بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

          116- قوله: قال النَّبِيِّ صلعم في ابْنَةِ حَمْزَةَ: (لَاْ تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ(1)...) الحديث. [خ¦2645]
          ظاهر الحديث يفيد التحريم بالرَّضاعة كما هو النسب(2).
          وفيه دليل على أنَّ للوليِّ أن يخطب لولِّيَّته مَن يرتضيه(3) مِن الرجال؛ لأنَّ ابنة حمزة خُطِبت للنبي صلعم ورغب فيها وهذا أمر قد يعافه بعض أهل هذا الزمان، وهو مخالف للسُّنَّة(4) بدليل الحديث الذي نحن بسبيله هذا مِن جهة السُّنة، وإذا وقع النظر في معنى ذلك تأكَّد الأمر فيه حتَّى إنَّه آكدُ مِن خطبة الرجل للمرأة؛ لأن الرجل(5) إذا تزوَّج فأَمْرُ الفراق بيده فإن أعجبه ما أتاه وإلا تركه ولا مانع له منه، والمرأة ليس بيدها(6) ذلك، فإذا حصل لها رجل غير مَرضي وقعت في حَيرة ونُشْبة ولا انفكاك لها منه غالبًا.
          فتأكَّد الأمر أن يكون المرء ينظر لوليته ويخطب لها، لعلَّه أن يقع لها على أهل الفضل والدِّين(7)؛ لأنَّه إذا أعطاها لمن يرتضيه(8) في الدِّين فهي بين أحد أمرين: إمَّا أن يوفِّق الله بينهما فتستريحَ الولية بذلك / وتنال(9) خيرَ الرجل في الدنيا وفي الآخرة، وإن كان غير ذلك فقد حصل الأمان مِن ظلمها؛ لأن أهل الدِّين لا يقَعون(10) في الظلم البتَّة، بل إذا وقع الفراق فلابدَّ أن(11) تكون المرأة قد(12) نالت مِن بركته شيئًا فيتحصل لها الخير مِن كِلا الأمرين، بل أهل(13) الدِّين والخير سيرهم تقتضي(14) أن لا يقع الفراق؛ لأنَّهم لا يتزوَّجون إلا لصلاح دينهم وامتثالًا لسُنَّة نبيهم، ومَن تزوَّج لهذا(15) المعنى لا ينظر إلى الجمال، ولا إلى المال، ولا إلى حسن الهيئة والكمال، وإنما ينظرون(16) إلى مَن يوافقهم ويُعينهم على مرادهم وما هم إليه سائرون وعليه معوِّلون(17) مِن أمر آخرتهم، فتأكَّد الأمر لأجل(18) هذا المعنى في خِطبة أهل الخير والصلاح مِن النساء للرجال.
          وفي الحديث دليل لأهل الصوفية(19) لقولهم بجبر القلوب؛ لأنَّ ابنة حمزة عما نُقِلَ عنها كانت في الجمال لها الكمال، فخطبت إلى رسول الله صلعم فأدرك لنسائه(20) الغيرةُ مِن ذلك، فقال ╕: «لا تَحِلُّ لِي» وبيَّن العلَّة المانعة له منها حتَّى جَبَرهنَّ بذلك وأسكن روعتهُنَّ(21)، فكان في إخباره ◙ بذلك فائدتان: تقعيدُ قاعدة مِن قواعد(22) الشريعة، وجبرُ نسائه مما كُنَّ يتوقَّعن.
          ولا يظنُّ ظانٌّ أنَّ غَيرتهن كانت لحظوظ أنفسهن، إذ ذاك لا يَسُوغ في حقِّهن إذ هُنَّ مختارات(23) لخير البرية، وإنما كانت(24) غَيرتهن لله ╡ ؛ لأنَّ كلَّ / واحدة منهنَّ تريد أن تتقرَّب إلى رسول الله صلعم بكل ممكن يمكنها لعلَّها أن(25) تتقرَّب بذلك إلى الله ╡ ، فمحبَّتُهنَّ له كانت لأجل الله، ومحبَّتُه ◙ لهنَّ وتفضيل بعضِهن على بعض كانت لأجل الله أيضًا(26)، ولمَّا خَصَّ الله به كلَّ واحدة مِنهن، وهنَّ(27) أجلُّ مِن أن تقع المحبَّة منهن لسبب الذوات والأشخاص.
          بل هذا الحال أوصى به ◙ لأمته فقال: «تُتَزَوَّجُ المرأَةُ لِجَمَالِهَا(28) ومَالِهَا ودِيْنِهَا وحَسَبِهَا» ثم قال ╕: «عَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»، فأخبر ◙ لِمَ تُتزوَّجُ المرأةُ، ثمَّ أرشد إلى ما هو الأصلح والأَسَدُّ، ولأجل هذا المعنى كان ◙ يفضِّل عائشة على غيرها مِن نسائه حتَّى قيل له مرَّةً: أيُّ النساءِ أحبُّ إليك؟ قال: «عَائِشَة»، وهذا الإخبار قد يستفزُّ الشيطان بعقل بعض مَن يسمعه وهو غير عالم بحال النَّبي صلعم وبسيرته(29) فيظنُّ أنَّه أحبَّ عائشة(30) لأجل الصغر والجمال وذلك باطلٌ بدليل ما قدَّمناه.
          وقد صرَّحَ ◙ بالعِلَّة التي أشرنا إليها، وذكرَ لِمَ(31) فضَّلها على غيرها حين سأله نساؤه أن يَعدِل بينهنَّ في المحبة، فقال ◙ في حقِّ عائشة: «إِنَّهُ لَمْ يُوحَ إليَّ فِي فِرَاشِ إِحْدَاكُنَّ إِلَّا فِي فِرَاشِهَا»، فكان تفضيله ◙ لها مِن قِبَل أنَّ الله ╡ فضَّلها وخَصَّها بذلك، وقد قال ◙ : «خُذُوا عَنْهَا / شَطْرَ دِيْنِكُمْ».
          وقد تُوفِّيَ عنها ◙ وهي ابنة ثمان عشرة سنة، والعادة تقتضي أنَّ مَن كان(32) في ذلك السِّنِّ مِن النساء ليس له قابلية للعلم(33) لأجل صِغَر سِنِّه(34) ثم إنَّها مع ذلك أُخذ عنها شطرُ الدين، وهذه مرتبة(35) كبرى خَصَّها الله بها وفضَّلَها بذلك على غيرها، وقد جاءت آثار في فضلهن بأجمعهن، وآثار بفضلِ(36) كلِّ واحدة منهن بشخصها، فكان ◙ يُفَضِّل كلَّ واحدة بحسب ما فضَّلها الله به وخصَّها، فكان أصل(37) المحبة منه ومنهن لله تعالى لا لغيره، ولا يظنُّ أحدٌ فيهنَّ غير ذلك إلا مَن جهل قَدرَهنَّ، وقاسَ أحْوَالَهُنَّ على أحوال غيرهنَّ، والله الموفق للصواب(38).


[1] قوله: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى، ولكن في (م): ((الرضاعة)) بدل الرضاع.
[2] في (م): ((بالنسب)).
[3] في (م): ((شاء)) وفي (ل): ((ترتضيه)).
[4] في (م): ((للحديث)).
[5] قوله: ((لأن الرجل)) ليس في (ل).
[6] في (م): ((لها)).
[7] في (ج): ((والدليل)).
[8] في (ل): ((ترتضيه)).
[9] في (ط): ((وقالت))، وفي (ل): ((ونالت)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] في (م): ((لا يبغون)).
[11] في (ج): ((وأن)).
[12] قوله: ((قد)) ليس في (ل).
[13] في (ل): ((هو)).
[14] في (ج): ((يسرهم يقتضي)) وفي (ل): ((سيرهم يقتضي)).
[15] في (م): ((إلى هذا)).
[16] في (ل): ((ينظروا)).
[17] في (ج) و(م): ((صائرون وعليه قادمون)).
[18] في (م): ((من أجل)).
[19] في (ل): ((الصوفة)).
[20] في (ج) و(م): ((فأدركت نساؤه)).
[21] قوله: ((وأسكن روعتهن)) ليس في (ج) و(م)، و بعهدها في (ل): ((وكان)).
[22] قوله: ((قواعد)) ليس في (م).
[23] في (ط) و (ل): ((مختارون)).
[24] قوله: ((كانت لحظوظ أنفسهن إذ ذاك لا يَسُوغ في حقهن إذ هُنَّ مختارات لخير البرية وإنما كانت)) ليس في (ج).
[25] قوله: ((أن)) ليس في (ط) و (ج) والمثبت من النسخ الأخرى.
[26] قوله: ((أيضاً)) ليس في (م).
[27] في (ط): ((هم)) وفي (ل): ((وهم)) والمثبت من (م).
[28] في (ج): ((بجمالها)).
[29] في (ل): ((وبسيره)).
[30] في (ج) و(م) و (ل): ((أن حبَّ عائشة كان)).
[31] قوله: ((لم)) زيادة من (م) على النسخ.
[32] في (م): ((كانت)).
[33] في (م): ((إلى العلم)) وفي (ل): ((قابلة للعلم)).
[34] في (ط): ((صغره)) وفي (ل): ((لأجل صغره)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[35] في (ج) و(م) و (ل): ((مزية)).
[36] في (م): ((تفضل)).
[37] في (ل): ((أنس)).
[38] زاد في (م): ((بمنِّه)).