى)).
[27] قوله: ((وماذا أعدَّ لهم بمتضمَّن قوله: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)) ليس في (ب).
[28] قوله: ((كما يليق بفضله)) ليس في (ج).
[29] في (ب): ((محمد وآله وصحبه وسلم)).