بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل

          117- قوله: ((سَمِعَ النَّبِيُّ صلعم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ(1)...)) الحديث(2). [خ¦2663]
          ظاهر الحديث يدلَّ على تحريم مدح الرَّجل في وجهه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم شبَّه ذلك بالقطع أو الهلاك، وذلك ممنوع، لكن يعارضه(3) قوله ◙ في عبدالله بن عمر: «نِعْمَ الرَّجُلُ لَو كَانَ يَقُوْمُ الليلَ» وعبد الله بن عمر ☺ حاضر يسمع، وذلك تزكيةٌ له وثناء عليه، والجمع بينهما مِن وجوه:
          الأول: أنَّ ما قاله النَّبي صلعم لابن عمر لم يكن منه ابتداءً ولا جوابًا لسؤال(4) سائل، وإنَّما كان ذلك تفسيرًا لرؤيا رآها ابن عمر، فاقتضى تفسيرها ما قاله النَّبي صلعم، وذلك أنَّ عبد الله بن عمر كان يرى النَّاسَ يأتونَ إلى النَّبيِّ صلعم بِمَرَاءٍ فيفسِّرها لهم، فيتمَنَّى(5) في نفسه أنْ لو رأى رؤيا فيسأل / عنها النَّبي صلعم كما يفعل الناس، فرأى رؤيا فسأل عنها، فاقتضت رؤياه(6) أنَّه مِن الصَّالحين، لكن نقص منه كونه(7) لا يقوم الليل، وقد ثبت عنه ◙ أنَّه(8) قال: «الرُّؤْيَا مِنَ النُّبُوَّةِ» وما كان مِن النبوة فهو وحي، والوحي لا يجوز كَتمُه، فلذلك(9) أبدى ما كان هناك.
          الثَّاني: هو(10) أنَّ تعارض الحديثين يبيِّن(11) معناهما، ويفصح بالمراد في كِلَيْهما حديثان آخران وهما قوله ╕: «لَا تُزَكُّوا عَلَى اللهِ أَحَدًا، وَلَكِنْ قُولُوا: أَخَالُهُ كَذَا، أَوْ: أَظُنُّهُ(12) كَذَا» وقوله ╕: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يُواظِبُ المسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بالإيمانِ»، فيحصل(13) مِن مجموع هذه الأحاديث أنَّ(14) التزَّكية بالقطع ممنوعةٌ مطلقًا؛ لأنَّ القطع بها حكم على الغيب، والحكم على الغيب بالنسبة إلى البشر مستحيل.
          وأمَّا تزكية الشخص فلا يخلو(15) أن تكون مِن الإنسان نفسِه لنفسِه، أو مِن غيره(16).
          فإن كانت مِن الإنسان نفسِه لنفسِه(17) بأن يذكر محاسنه فهو على ضربين: مذموم، ومحمود.
          فالمذموم أن يذكره للافتخار والإظهار والارتفاع(18) والتمييز على الأقران وشِبْه ذلك، فهذا(19) لا يجوز لقوله تعالى: {فلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32].
          والمحمود: أن يكون فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمرًا بالمعروف أو ناهيًا عن المنكر، أو ناصحًا، أو مشيرًا لمصلحة(20)، أو معلِّمًا، أو مؤدِّبًا، أو واعظًا أو مُذَكِّرًا، أو مصلِحًا بين اثنين، أو يدفع عن نفسه شرًّا، أو نحو ذلك(21)، فيذكر محاسنه ناويًا بذلك أن يكون هذا أقرب إلى قبول قوله واعتماد ما يذكره، أو أن(22) هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاتعظوا(23) به ونحو ذلك(24).
          وإن كانت مِن غيره، فلا يخلو أن تكون في وجه الممدوح أو بغير حضوره، فأما الذي في غير حضوره فلا منع منه إلا أن يجازف المادح فيدخل في الكذب، فيحرم عليه بسبب الكذب لا لكونه مدحًا، ويستحبُّ هذا المدح الذي لا كذب فيه إذا ترتبت عليه المصلحة(25) ولم يَجُرَّ إلى مفسدة بأن يبلغ الممدوح فَيُفْتَتَنُ به أو غير ذلك(26).
          وأما المدح في وجه الممدوح(27) فلا يخلو أن يكون تزكية له(28) عند الحاكم، لكي يقبل شهادته أم لا، فإن كانت كذلك فهي جائزة امتثالًا لأمر الشَّارع ◙ في ذلك، وإن كانت لغير ذلك فهي الممنوعة في الحديث.
          ولأجل هذا المعنى قال ╕: «ولكنْ قُولُوا: أَخَالُه كَذَا، أَوْ أَظُنُّه كَذَا» فنفى التزَّكية مرَّة واحدة وأثبت الظن، لأنَّ عمله يقوِّي الظَّن؛ بأنَّه مِن أهل الخير والصلاح، وأمَّا حقيقة أمره فهي إلى الله تعالى، ولأجل هذا المعنى قال ╕: «مَنْ مَاتَ عَلَى خَيْرِ عَمَلِهِ فَارْجُو لَهُ خَيْرًا، وَمَنْ مَاتَ / عَلَى شَرِّ عَمَلِهِ فَخَافُوا عَلَيْهِ ولَا تَيْأَسُوا»، فأمر ◙ بالرَّجاء في الرَّحمة لمن مات على خير العمل، و لم يخبر بأنَّ مَن مات على ذلك كان مِن أهل الرَّحمة على كل حال، هذه هي التزكية الممنوعة.
          وأمَّا الشَّهادة: فهي جائزة؛ لأنَّها لا تتناول إلَّا ما وقع من الفعل؛ لأنَّه ◙ قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يُواظِبُ المسجدَ فاشْهَدُوا لهُ بالإيمانِ»، فالشَّهادة إنَّما وقعت على شيء وُجِد حسًّا، والفعلُ الحسِّيُّ الذي(29) ظَهَرَ دليلٌ على الإيمان، وعلَّة الاعجاب فيها معدومة؛ لأنَّها شهادة بالأصل وهو الإيمان.
          الثَّالث: أن(30) معنى النَّهي عن مدح(31) الرجل في وجهه: هو خوف الاغترار والإعجاب، وهو ممنوع شرعًا(32)، ومما يؤيِّد هذا قوله ╕: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُو أَشَدُّ وهُو الإعجابُ»؛ ولهذا قال ╕: «احْثُوا(33) التُّرَابَ في(34) وُجُوهِ المدَّاحِيْنَ» ومعناه: احرموهم مما أرادوا لئلا يزيدوا في المدح، فيقع الإعجاب بمدحهم، وهذا المعنى الذي أشرنا إليه قد أهمله اليوم جُلُّ النَّاس، وعملوا على مقتضى النَّهي وارتكبوه، فكثر المدح عندهم(35) بعضهم لبعض في الظَّاهر مع الضَّغائن في النُّفوس، وعداوة بعضهم لبعض في الباطن، وجعلوا نفس ارتكاب النَّهي مِن النُّبل والكَيس، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
          ولكنَّ الوقت يقتضي هذا الأمر؛ لأنَّ الشَّارع ◙ أخبر بذلك، فما لنا حيلة في زواله؛ لأنَّه ◙ قال: «يَأْتِي / فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ إِخْوانُ العَلَانيةِ، أَعْدَاءُ السَّرِيْرَةِ» قيل: وكيف يكون ذلك(36) يا رسول الله؟ قال: «يكونُ بِرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ مِنْ(37) بَعْضٍ، ورغبةِ بَعْضِهِمْ في بعضٍ(38)»، فالحذر الحذر من نُبْلٍ وكَيْس قد ذمَّه الشَّارع ◙ ، وجعله دالًّا وعَلَمًا على قيام السَّاعة.
          فإذا كان المراد بالنَّهي عن المدح خوفَ الإعجاب، فقد يكون النَّبي صلعم قد أطلعه الله على حال هذا الرَّجل الممدوح، وعَلم منه بأنَّه يَهلك بذلك الإعجاب بما(39) يقال فيه.
          وقد يَحتمل أن يكون ذلك مِنه ◙ سدًَّا للذَّريعة، وهذا موجود حسًّا؛ لأنَّ النَّاس لم(40) يتساووا في هذا المعنى، فمنهم مَن إذا ذُكِر له شيء مِن ذلك اغْتَرَّ ورأى أنَّ ذلك مِن فعله وقوَّته، ومنهم مَن إذا سمع شيئًا مِن ذلك ازداد خوفًا مِن الله وإشفاقًا، وعاين مِنَّة الله عليه(41) بتوفيقه إيَّاه لِمَا مُدح به(42)، فيزداد خيرًا إلى خيره، فيزيد في العمل شكرًا لله ╡ الذي جعله مِن أهل الخير، ولم يجعله مِن أهل الشَّر، كما كان ذلك الإخبار سببًا إلى زيادة التَّعبُّد والخير(43) لعبد الله بن عمر؛ لأنَّه روي(44) أنَّه منذ قال له النَّبي صلى الله وسلم ما قال له(45)، لم يترك بعدُ قيام الليل، وكذلك أيضًا قوله ◙ لسيِّد الوفد مِن بني(46) عبد القيس: «فِيْكَ خَصْلَتَانِ(47) يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ، الْحِلْمَ والأَنَاةُ(48)»، فقال الرَّجل: ذلك مني أو مِن شيء جَبَلني الله عليه؟ فقال ╕: «بَلْ مِنْ شَيءٍ جَبَلَكَ اللهُ عَلَيْهِ» / فقال الرجل: الحمد لله الذي جبلني الله على ما يحبه(49) الله ورسوله. فحمد الله على ما أولاه مِن ذلك وشَكَرَ.
          فقد يكون النَّبي صلعم قد أطلعَه الله ╡ على حال هذا السَّيد، فعَلم أن إعلامه بذلك يزيده خيرًا، فأعلمه كما تقدَّم ذلك في الأول، فعلى هذا فالمادح لا يخلوا أن يكون مِن أهل البصائر أم لا، فإن كان مِن أهل البصائر، فينظر أولًا في باطن الرَّجل، حتَّى يعلم مِن أيِّ الأقسام هو، فإنَّ رأى الأخبار له يزيده(50) خيرًا إلى خيره فعل ذلك، وإن رأى ضد ذلك ترك الأمر.
          وإن كان مِن غير أهل البصائر، فلا يجوز له المدح مرَّة واحدة، وشأنه العمل على حديث النَّهي، وإن كان يغلب على ظنِّه أنَّ صاحبه ممن لا يُغْتَرُّ بمدحه، فلا يجوز أيضًا؛ لأنَّ النَّهي عامٌّ، وإنَّما خصَّصنا مِنه(51) البصائر للمعنى الذي ذكرناه، وهو اطلاعهم على حقيقة الأمر بالمكاشفة(52).
          ثم إنَّ(53) هذه التزَّكية التي نهى الشَّارع ◙ عنها(54)، إنَّما هي تزكية نفس الشَّخص، وأمَّا تزكية(55) الأعمال فلا بأس بذلك، بل هي مندوبةٌ، بدليل حديث السِّقاية الذي قال ◙ فيه(56): «اعْمَلُوا، فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صالحٍ»، فمدح لهم الفعل، ولم يمدح لهم أنفسهم؛ ولأنَّ مدح العمل ليس مِن قَبِيل مدح الشَّخص؛ لأنَّ مدح العمل يزيد لصاحبه الحرص على(57) الزِّيادة في العمل، فيكون ذلك سببًا إلى زيادة الخير(58)، ومدح الشَّخص نفسه(59) يدخله ما قدَّمناه مِن الإعجاب.
          وفي الحديث دليلٌ على جواز الكلام والتَّحدث بحضرة أهل الفضل؛ لأنَّ الصَّحابة رضوان الله عليهم(60) كانوا يتحدَّثون، / والنَّبي صلعم يسمعهم.
          وقوله صلعم (61): (أَهْلَكْتُمْ _أَوْ: قَطَعْتُمْ_ ظَهَرَ الرَّجُلِ) هذا شكٌّ مِن الرَّاوي في أيِّهما قال عليه السلام، وبالله التوفيق.


[1] زاد في (م): ((أهلكتم الرجل، وقطعتم ظهر الرجل))، وقوله بعدها: ((الحديث)) ليس في (م).
[2] قوله: ((الحديث)) ليس في (م).
[3] في (ط): ((يعارضنا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ج): ((بالسؤال)).
[5] في (ج): ((ويتمنى)).
[6] في (ل): ((رؤيته)).
[7] في (م): ((أنه)).
[8] في (ج): ((أنه ◙)).
[9] في (ل): ((فكذلك)).
[10] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[11] في (ج): ((أن يعارض الحديثين تبين)).
[12] في (ج): ((وأظنه)).
[13] في (ل): ((فتحصل)).
[14] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[15] العبارة في (ل): ((مستحيل وأما التزكية بحسب الأعمال فلا يخلو)).
[16] في (ل): ((أو لغيره)).
[17] قوله: ((أو من غيره، فإن كانت من الإنسان نفسه لنفسه)) زيادة من (م) على النسخ.
[18] في (م): ((وإظهار الارتفاع)).
[19] قوله: ((بأن يذكر محاسنه فهو على ضربين مذموم ومحمود فالمذموم أن يذكره للافتخار والإظهار والارتفاع والتمييز على الأقران وشبه ذلك فهذا)) ليس في (ل)، وبعدها في (ل): ((فلا يجوز)).
[20] في (م): ((بمصلحة)).
[21] في (ج): ((ويجوز ذلك)).
[22] في (ج): ((واعتمادها بذكره وأن)).
[23] في (م): ((فاحتفظوا)).
[24] قوله: ((والمحمود أن يكون فيه)) إلى قوله: ((به ونحو ذلك)) ليس في (ل).
[25] في (م): ((مصلحة)).
[26] قوله: ((وأما تزكية الشخص فلا يخلوا...)) إلى قوله: ((...بأن يبلغ الممدوح فَيُفْتَتَنُ به أو غير ذلك)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى. والذي في (ط): ((وأما التَّزكية بحسب الأعمال، فلا يخلو أن تكون من الإنسان نفسه لنفسه، أو من غيره، فإن كانت من الإنسان نفسه لنفسه، فلا يجوز لقوله تعالى: {ولَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]، وإن كانت من غيره)).
[27] قوله: ((من غيره فلا يخلو أن تكون في وجه)) إلى قوله: ((وأما المدح في وجه الممدوح)) ليس في (ل).
[28] قوله: ((له)) ليس في (م).
[29] زاد في (م) و (ل): ((قد)).
[30] قوله: ((الثالث أن)) ليس في (م).
[31] في (ل): ((المدح)).
[32] قوله: ((وهو ممنوع شرعا)) ليس في (ل).
[33] في (م): ((احثُ)).
[34] في (ل): ((على)).
[35] العبارة في (ل): ((مقتضى النهي وارتكبوا المدح عندهم)).
[36] قوله: ((ذلك)) ليس في (ل).
[37] في (ط) و (ل): ((في)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[38] في (ط) و (ل): ((لبعض))، وفي (م): ((من بعض)) والمثبت من (ج).
[39] في (ج): ((لإعجابه لما))، وفي (م): ((لإعجابه بما)).
[40] في (ل): ((لا)).
[41] قوله: ((عليه)) ليس في (ج).
[42] قوله: ((به)) ليس في (ج).
[43] في (م): ((تعبد وخير)).
[44] قوله بعدها: ((أنه)) ليس في (ج) و (ل).
[45] قوله: ((له)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[46] في (ج) و(م): ((◙ لأشجِّ)).
[47] في (ج): ((إن فيك خصلتين))، وفي (م): ((إن فيك خصلتان)).
[48] قوله: ((الحلم والأناة)) ليس في (ل).
[49] في (ج) و(م): ((على خصلتين يحبهما)).
[50] في (ل): ((يزده)).
[51] زاد في (ل): ((أهل)).
[52] في (ج) و(م): ((كما تقدم ذلك في الأول، والمدح في وجه الممدوح قد جاءت أحاديث تقتضي إباحته أو استحبابه، وأحاديث تقتضي المنع منه، قال العلماء: وطرق الجمع بين الأحاديث أن يقال: إن كان الممدوح عنده كمال إيمان، وحسن يقين، ورياضة نفسٍ، ومعرفة تامة بحيث لا يفتتن ولا يغتر بذلك ولا تلعب به نفسه فليس بحرام ولا مكروه، وإن خيف عليه شيء من هذه الأمور مُنِعَ من ذلك)).
[53] قوله: ((إن)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[54] قوله: ((عنها)) ليس في (م).
[55] في (ج) و(م): ((مدح)).
[56] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[57] في (ل): ((في)).
[58] قوله: ((إلى زيادة الخير)) ليس في (ل).
[59] قوله: ((نفسه)) ليس في (ل).
[60] في (م): ((عنهم)).
[61] قوله: ((صلعم)) ليس في (م) و (ل).