بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده

          136- قوله(1): قَالَ النَّبِيُّ صلعم : (مَن احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِيمَانًا بِاللهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ(2)...) الحديثُ. [خ¦2853]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ مَن احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده، فكلُّ أَكْلِ الفرس وتصرُّفه حسناتٌ وأجور في ميزان صاحبه يوم القيامة، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأول: قوله ╕: (مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللهِ) يريد(3): مَن حبسه بنيَّة جهاد العدو لا(4) يريد غير ذلك.
          وفيه دليل على تأكيد النيَّة في احتباسه لذلك لأنه أتى فيه بلفظ: / (احْتَبَسَ) التي هي مِن أبنية المبالغة كافتعل ولم يقل: حَبس، إشارة منه ◙ إلى تأكد النيَّة في هذا الفعل وإزالة الشوائب عنها(5)، والمعنى في ذلك(6) أنَّ الفرس مِن جملة الزينة والترفُّه ومما جبلت النفس على محبة ركوبه والتصرُّف عليه ومما يتفاخر الناس به(7) ويتباهون.
          وفيه أشياء عديدة في هذا المعنى، فلمَّا أن كان في حبسه هذه الوجوه والغالب هي، أشار(8) ◙ إلى إخلاص النيَّة إذا قصد به الوجه الذي أراد ◙ حذرًا لئلا يظنَّ المرء أنَّ فعله ذلك لله، وليس له ذلك لِمَا يطرأ عليه مِن الشوائب في نيته.
          الثاني: قوله ╕: (إِيمَانًا بِاللهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِه) الإيمان: هو الإيمان بالله تعالى والتحقُّق بوجوده(9)، وينوي بفعله(10) ذلك لله لا لغيره، والتصديق: هو أن يصدِّق فاعل ذلك بما(11) سمع عن الله مِن إحسانه وإنجاز وعده الجميل على ذلك الفعل لا يشكُّ فيه إن حصل منه الفعل على مراد الشارع ◙ .
          الثالث: قوله ╕: (فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ(12) فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ القِيامَةِ) يريد(13): أنَّ كلَّ ذلك يكون له يوم القيامة حسنات في ميزانه زيادة(14) على العمل، وهو حبس الفرس، وقد جاء في حديث غير هذا على ما يأتي بعد: «ولو أنَّها(15) استَنَّتْ شَرَفًا أو شَرَفَين كانَ ذَلِكَ في ميزانِهِ يومَ القيامةِ»، والمعنى في(16) ذلك أنَّ هذا الذي احتبس فرسًا في سبيل الله قد حصل له مِن(17) الأجر على فعله / ذلك، وبقي إطعامه والنظر في مصالحه فعلًا زائدًا(18) على الاحتباس فكان له ذلك الأجر(19) المذكور لأجل هذه الطاعة الثانية التي فعل لقوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] تفضُّلًا منه ╡ على عباده وتعطُّفًا.
          الرابع: فيه دليل لأهل السُّنَّة في تحقيق الميزان يوم القيامة، وهو موجود(20) هناك محسوس على صورة الميزان المعهود هنا، لأن النَّبيَّ صلعم أخبر أنَّ كلَّ ما ذكر عن الفرس يكون في ميزان صاحبه يوم القيامة ولا يقع الخطاب إلا على ما يُعرف هنا ويُعهد مثلُه هناك، لكن بينهما فرق، وهو أن صفة الوزن عكس الوزن في الدنيا، فإنَّ الثقيل يصعد إلى فوق، والخفيف ينزل إلى أسفل(21).
          الخامس: فيه دليل(22) لأهل السُّنَّة في قولهم: بأن(23) الحسنات توجد(24) يوم القيامة جواهرَ محسوسات(25) تُوزن وترجح كانت الحسنات هناك محسوسة أو معنوية(26) لأنْ ما ذكر ◙ حسنات، وقد أخبر أنَّها توزن(27) يوم القيامة لكن ثقل الحسنات هناك ورجحانها(28) إنما يكون بحسن(29) النيَّة فيها وعلى قدر حسن النيَّة(30) في العمل يكون ثقل الحسنات التي(31) يُثَاب عليها، وبالنظر إلى هذا المعنى ترجع جميع الحسنات هناك معنوية: لأنَّه لا يكون قبول الحسنة إلا بتقديم النيَّة، والنيَّة مِن جملة المعاني، وقد زاد الشارع ◙ لهذا بيانًا في حديث آخر حيث قال: «أوقعَ اللهُ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نَيَّتِهِ» فكان ثقل الحسنة بحسب قوة(32) المعنى.
          الوجه(33) السادس: فيه دليل على أنَّ هذه الحسنات المذكورة في الحديث تبقى ولا(34) يدخلها / ما يدخل لغيرها مِن باقي(35) الحسنات؛ لأنَّه ◙ قال في هذه الحسنات: أنَّها(36) تكون في ميزان صاحبها يوم القيامة، ولا يكون في الميزان إلا ما قد قُبِل(37)، والذي يدخل لغيرها هو ما روي أنَّ بعض الحسنات تُرَدُّ(38) ولا تُقبَل، وبعضها يأخذها المظلومون فيما بقي لهم مِن التبعات، وبعضها تقدَّم(39) لصاحبها في هذه الدار، ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا(40) آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة:201]، قال المفسرون: معناه: أن يقدَّم له ثواب بعض(41) حسناته في بعض(42) هذه الدار، فكان قوله ◙ : (فِي مِيزَانِهِ) تخصيصًا(43) على كسب هذه الحسنات التي ذكر، إذ إنَّها(44) يجدها صاحبها أحوج ما يكون إليها في ذلك الموضع؛ لأنَّه أحوج ما يكون العبد هناك.
          السابع: هل(45) الحديث مقصور على الفرس لا غير أو هو عام في كل ما يشبهه مِن أفعال البر(46) ؟ الكلام عليه(47) كالكلام على تعدِّي الحديث المتقدِّم لغيره، أو قصره على ما جاء بالنص(48) فيه.
          الثامن: فيه دليل على أنَّ الأعمال تنقسم قسمين، دنيوي(49) وأخروي، والنيَّة هي الفارقة بينهما وقد يرجع ما هو للآخرة للدنيا(50)، وقد يرجع ما هو للدنيا للآخرة بحسب النيَّات في ذلك؛ لأنَّ الفرس(51) مما يتَّخذ(52) لِمَا ذكرناه مِن الوجوه التي هي للدنيا(53) وزينتها، وقد قال تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] فإذا صُرِفت النيَّة فيه إلى / الجهاد رجع للآخرة خالصًا(54)، وكان فيه مِن الثواب ما تقدَّم ذكره، ثم كذلك بتلك النسبة في سائر الأعمال.
          ومثال ذلك في الطرف الآخر(55) طلب العلم الذي هو للآخرة فإذا قصد به صاحبه التباهي والشهرة يُقَالُ لهُ يوم القيامةِ: ((إنما فعلتَ ذلكَ لِيُقالَ، فقد(56) قِيْلَ))، فَهُوَ أوَّلُ مَنْ(57) تُسعَّر به النارُ يومَ القيامةِ على ما جاء في ((الصحيح))، وإلى هذا المعنى أشار ◙ بقوله: ((فَمَنْ(58) كَانَتْ هِجْرَتُهُ(59) إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ(60)، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))، فكذلك(61) في جميع الأعمال دقَّتْ أو جلَّتْ.
          وبهذا المعنى فضَل أهلُ الصوفية(62) غيرَهم؛ لأنَّهم جعلوا كلَّ تصرفاتهم لله وبالله حتَّى إنَّهم لم يتركوا لأنفسهم فعلًا مباحًا إلا أنهم يترددون بين واجب ومندوب، وأكَّدوا الواجب(63) بحسن النية فيه بالإيمان والاحتساب، وأخرجوا المباح إلى المندوب؛ لأنَّهم اتخذوه عونًا على الطاعة، وأحضروا النية في ذلك مع تكرار الأعمال والأنفاس فَصَفَوا حتَّى تسمَّوا بالصَّفوة، وهو فضل الله يؤتيه مَن يشاء.


[1] في (م): ((عن أبي هريرة يقول)).
[2] قوله: ((فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ)) زيادة من (م) على النسخ.، وقوله بعدها: ((الحديث)) ليس في (م).
[3] قوله: ((يريد)) ليس في (ج)، وفي (م): ((معناه:)).
[4] في (ل): ((ولا)).
[5] قوله: ((وفيه دليل على تأكيد النية... وإزالة الشوائب عنها)) ليس في (ج) و(م).
[6] في (ج) و(م): ((والمعنى فيه))، و قوله بعدها: ((أن)) ليس في (م).
[7] قوله: ((به)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] زاد في (م): ((إليه)).
[9] في (ج) و(م): ((الإيمان هو التصديق والتحقيق بوجود الله)).
[10] في (ل): ((بفعل)).
[11] قوله: ((بما)) ليس في (ج).
[12] قوله: ((وروثه وبوله)) ليس في (ل).
[13] في (ج) و(م): ((معناه))، وقوله: ((كل)) ليس في (م).
[14] قوله: ((زيادة)) ليس في (م).
[15] قوله: ((أنها)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] قوله: ((المعنى في)) ليس في (ج).
[17] قوله: ((من)) زيادة من (ج) على النسخ.
[18] في (ج) و(م): ((فعل زائد)).
[19] قوله: ((على فعله ذلك وبقي إطعامه والنظر في مصالحه فعلًا زائدًا على الاحتباس فكان له ذلك الأجر)) ليس في (ل).
[20] في (م): ((ولا يقع الخطاب إلا على ما يعرف)).
[21] قوله: ((لكن بينهما فرق وهو أن... والخفيف ينزل إلى أسفل)) ليس في (ل).
[22] في (م): ((دلائل)).
[23] في (ل): ((أن)).
[24] قوله: ((توجد)) ليس في (ج)، وفي (م): ((بأن الحسنات توزن يوم القيامة وترجح)).
[25] قوله: ((جواهر محسوسات)) ليس في (ج) و(م).
[26] قوله: ((كانت الحسنات هناك محسوسة أو معنوية)) ليس في (ج) و(م)، وبعدها في (ط): ((لأجل)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[27] قوله: ((توزن)) ليس في (ج).
[28] في (ل): ((ورجحها)).
[29] في (ل): ((لحسن)).
[30] قوله: ((فيها وعلى قدر حسن النية)) ليس في (ج).
[31] في (م): ((الذي)).
[32] في (م): ((وكان بمثل قوة)).
[33] قوله: ((الوجه)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[34] في (ل): ((فلا)).
[35] في (ل): ((باب)).
[36] في (م): ((إنما)).
[37] في (م) و (ل): ((قيل)).
[38] في (ج): ((ترتد)).
[39] في (ل): ((يقدم)).
[40] قوله: ((ربنا)) ليس في (ل).
[41] في (م): ((بعض ثواب)).
[42] قوله: ((بعض)) زيادة من (ج) على النسخ.
[43] في (ج) و(م) و (ل): ((تحضيضاً)).
[44] في (ج) و(م): ((آدابها)).
[45] في (ل): ((هذا)).
[46] قوله: ((البر)) ليس في (ج).
[47] قوله: ((عليه)) ليس في (م).
[48] قوله: ((بالنص)) ليس في (ل).
[49] في (ج) و(م): ((دنياوي)).
[50] في (ل): ((بالدنيا)).
[51] زاد في (ل): ((هو)).
[52] في (ج): ((تتخذ))، وفي (م): ((لما تتخذ)).
[53] في (م): ((في الدنيا)).
[54] في (ل): ((صرفا)).
[55] قوله: ((في الطرف الآخر)) ليس في (ل).
[56] في (م): ((وقد)).
[57] في (ج): ((ما))، وفي (م) و (ل): ((هو أول ما)).
[58] في (ل): ((أشار بقوله ◙ من)).
[59] في (ج): ((هجرة)).
[60] قوله: ((فهجرته إلى الله ورسوله)) ليس في (ج).
[61] في (م): ((فذلك)).
[62] في (ل): ((الصوفة)).
[63] زاد في (م): ((فيه)).