بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: هل لا استمتعتم بإهابها ؟!

          219-قوله: (أَنَّ / رَسُولَ اللهِ صلعم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ(1)...) الحديث. [خ¦5531]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ يَدُلُّ على جواز الانتفاع بجلود الميتة، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: كيف(2) الانتفاع به؟ هل ذلك عامٌّ في جميع وجوه(3) الانتفاع أو انتفاع خاصٌّ؟ فالعموم(4) في الانتفاع مِن كلِّ الوجوه ممنوع بالإجماع(5)، لأن مِن جملة الانتفاع بيعُه وأكلُ ثمنه ولم يجيزوه(6).
          ومنها: الصلاة عليه وفيه ولم يجيزوه.
          ومنها: جعل الطعام فيه ولم يجيزوه، لأنَّه يعود فعله لأكل الميتة، لأنَّ الطعام(7) إذا جعل فيه تنجَّس به، وإنَّما يكون انتفاعًا خاصًّا مِن حيث لا يلحق منه نجاسة في شيء مِن الأشياء ولا مخالطة في طعام بوجه مِن الوجوه.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على تحريم أكل الميتة، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله ◙ : (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا).
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أن ألفاظ العموم إذا ورد الأمر بها تُحْمَل على عمومها ولا تخصَّص إلا بمخصص مِن الشَّارع ◙ ، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن أنَّه لَمَّا حرِّمت علينا(8) الميتة فماتت تلك الشاة التي رآها النَّبِيُّ(9) صلعم استعمل أصحابها عمومَ الأمر بالتحريم فرمَوها بإهابها وصوفها وكلِّ أجزائها، فخصَّصَ هو صلعم (10) عموم الأمر بقوله ◙ : (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا).
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ عموم القرآن يخصَّص بالسُّنَّة، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله ◙ : (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا).
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على جواز مراجعة الآمر إذا أمر / ولم يَفهم السامع ما قصد بالأمر أو بقي عليه في بعضه إلباس(11)، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قولهم بعدما قال لهم صلعم : (هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ(12) بِإِهَابِهَا؟: إنَّها مَيِّتَة)، كأنَّهُم يقولون: يا رسول الله تأمرنا بالانتفاع(13) بإهابها وأنت قد حرَّمتها(14) علينا بأمر الله لك، وهذه الشاة ميتة فكيف يكون ذلك؟
          وفيما ذكرنا مِن معنى مراجعتهم(15) دليل على حسن اختصارهم في الخطاب، وبلاغتهم في المعنى، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن كونهم جمعوا تلك الألفاظ كلَّها في متضمَّن قولهم: (إِنَّهَا مَيِّتَةٌ).
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ الصفقة(16) إذا خالطها حلال وحرام(17)، فإنَّ كل واحد منهما يعطى حكمه، لأنَّ العلماء اختلفوا في صفقة إذا اختلط فيها حلال وحرام، فمنهم مَن قال: إنَّها كلها حرام(18)، ومنهم مَن قال: إنَّها كلها حلال(19)، ومنهم مَن قال: إنَّ قَدْر ما فيها مِن الحرام حرامٌ والذي فيها مِن الحلال حلال(20)، لأن الخُلْطَة لا تنقل حكمًا مِن الأحكام إلا في الخليطين(21) في الماشية على خلاف أيضًا، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله ◙ : (هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا) وقوله ◙ : (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) فجعل للَّحم حكمًا(22) وهو التحريم، وجعل للجلد حكمًا(23) وهو التحليل، والشاة واحدة.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ الأحكام الشرعية لا يكون تقريرها إلا بعد نفي كلِّ المحتملات، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن جوابهم لرسول الله صلعم بعد رؤيته الشاة الميتة، ولا يخفى حالها على أحد أنَّها ميِّتة، فكيف على مَنْ / كانت تنام عينُه(24) ولا ينام قلبه صلوات الله عليه وسلامه؟ لكن مِن أجل استقرار الحكم وبطريق الاحتمال أنْ يكون قوله ◙ : «هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟» مِنْ طريق الاستفهام لهم كيف معرفتهم(25) بحكم الله تعالى في الميتة جاوبوه بقولهم: (إِنَّهَا مَيْتَةٌ) لينظروا ما قصده ◙ بتلك(26) المخاطبة.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ مِن النُّبل أن يكون جواب المرء عما يُسْأَلُ عنه على قدر ما يعلم فيه، لا يتعانى خلاف ذلك بزيادة أو نقص، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن جوابهم لسيِّدنا صلعم بما سبق لهم مِن العلم في(27) أمر الميتة لا غير.
          وهنا بحث وهو: أن يقال: هل(28) أمره صلعم بالانتفاعِ بإهابها يُطَهِّرُه أو هو باقٍ على النجاسة؟
          لفظ الحديث لا يفهم منه شيء مِن هذا(29)، لكن مِن(30) حديثٍ غيرِه يُفْهَمُ أنَّه باقٍ على نجاسته، وهو قوله ◙ : (أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ) فإذا(31) لم يُدْبَغْ فهو باقٍ على نجاسته.
          وبحثٌ ثانٍ وهو: أنْ يقال: هل لنا أن نُعَدِّيَ الحكم بالانتفاع بغير ذلك مِن أجزائها؟ لقوله ◙ : «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» فيما عدا الأكل أم لا؟
          وبحثٌ ثالثٌ(32) وهو: كونه صلعم أباح لنا الانتفاعَ بإهابها وهي ميتة، هل يجوز الانتفاع بغير ذلك مِن سائر النجاسات انتفاعًا خاصًّا مثل الإهاب أم لا؟
          فأمَّا الجواب على(33) البحث هل يجوز لنا الانتفاع بباقي(34) أجزائها مثل الإهاب أم لا؟ فَأَمْرُه صلعم بالانتفاع بإهابها لا يتعدَّى / الانتفاع مِنْ أجل ذلك إلى غيره مِن أجزائها لأحد وجهين:
          (الواحد) منهما: أنَّ الحظر والإباحة والتحريم والتحليل(35) لا يكون إلا على نحو ما نصَّ عليه صلعم، لا يتعدَّى ذلك بالقياس إلا في المواضع التي علَّق هو(36) صلعم الحكم بعلَّة سَواءً(37) كانت العِلَّة نصًّا منه ◙ أو مشارًا(38) إليها على نحو ما(39) تكلَّم الفقهاء في أنواع العِلَّة الشرعية، وتعداد أنواعها(40) على ما هو مذكور في كتبهم، وما ليس يُفْهَمُ(41) له عِلَّة فيقصر الحكم فيه على ما نطق هو(42) صلعم به مثل هذا الموضع وما أشبهه.
          و(لوجهٍ الآخر): لأنَّ هذا منه صلعم رخصة لأمَّته، والرُّخص(43) لا يُقَاس عليها ولا تتعدَّى محلَّها، ونصَّ بعض الفقهاء أنَّه إذا كان للمرء ميتة وله عِلج أو كلب لصيد(44)،أو ما يجوز اقتناؤه له(45) أنَّه لا يعطيه الميتة ولا يأمر العلج بأكلها، فإنَّ ذلك مِن جملة أنواع(46) الانتفاع بها، وهو محرَّم(47)، وإنَّما يمرُّ بالعلج أو بالكلب(48) على موضع الجيفة، فإن هما تصرَّفا فيها مِن تلقاء أنفسهما فلا بأس، وإلَّا فلا يرشدهما إلى ذلك ولا يأمرهما به.
          وأَمَّا الجَوَابُ على البحث الذي معناه(49): هل نقيس(50) على الإهاب غيره مِن أنواع(51) النجاسات قياسًا على ذلك(52)؟ فالجواب عليه: كالجواب على البحث قبل، وأيضًا فلا قائل بذلك مِن العلماء(53).


[1] في (ج): ((قوله: صلعم مرَّ بشاةٍ ميتة)).
[2] في (ج): ((منها في كيفية)).
[3] قوله: ((وجوه)) ليس في (ج).
[4] في (ج): ((بالعموم)).
[5] قوله: ((بالإجماع)) ليس في (ج).
[6] في (ج): ((ولم يجيزه)).
[7] قوله: ((ولم يجيزوه، لأنه يعود فعله لأكل الميتة، لأن الطعام)) ليس في (ج).
[8] في (ج): ((عليه)).
[9] قوله: ((النبي)) ليس في (ج).
[10] في (ج): ((فخصَّ صلعم)).
[11] كذا في النسخ.
[12] في (ج): ((هلا انتفعتم)).
[13] في (ج): ((تأمرنا الانتفاع)).
[14] في (ج): ((بإهابها وقد حرمتها)).
[15] صورتها في (ج): ((اجعتهم)) والصواب المثبت.
[16] في (ط): ((الصفة)) وفي (ج): ((الصنعة)).
[17] في (ج): ((حرام وحلال)).
[18] في (ج): ((حلال)).
[19] في (ج): ((حرام)).
[20] في (ج): ((إنَّ قدر ما فيها من حرام حرام وقدر ما فيها من الحلال حلال)).
[21] في (ج): ((في خليطين)).
[22] في (ط): ((للحكم حكمة)). والمثبت من (ج).
[23] في (ط): ((وللجلد حكمة)) والمثبت من (ج).
[24] في (المطبوع): ((عيناه)).
[25] في (ج): ((معرفتكم)).
[26] في (ج): ((من تلك)).
[27] في (ج): ((فمن)).
[28] في (ج): ((إنَّ)).
[29] في (ج): ((من ذلك)).
[30] في (ج): ((لإنَّ من)).
[31] في (ج): ((وإنْ)).
[32] في (ج): ((وبحث آخر)).
[33] في (ج): ((فالجواب عن)).
[34] في (ج): ((بها في)).
[35] في (ج): ((والتحليل والتحريم)).
[36] قوله: ((هو)) ليس في (ج).
[37] كلمة: ((سواء)) ليست في (ط) و(م).
[38] في (ج): ((أو مشارٌ)).
[39] قوله: ((ما)) ليس في (ج).
[40] في (ج): ((أعدادها)).
[41] في (ج): ((وما لا يفهم)).
[42] قوله: ((هو)) ليس في (ج).
[43] في (ج): ((والرخصة)).
[44] في (ج): ((يصيد)).
[45] قوله: ((له)) ليس في (ج).
[46] قوله: ((أنواع)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[47] قوله: ((وهو محرم)) ليس في (ج).
[48] في (ج): ((بالعلج والكلب)).
[49] قوله: ((معناه)) ليس في (ج). وبعدها في (ط): ((هل تقيسوا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[50] في (ط): ((هل تقيسوا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[51] في (ج): ((غير أنواع)).
[52] في (ج): ((النجاسات أم لا)).
[53] قوله: ((وأيضًا فلا قائل بذلك من العلماء)) ليس في (ج).