بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة

          76- (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ(1) صلعم : لَا(2) يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ...) الحديثُ. [خ¦1474]
          ظاهرُه يدلُّ(3) أنَّ الذي يُكثِرُ مِن(4) سؤالِ الناسِ يأتي يومَ القيامةِ وليسَ في وجهِهِ لحمٌ، والكلامُ عليهِ مِن وجوهِ:
          منها(5): هلْ هذا السؤالُ على العمومِ في علمٍ أو طريقِ، أو لا يكونُ ذلكَ إلا في(6) حطامِ الدنيا؟ وإنْ كانَ في حطامِ الدنيا هل كانَ محتاجًا أو غير محتاج(7)؟ وهلْ هذا خاصٌّ بالرجالِ دونَ النساءِ(8) أو ليسَ؟ وهلْ هذهِ العقوبةُ لحكمةٍ(9) تُعرَفُ أم(10) ليسَ؟ وهلْ يدخلُ في ذلكَ(11) من تابَ قبلَ موتِه أم لا؟
          فَالجَوابُ عن السؤالِ في العلمِ(12)، فلا يدخلُ في عمومِ(13) ذلكَ بدليلِ قولِ / مولانا جلَّ جلالُه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
          وأمَّا السؤالُ أيضًا عن(14) الطريقِ فلا يدخلُ في عمومِه؛ لأنَّهُ مِن إرشادِ الضالِّ، وإرشادُ الضالِّ مِن المأمورِ بهِ، فلم يبقَ إلا أن يكونَ في حطامِ الدنيا، فإذا كانَ في حطامِها فليسَ على عمومِه أيضًا؛ لأنَّهُ(15) من المأمورِ بهِ السؤالُ عندَ(16) الحاجةِ لِقَولِهِ ◙ : «لا بأسَ للمؤمنِ أنْ يشكوَ حَالَهُ لأخيهِ(17) المؤمنِ».
          ومن أجلِ ذلكَ اختلافُ(18) العلماءِ في الذي يلحقُه الجوعُ أيُّهما(19) أفضلُ لهُ(20): الصبرُ حتى يموتَ فيكونَ شهيدًا لِقَولِهِ ╡ :{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}(21) [الطور:48]، أو يكونُ مأثومًا لِقَولِهِ صلعم : «لا بأسَ للمؤمنِ أنْ يشكوَ حَالَهُ لأخيهِ المُؤمنِ»،فإنْ لم يفعلْ حتى يموتَ يكونُ ممن تسبَّبَ في قتلِ نفسِه فيأثَمُ على قولينِ(22).
          وأمَّا مَن تابَ قبلَ موتِه فيُرجَى أنَّه لا يدخلُ تحتَ(23) العمومِ لِقَولِهِ صلعم : «التوبةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا»(24). غير أنَّه يبقى هنا بحثٌ، فالذي يكونُ مِن المالِ بيدِه عندَ التوبةِ هل(25) يتناولُ منهُ شيئًا أم لا؟ أو ما(26) يفعلُ بهِ؟ أمَّا بقاؤُه بيدِه فلا يجوزُ(27) وكيفَ يجوزُ لهُ إبقاءُ مالٍ حرامٍ بيدِه؟ بدليلِ قَوله ◙ : «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ قَوِيٍّ(28)»،
          فإذا لا تحلُّ لهُ فهيَ عليهِ حرامٌ،(29) مِن شروطِ التوبةِ الخروجُ عنهُ(30)، وأمَّا ما يفعلُ بهِ: فإن كانَ مما يعرفُ أصحابَه فيردُّهُ إليهم، وإنْ لم يعرفْ فيتصدَّقُ بهِ.
          وأمَّا هلْ هوَ خاصٌّ بالرجالِ / دونَ النساءِ؟ فالجواب أنه عامٌّ(31) بدليلِ أنَّ النساءَ شقائقُ الرجالِ في جميعِ التكليفاتِ، وجرى الإخبارُ عنهم دونَ النساءِ من طريقِ(32) الأفضليَّةِ وأنَّهم تلاقوا الخطابَ كَقَولِهِ(33) ╡ : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} [المؤمنون:51] والمقصودُ: هم وأتباعُهم.
          وهنا بحثٌ وهو: أنَّ مَن(34) فعلَه ولم يدُمْ عليهِ لا يلحقُه ذلكَ الوعيدُ، بدليلِ قولِه: (ما(35)) وهي نافيةٌ، كأنَّهُ يقولُ: لا يزالُ يسألُ الناسَ، فجعلَ ذلكَ على دوامِه على ذلكَ الأمرِ(36).
          وفيهِ دليلٌ على أنَّ جميعَ الناسِ محتاجونَ إلى العلمِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أنَّه إذا كانَ أقلُّ الناسِ وهم السُّؤَّالُ الذين ليسَ لهم شيءٌ من الدنيا يحاسبون(37) على سؤالِهم هل هوَ على ما أُمروا به أو تعدَّوْا(38)؟ فما بالكَ بالغيِر؟!.
          وفيهِ دليل على أنَّ الجهلَ لا يُعْذَرُ أحدٌ بهِ، فإنه إذا لم يُعذَرِ السائلونَ مع شدةِ مَسكنتِهم بالجهلِ فيما يلزمُهم في سؤالِهم، فكيف بغيرِهم؟.
          وفيهِ دليلٌ على أنَّ العلمَ أفضلُ الأشياءِ، إذْ بهِ يتخلَّصُّ الرفيعُ والحقيرُ(39) إذا عَمِلَ بهِ.
          وفيهِ دليلٌ على جوازِ(40) سؤالِ غيرِ المؤمنِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ ◙ : (يَسْأَلُ النَّاسَ) و(الناسُ) لفظٌ عامٌ يدخلُ تحتَه(41) المؤمنُ وغيرُه، ومن أجلِ ذلكَ كانَ بعضُ السادةِ لا يخرجُ من منزلِه(42) إلا عندَ الضرورةِ، فلا(43) يأتي إلا إلى بابِ ذميٍّ، فقيلَ لهُ(44) في ذلكَ، فقَالَ: إنِّي لا أخرجُ إلا محتاجًا، فإذا أتيتُ بابَ المسلمِ(45) فأخافُ أن يردَّني ويعودَ(46) عليهِ منِّي بلاءٌ(47)؛ لأنَّهُ مأمورٌ بإحياءِ نفسِي / فلا أريدُ أنْ يلحقَ منِّي مسلمًا أذًى(48)، والذميُّ ليس هو بي مكلفًا فإن وَاسَى رَجَوْتُ لهُ الخيرَ، وإنْ ردَّ لم يخفْ أنْ(49) يلحقَه منِّي أذًى.
          وفيهِ دليلٌ على حملِ(50) السائلينَ على التصديقِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أنَّه صلعم لم يجعلْ لغيرِهم الفرقَ(51) بينَ الصادقِ وغيرِه منهم، وجعلَ هذه وظيفتهم ووظيفةُ غيرِهم ضدَّ ذلكَ، وهوَ التصديقُ لهم على(52) مَن يقولُ إنَّ الأمرَ بالشيءِ نهيٌّ عن ضدِّه(53).
          ويُذكَرُ عن بعضِ المُباركينَ أنْ مرَّ(54) يومًا فرأى شخصًا عُريانًا يسألُ من يكسوه للهِ، فجرَّدَ ثوبًا من عليهِ(55) وأعطاهُ، وكانَ ذلك السائلُ معروفًا عندَ بعضِ الناسِ وأنَّهُ(56) كانَ يعملُ ذلكَ حيلةً، وربما يصرفُ ثمنَ ما يأخذُه فيما لا يصلحُ، فلمَّا انصرفَ ذلكَ السيِّدُ عنهُ أخبرَه شخصٌ أنَّهُ رأى(57) السائلَ في موضعٍ وليسَ عليهِ(58) الثوبُ، وأنَّه يمكن أنَّه(59) تصرَّفَ فيهِ على غيرِ لسانِ العلمِ، فتحرَّكَ ذلكَ السيِّدُ لمقَالَةِ القائلِ وسألَهُ أن يحملَه حتى يراهُ كيفَ حالُه، فلمَّا بلغَ إليهِ ورآه على تلكَ الحالةِ التي وُصِفَ بها(60) سألَه: ما فعلتَ في الثوبِ(61) الذي أعطيتُكَ؟ ـــــ وكانَ لهُ بالٌ يُساوي شيئًا كثيرًاــــ فجاوبَه بأن قَالَ لهُ: اطلبْ ثوبَك لمن أعطيتَه واتركْني مع مَن عصيتُه، فقَالَ: صدقتَ وتركَه وانصرفَ.
          إذا كنتَ في معروفِكَ صادقًا مُخلصًا،فكنْ في فضلِ مَن عاملتَه مُصدِّقًا مُخلِصًا.
          وأمَّا(62): / هل تعرفُ ما(63) الحكمةُ في كونِه يأتي يومَ القيامةِ ولا مِزْعَةُ لَحْمٍ في وجهِه؟ والمِزْعةُ هي(64) الشيءُ اليسيرُ، فمعناهُ: أنَّهُ(65) ليسَ يكونُ في وجهِه مِن الحُسْنِ شيءٌ؛ لأنَّ حُسنَ الوجهِ هو بما فيهِ مِن اللحمِ، ولذلكَ إنَّ السِّمَنَ يزيدُ الوجهَ حُسنًا، وذلكَ(66) لأنَّهُ لَمَّا(67) أذهبَ في الدنيا مائيةَ وجهِهِ _وهي ما في الوجوهِ مِن الحياءِ الموجبِ لتركِ المسألةِ_ فلمَّا أزالَه لغيرِ ضرورةٍ أذهبَ حُسنَه الحسِّيَّ في الآخرةِ؛ لأنَّ حُسنَ الحياءِ الذي في الوجهِ هو(68) معنويٌّ وحُسنُ اللحمِ حسيٌّ، والآخرةُ أمورُها كلُّها حسيَّاتٌ(69) مشاهدةٌ(70)؛ لأنَّ الحكمةَ اقتضتْ أنَّ كلَّ ذنبٍ في الدنيا لصاحبِه علامَةٌ يُعرَفُ بها في الآخرةِ وتكونُ دالَّة على ذنبِه، فيجتمعُ له(71) أمرانِ: عقابٌ وتوبيخٌ مِن أجلِ شهرتِهِ على جميعِ العالمينَ كما جاءَ أنَّ شاهدَ الزُّورِ يُبْعَثُ موْلِغًا(72) لسانَه بنارٍ(73)، وآكلُ الرِّبا مثلُ البختِ يتخبَّطُ مثلَ السكرانِ، وآكل آموالِ اليتامى يقومُ مِن قبرِه وألسنةُ النارِ تخرجُ مِن منافِسِهِ، وتعدادُ ذلكَ كثيرٌ بحسبِ ما أخبرَ بهِ الصادقُ ◙ .
          فتكونُ فائدةُ الإِخبارِ بهذا وأمثالِه التحرُّزَ مِن ذلكَ الخزيِ العظيمِ والعذابِ الأليمِ، أعاذَنا اللهُ مِنَ(74) الجميعِ بمنِّه وفضلِه لا ربَّ سواهُ، وقَالَ: حَسِّنْ لنفسِكَ في(75) العُقبَى إِن كُنتَ بَصِيرًا، واحذَرْ خِزْيَ يومٍ وجهُهُ عَبُوسًا(76) قَمْطَرِيرًا، بِتَقْوَى مَوْلًى لَم يَزَلْ عليكَ مُنعمًا شَكورًا. /


[1] في (ج) و(م) و(ل): ((قوله قال النبي)) بدل قوله: ((عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله)).
[2] في (م) و(ل): ((ما)).
[3] زاد في (ج) و(م): ((على))، و في (ل): ((ظاهر الحديث يدل على)).
[4] في (م) و(ل): ((منه)).
[5] زاد في (ج): ((أن الذي يكثر)).
[6] قوله: ((في)) ليس في الأصل (ط)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[7] في (ج): ((محتاجًا)).
[8] في (ل): ((الناس)).
[9] في (ج): ((بحكمة)).
[10] في (م): ((أو)).
[11] قوله: ((في ذلك)) ليس في (ج).
[12] في (ج) و(م): ((فالجواب أمَّا السؤال عن العلم)).
[13] قوله: ((عموم)) ليس في (م).
[14] في (م): ((من)).
[15] في (م): ((لأنَّ)).
[16] في (ج): ((عن)).
[17] في (ج): ((لأخيه حاله)).
[18] في (ج) و(م) و(ل): ((اختلف)).
[19] في (ج) و(م) و(ل): ((أيما)).
[20] قوله: ((له)) ليس في (ل).
[21] في (ل): ((فَاصبِرْ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))، والصواب هو المثبت.
[22] في (ل): ((القولين)).
[23] زاد في (م) و(ل): ((ذلك)).
[24] ليس له أصل، ((السلسلة الضعيفة)): ░1039▒.
[25] زاد في (ل): ((يبقى)).
[26] في (ج): ((شيئا أن كيف))، وفي (م): ((شيئًا أم كيف)).
[27] قوله: ((فلا يجوز)) ليس في الأصل (ط) و(ل) والمثبت من باقي النسخ، وبعده في (ج): ((فكيف)).
[28] في الأصل (ط): ((مروة قوي))، وفي (ل): ((ذمة قوي))، وفي (ج): ((سوي)) بدل قوله: ((قوي))، وفي (م): ((ولا لذي مال)) والحديث أخرجه أحمد ░6530▒، والترمذي ░652▒ من حديث عمرو بن العاص، وأخرجه أحمد ░8908▒، وابن ماجه ░1839▒، والنسائي ░2617▒ من حديث أبي هريرة.
[29] زاد في (ل): ((والحرام)).
[30] قوله: ((فإذا لا تحل له... عنه)) ليس في (ج) و(م)، وفي (ل): ((منه)).
[31] قوله: ((فالجواب أنه عام)) ليس في (ط) و(ل) و(ج)، وفي (ط) و (ل) بدلها: ((فليس))، والمثبت من (م).
[32] في (م): ((بطريق)).
[33] في (ج) و(م): ((يلقوا الخطاب لقوله)).
[34] في الأصل (ط): ((وبحث فمن))، وفي (ل): ((بحث وهو فمن))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[35] في (ل): ((وما))، وزاد في (ج): ((يزل)).
[36] في (ج): ((وهذا بالصيغة فدل على الدوام))، وفي (م): ((ما يزال وهذه الصيغة تدل على الدوام)) بدل قوله: ((ما وهي نافية.... الأمر)).
[37] في (ط): ((يحاسبوا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[38] في (م): ((أو بعد)).
[39] في (ج): ((يتحصل الرفيع والوضيع))، وفي (م): ((يتخلَّص الرفيع والوضيع)).
[40] قوله: ((جواز)) ليس في (م).
[41] في (م): ((تحت)).
[42] قوله: ((من منزله)) ليس في (م).
[43] في (ج) و(م): ((ولا)).
[44] قوله: ((له)) ليس في الأصل (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] في (ج): ((مسلم)) وليس فيه قوله: ((باب))، وتمام العبارة في (م): ((فإذا أتيت إلى باب مسلم)).
[46] في (ج): ((فيعود)).
[47] العبارة في (م): ((فأخاف يردُّني فيعود عليه من أجل ردِّي بلاء)).
[48] في (ج) و(م): ((أن يلحقه مني أذًى)).
[49] قوله: ((أن)) ليس في الأصل (ط) و(ل)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[50] في (ج): ((جهل)).
[51] في (ج) و(م): ((فرقا)).
[52] زاد في (ل): ((قول)).
[53] قوله: ((منهم، وجعل هل وظيفتهم.... ضده)) ليس في (ج) و(م).
[54] في الأصل (ط) و(ل): ((أنه خطر)) والمثبت من (ج) و(م).
[55] في (ج) و(م): ((عنه)) بدل: ((من عليه)).
[56] في (م): ((أنَّه)). وفي (ج): ((عن بعض الناس أنه)).
[57] زاد في (ج) و(م): ((ذلك)).
[58] زاد في (ج) و(م): ((ذلك)).
[59] في (ج) و(م): ((أن)).
[60] في (م): ((عليها)).
[61] في (ج): ((بالثوب)).
[62] زاد في (ج) و(م): ((قولنا)).
[63] قوله: ((ما)) ليس في (ج)، وفي (ل): ((يعرف ما)).
[64] قوله: ((هي)) ليس في (م) و(ل).
[65] قوله: ((فمعناه أنه)) ليس في الأصل (ط) و(ل) والمثبت من باقي النسخ، وبعدها في (ل): ((فليس)).
[66] في (ل): ((ولذلك)).
[67] قوله: ((لما)) ليس في (ج).
[68] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[69] في (ل): ((حسنات)).
[70] في (ج): ((والآخرة أمورها حسنة مشاهدة غالبا))، وفي (م): ((والآخرة أمورها مشاهدة غالبًا)).
[71] في (ج) و(م): ((عليه)).
[72] في (ل) و(م): ((مولعًا)).
[73] في (م): ((بالنَّار)).
[74] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[75] قوله: ((في)) ليس في (م).
[76] في (ج): ((عبوس)).