بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه

          235- قوله صلعم : (إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ...) الحديث(1). [خ¦5973]
          ظاهرُ الحديث يدلُّ على أنَّ لعْنَ الوالدَينِ مِن(2) أكبر الكبائر، والعمل بِسَدِّ الذَّريعة، وفي ذلك دليلٌ لمذهب مالك ☼ في قوله بسَدِّ الذرائع(3)، يُؤخذ ذلك مِن أنَّه(4) صلعم جعل ما هو ذريعة لِسَبِّ الأبوَينِ سَبَّاً لهما. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ في هذا دليلاً على عِظم حقِّ الأبوَين، إذ القول الذي هو ممكن أن يترتَّب عليه(5) سبُّهما جعَلَه الشَّارع صلعم مِن أكبر الكبائر، فكيف(6) بغير ذلك؟ لأنَّه إذا سبَّ الرجل أبا الرجُل مِن الجائز أن يسبَّ هو أباه، أو يقول له خلافَ ذلك، أو يفعل به بدل القول فعلاً مؤلماً؛ لكن لَمَّا جرت العادة في الغالب أنَّه(7) لا يَرُدُّ إلَّا مثله(8) حَكَمَ الشَّارع صلعم بالغالب. وفي ذلك دليلٌ(9) على أنَّ تقعيد الأحكام إنَّما هو على الغالب مِن جري العادة، والمحتمل النَّادر لا(10) يُنظر إليه.
          وفيه دليل على أنَّ كلَّ ما يكون محتملاً أن ينتج(11) منه شرٌّ لا يُفعل(12) خيفةً مِن وقوع الشرِّ، وهو أيضاً مِن باب الحزم في الأمور.
          وفيه دليل على أنَّ الأحكام / والمخاطبات إنَّما تكون على العادة الجارية بين النَّاس(13).
          وفيه دليل على جواز مراجعة المفضول للفاضل فيما يقوله الفاضل، ويُشترط في ذلك الأدبُ. يُؤخذ ذلك مِن قول الصحابة: (وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ أَبَاهُ؟) ويُؤخذ الأدب مِن صفة لفظهم، لأنَّهم ♥ لم يقولوا: لا(14) يكون، وإنما(15) سألوا عن الكيفية كيف تكون؟ على طريق الاستفهام، فهذا(16) هو عين الأدب في المراجعة.
          وفيه دليل على أنَّ مَن راجع فيما لا يَعْرِف لا عتَبَ عليه، إذا كان عَلى سبيل الاستفادة، يُؤخذ ذلك مِن كونه صلعم لم يَعْتِبْهم عَلى ذلك، وبيَّن(17) لهم الكيفيَّة بلطف في التعليم(18).
          وقوله صلعم : (أَكْبَرُ الكَبَائِرِ) فيه دليل على تفاوت الكبائر(19) بعضِها على بعض.
          وفيه دليلٌ على أنَّ مِن أكبر أفعال الخير معرفة اتِّباع(20) السنَّة. يُؤخذ ذلك مِن أنَّ مَن لم يعرفها يجهل مثل هذا، فيقع في أكبر الكبائر وَهو لا يعلم، وقد رَجَع(21) بعض الجهَّال اليوم بِمُمَازَحتهم(22) فيما بينَهم أنَّ يلعن بعضهم أبا بعض، ويعدُّونه مباسطة. فنعوذ بالله مِن الجهل والضَّلال، ولذلك قيل: «إنَّه(23) ما عُصِيَ الله بأشدَّ مِن الجَهْلِ» وَهو الحقُّ، فإنَّ الجاهل لا يزال يقع في المهلكات، وَهو لا يعلم. /
          وهنا تنبيه على أنَّ الأصل يفضُل عَلى(24) الفرع بالوضع، وإنْ فضَله الفرعُ بحسن الصفات قيل له: لا تنسَ فضيلة سَبقِه عليك، لأنَّه لَمَّا كان الأبُ أصلاً للابن جُعل له عليه هذا الحقُّ العظيم، فإنْ فَضَله(25) بصفة الإيمان _وهي أفضل الصِّفات_ قيل له: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}[لقمان:15] للفضيلة التي سبقا(26) بها.
          وكذلك يتعدَّى الحكم لمن كان السبب في هدايتك إلى مولاك. وقد جاء: «مولاك(27)، ثمَّ مولاك، مَن علَّمك آيةً مِن كتاب الله _يا هذا_ قد ملكك بعظيم إحسانه إليك، إن كان في الطبع عروبية(28) أشدَّ ممَّا ملك السيِّد رقبة عبده بالمال، فإنَّ الأحرار يملكون بالإحسانِ أكثرَ وأشدَّ مِن تملُّك العبيد بالدِّرْهمِ والدِّينار». كما ذُكِر: «ومَن وَجَد الإحسانَ قيداً تقيَّدَ». فإذا كانت الطبائعُ(29) رذيلة أَبَقَ مِن قيد الإحسان أشدَّ مِن إباق العبد(30) القِنِّ. لحا الله الهجينَ(31)، لا مروءة ولا دين.
          ومِن هذا الباب يترتَّب عِظَم حقِّ(32) سيِّدنا صلعم علينا، لأنَّه السَّببُ الموصِل لكلِّ خير، مَنَّ الله به علينا(33) في الدنيا والآخرة. وَهنا زيادة: لأنَّ هذا(34) الأصل لا يفضله فرع أبداً، لا بوصف صفة، ولا بمعنى. فهو الأصل في جميع الخير، وله فيه السَّبق حِسَّاً ومعنًى. ولذلك ذكر الله ╡ في محكم التنزيل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] / فإنَّه ليس فضيلةُ(35) مَن كان أصلاً لخروجك إلى الوجود كمن جُعل أصلاً إلى إنقاذك مِن الجحيم، وأثمرَ ثمرُ اتِّباعِك له خلودَك في النَّعيم.
          فانظر بفطن العقول كيف تتسلسل فضيلة(36) الأصول في إنعام موجد(37) الوجود؟! واذكر آلاء الله، وأيقِظ سِنَةَ فهمك، لعلَّها توافق عروبيةً في طبعك، فتُبادر إلى مراجعة خِدمة مولاك، لعلَّ شَيْنَ إباقك عنه يزيله بيد عفوه عنك. فالمؤمن توَّاب. جعلنا الله ممَّن سبقت له بالخير(38) سابقة. فراجعَ مولاه قبل الأخذ على غِرَّة، والجأْ إليه فإنَّه لا ربَّ سواه ولا نعبد إلَّا إيَّاه(39).


[1] في (ب): ((عن عبد الله بن عمر ☻ قال: قال رسول الله صلعم : إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه).
[2] قوله: ((من)) ليس في (ت).
[3] في (ب): ((وفي ذلك لمالك دليل في قوله بسد الذريعة))، وقوله: ((في قوله بسَدِّ الذرائع)) ليس في (ج).
[4] في (ب): ((من قوله)).
[5] قوله: ((مِن وجوه منها: أنَّ في هذا دليلاً على عِظم حق الأبوين، إذ القول الذي هو ممكن أن يترتب عليه)) ليس في (ج).
[6] في (م): ((وكيف))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[7] قوله: ((أنه)) ليس في (م) والمثبت من (ج) و(ت).
[8] في (المطبوع): ((بالمثل)).
[9] قوله: ((أنَّه لا يَرُدُّ إلَّا مثله حَكَمَ الشَّارع صلعم بالغالب. وفي ذلك دليلٌ)) ليس في (ب).
[10] قوله: ((لا)) ليس في (ج).
[11] في (ج): ((يبح)).
[12] في (ب): ((محتملا لفعل قبيح لا يفعل)).
[13] قوله: ((وفيه دليل على أنَّ الأحكام والمخاطبات إنَّما تكون على العادة الجارية بين النَّاس)) ليس في (ب).
[14] في (م): ((ألا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[15] في (م): ((بل))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (ب): ((هذا)).
[17] في (م): ((ويبين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] في (المطبوع): ((وبيَّن لهم الكيفية بحسن عبارة)).
[19] قوله: ((فيه دليل على تفاوت الكبائر)) ليس في (ج).
[20] قوله: ((اتباع)) ليس في (ب).
[21] في (المطبوع): ((اعتاد)).
[22] كذا في (م)، وفي غيرها من النسخ: ((ممازحتهم)).
[23] قوله: ((إنه)) ليس في (ب).
[24] كذا في (م) وهي صحيحة، قال في لسان العرب: يُقَالُ: فَضَلَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذا غَلَبَ عَلَيْهِ، وقوله: ((على)) ليس في النسخ الأخرى.
[25] في (ب): ((فضل)). وزاد في (ج) و(ت) و(ب): ((الابن)).
[26] في النسخ: ((سبقا)) ولعل المثبت هو الصواب، وهو مطابق للمطبوع.
[27] قوله: ((وقد جاء: مولاك)) ليس في (ج).
[28] في (ب): ((عربية)).
[29] في (ت): ((الطباع)).
[30] في (ج): ((العبيد))، وفي (ب): ((أشد إباق العبد)).
[31] في (ب): ((نجا الهجين)).
[32] قوله: ((حق)) ليس في (ت).
[33] في (م): ((علينا به))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] قوله: ((هذا)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[35] في (م): ((يفضله)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[36] في (ت): ((فضيلية)).
[37] في النسخ: ((موجود))، ولعل المثبت هو الصواب.
[38] في (ج) و(ت): ((بالخير له)).
[39] قوله: ((ولا نعبد إلَّا إيَّاه)) ليس في (ت) و(ب).