بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننبذ فيه

          274-قولها(1): (مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ، فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا...) الحديثَ(2). [خ¦6686]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ الدِّباغَ يُطهِّر جلدَ الميتة، ويجوز استعماله والانتفاع به. وَالكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: هل هَذا التَّطهير تطهير عامٌّ أو في وجوه مخصوصة؟ وَهل الانتفاع به عامٌّ أيضاً أو خاصٌّ؟
          أمَّا(3) قولنا: هل الطَّهارة فيه عامَّة أو خاصَّة(4)؟ ففيه خلاف بين العلماء، وإن كان اللَّفظ محتمِلاً لذلك، فمذهب(5) مالك ومَن تبعه أنَّها خاصَّة، ومذهب الشافعيِّ ومَن تبعه أنَّها عامَّة، ويقوِّي مذهبه في ذلك بقوله صلعم في حديثٍ غيره: «أيُّما / إهابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُر(6)».
          وأمَّا قولنا: هل الانتفاع به عامٌّ في كلِّ الوجوه أو خاصٌّ؟ ففي ذلك خلاف، فمذهب الشَّافعي ومَن تبعه أنَّ الانتفاع به عامٌّ في كلِّ الوجوه، وبيعُهُ جائز، ومذهب مالك ومَن تبعه أنَّ الانتفاع به خاصٌّ في اليابسات، وَلا يُسْتَعمل في المائعات إلَّا في الماء وَحدَه، ومِن(7) أجل هَذا الحديث جعل(8) قولها: (فَنَنْبِذُ فِيهِ) مبيِّناً ومخصِّصاً للوجه الذي يُستعمل فيه، وَعند الشافعي كونهم استعملوه لأن ينبذوا فيه بحكم الوفاق، وأنَّ ذلك لا يُعْتَبر.
          وفيه دليل عَلى أنَّ تملَّك المال وَاقتناء الماشية لا يُخرج عَن(9) الزهد، لأنَّ سيِّدنا صلعم قُدوَتُهم، وَقد كانتِ الشَّاة عندهم حتَّى(10) ماتت حتفَ أنفها، وفيه ردٌّ عَلى مَن يزعم أنَّ الزهد إنَّما هو بالخروج عَن جميع ما يُتملَّك، وَهذا تحكُّم بغير دليل. وَقد بَيَّنَ صلعم هذا أتمَّ بيان بقوله: «ليس الزُّهد بتحريمِ الحَلَالِ، وإنَّما الزُّهْدُ(11) بأنْ تَقْطَع الإياس ممَّا في أيدي النَّاس، وأن تكونَ بما في يدِ اللهِ أَوْثقَ منك بما في يدِكَ(12)» أو كما قال ◙ .
          فحقيقة الزهد أمر قلبي، والإشارة في ذلك حتَّى لا يكون في القلب ميلٌ إلى الدنيا ولا إلى حطامها(13)، وإن كان في يدك منها شيء كَما قيل في وصف القوم: استوى عندهم مَدَرُها وذَهَبُها وَفِضَّتُها وجَميعُ متاعها، أي(14): إنَّهم لا يبالون بشيء مِن ذلك، وإن تصرَّفوا(15) فيها فبحسب امتثال الأمر.
          كما ذُكر عَن بعض السَّادة أنَّه كان له غنمٌ وبقرٌ، فسمع بعض النَّاس عنه فأتى لزيارته، فدخل عليه / والغنم التي كانت له والبقر قد خرج(16) بِها الرُّعاة، وهو مشمِّر يجعل العجاجيلَ في بيتٍ ويغلقُ عليها، وسِخَال الغنم في بيت ويغلقُ عليها، وهو يرمي لدجاجٍ كانت عنده علفها، فقال الشَّخص في نفسه: هذا الذي يُوصف بالزُّهد، وهو يحرص عَلى الدنيا بمثل هذا الحرص؟! فرفع إليه رأسه وقال: يا بُنَيَّ ليس هذا هو الحرصُ(17)، وإنَّما أنا أرفق بهؤلاء الضِّعاف، فإنَّ أمَّهاتهم قَد خرجوا وهم لا يطيقون المشيَ معهم، وهؤلاء أعطيهم قُوتَهم، فإنَّي عنهم مسؤولٌ، وأخبره بأشياء كانت في خاطره؛ فاستحيا ذلك الشخص، وحصل له حالٌ مبارك.
          وإنَّما هَرب مَن هَرب مِن رؤية حطامها وتملُّكه لأنَّه رأى نفسه أنَّه لا يَقْدِر أن يُعرِض عمَّا في يده، فتركه مِن أجل تلك العلَّة، هَذا حال غير المتمكِّنين(18)، وأمَّا مَن تركه وَهو يظنُّ أنَّ ذلك عينُ الزهد فليس الكلام عليه، قد(19) أقمنا عليه الحُجَّة قبلُ(20).
          وفيه دليل عَلى أنَّ(21) مِن السُّنَّة تنميةُ المال، يُؤخذ ذلك مِن أخذهم جلد الشَّاة ودبغه، ولم يتنزَّهوا(22) عنه مع كثرة كرمهم، _صلعم (23) ورضي الله عنهم أجمعين_ وقد جاء هذا نصَّاً(24) منه ◙ (25) بقوله: «إنَّ الله نهاكُم عَن إضاعةِ المالِ وكَثْرةِ السؤال والقِيلِ والقالِ» أو كما قال ◙ .
          وفيه دليل على أنَّ مِن السُّنَّة استعمالُ أثر الحكمة إذا قُدِر عليها، يُؤخذ ذلك مِن قولها: / (نَنْبِذُ فِيهِ) فإنَّ ذلك ممَّا يوافق هواهم، فهذا استعمال أثر الحكمة. وَقد كان صلعم في وقت غير هذا يقعد الشَّهر والشَّهرين، وليس لهم طعامٌ إلَّا الأسودَين التَّمر والماء.
          ويترتَّب على هذه الآثار(26) المختلفة عنه صلعم في تطوير أحواله المباركة أنَّ السنَّة إذا وجد العبد بما يفعل به أثر الحكمة أن(27) يستعمل مِن الأطعمة والأشربة(28) ما يُصلح به مزاجه، لأنْ يكون(29) ذلك عوناً له عَلى عبادته(30)، لأنَّ ذلك الأقربَ إلى الله ╡ وهو في(31) ذلك متَّبع للسُّنَّة، وإذا لم يجد على ذلك قُدْرة لا يشغل نفسه بطلب ذلك والاهتمام به، رضاءً(32) بما تيسر له(33) في الوقت مِن رخاء وشدَّة، ويوافق في ذلك القدر بالتسليم والزُّهد(34) والرِّضا، ويعلمُ أنَّ القدرة قد تبلغُهُ بغير أثر الحِكمة أكثر ممَّا يبلغ به(35) أثرُ الحكمة في ذلك النَّوع، بحسب ما جَرَت به العادة له أو مثل ذلك أو أقلَّ، لا تتوقَّف قدرةُ القادر عَن شيء عجزاً وَلا بخلاً.
          وفي هذا دليل لأهل السُّلوك في اقتدائهم العجيب الذي لا يقدر أحدٌ أن يضاهيهم(36) فيه، ومما حُكي في ذلك أنَّ بعضهم مَرِض بإنزال(37) الدَّم فعجز عَن مُداواةِ أمر نفسه، وَكان له أخ في الله مبارك(38)، وكان قادراً عَلى وَقْفه(39)، فوقع له أن يمشي(40) إليه، ويكون(41) مرضه عنده، فلمَّا دخل عَليه فرح به، فأوَّلُ طعام قدَّم لَه لحماً بخَلٍّ، فَقال في نفسه: وكيف يوافق هذا لمثلِ هَذه الشِّكاية مِن طريق أثر الحكمة؟ ثمَّ قال لنفسه: / القدرة صالحة(42)، وأنتَ قد أتيتَ إليه مِن أجل الله، فلا تردَّ(43) عليه ولا تمتنع عمَّا يسوقُ لك، فهو أبصرُ. فأكَلَ ذلك الطَّعام وبقي أياماً متواليات لا يأتيه إلَّا بذلك الطَّعام أو ما هو مثله ممَّا هو مخالف لشكايته، وشكايتُهُ كلَّ يوم تنقص حتَّى برئت(44) في أقرب زمان، وحينئذٍ رفع عنه أكل طعام الخلِّ.
          وفيه دليل عَلى جواز دوام أكل(45) الطيِّب مِن الطَّعام إذا وُجد، وليس بمنافٍ للزُّهد ولا للعبادة. يُؤخذ ذلك مِن قولها: (مَا زِلْنَا نَنْبِذُ) فدلَّ ذلك عَلى دوام الانتباذ(46) وَهو مِن أطيب شرابهم بحسب أهوية بلادهم، وقد جاء عنه صلعم أنَّه كان يأكل الطيِّب مِن الطَّعام(47) في وقته، والغليظ منه(48)، وَلم يذمَّ قطُّ طعاماً.
          وفيه دليل على جواز تخصيص بعض الأواني ببعض الأطعمة، إذا رأى صاحبها في ذلك مصلحة. يُؤخذ ذَلك مِن قولها: (مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا) أي: بالياً، فدلَّ ذلك عَلى اتِّخاذهم ذلك الجِلْد للانتباذ وتخصيصه به(49) ودوام ذلك حتَّى صار بالياً.
          وفيه دليل على جواز إضافة الشيء إلى الشخص بأدنى ملابسةٍ ما. يُؤخذ ذلك مِن قولها: (شَاةً لَنَا) و(مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ) بصيغة الجمع، والشَّاة إنَّما(50) كانت لصاحب البيت أوْ لها، فلمَّا كان كلُّ ما يكون في البيت، وإن كان الذي يملكه وَاحداً لكن تعود المنفعة فيه على الكلِّ، حصَل فيه بلازم جريِ العادة اشتراك ما، فجاز أن يُضِيفَهُ الشَّخص إلى نفسه مع الذي هو مالك له.
          وفيه دليل / على أنَّ المصائب تصيب الرَّفيع والوضيع في المال والنَّفس. يُؤخذ ذلك مِن موت هذه الشَّاة، وهي في مِلْك سيِّد الأوَّلين وَالآخرين، فإنَّ ذلك إصابةٌ في المال(51)، وَقد كان صلعم يُصاب في بدنه باعتراض الأمراض، وَهذا ترفيع له في الدَّرجات، وَقد قال صلعم : «إنَّ الله يبغض العفريت النِّفْرِيتَ(52) الَّذي لم يُرْزَأْ في بدنِهِ وَماله» أو كما قال صلعم (53). وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] وقال ╡ : {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156-157].
          فقد بانتْ فائدة الامتحان في الأموال والأبدان بالكتاب والسُّنَّة. والحكمة في ذلك ليَمِيز الله الخبيث مِن الطيِّب. وقد كان بعض الرِّجال يقول: أحبُّ(54) المرض لتُكفَّرَ(55) ذنوبي، وأحبُّ الموت من أجل لقاء ربِّي. فانتبهْ إلى حال(56) القوم كيف هي مِن حال(57) الغير يَبِنْ لك الخيرُ(58) ويتَّضحْ.
          جعلنا الله ممَّن هداه في سرَّائه وضرَّائه إلى الطريق المبلِّغ إلى رضاه، بمنِّه وكرمه(59)، لا رَبَّ سواه(60).


[1] في (م): ((قوله)) والمثبت من (ج) و(ت).
[2] في (ب): ((عن سودة زوج النبي صلعم قال: ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، ما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنَّاً)).
[3] في (ج): ((وأما)).
[4] في (ب): ((خاصة أو عامة)).
[5] زاد في (ب): ((الإمام))، وكذا عند ذكر الشافعي.
[6] في (ت): ((طهرت)).
[7] في (ج) و(ت): ((من)).
[8] في (ب): ((رجع))، وفي غيرها من النسخ: ((وجعل)) والمثبت هو الصواب، وهو موافق للمطبوع.
[9] زاد في (ج): ((طريق)).
[10] قوله: ((حتى)) ليس في (ج).
[11] قوله: ((بتحريم الحلال، وإنَّما الزهد)) ليس في (ج).
[12] في (ج): ((أوثق مم في يدك))، وفي (ت): ((أوثق منك مما في يدك)).
[13] في (ب): ((إلى أحكامها)).
[14] في (ج): ((إلى)).
[15] في (ج): ((تصدقوا)).
[16] في (م): ((تخرج)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] قوله :((فرفع إليه رأسه وقال: يا بني ليس هذا هو الحرص)) ليس في (م) و(ت)، والمثبت من (ج) و(ب).
[18] في (ب): ((المتمكن)). وفي (المطبوع): ((المتملِّكين)).
[19] في (ب): ((وقد)).
[20] زاد في (م): ((ذلك)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] زاد في (ج): ((الزهد)).
[22] في (ج): ((ولم يتم هذا)).
[23] : قوله((صلعم)) ليس في (المطبوع).
[24] في (م): ((أيضاً)) والمثبت من (ج) و(ت).
[25] قوله: ((ورضي الله عنهم أجمعين. وقد جاء هذا نصَّاً منه ◙)) ليس في (ب).
[26] في (م): ((الآيات)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[27] في (ج): ((بأن)).
[28] في (ج) و(ت): ((أو الأشربة)).
[29] في (ج): ((كون)).
[30] في (م): ((عبادة))، وفي (ب): ((عبادة الله تعالى))، والمثبت من (ج) و(ت).
[31] في (م): ((مع))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[32] في (ب): ((والاهتمام به إلا أنه يرضى)). وفي (ج): ((ذلك الاهتمام به لا أنه يرضى)).
[33] زاد في (م) و(ت): ((إلا أنه)) والمثبت من (ج).
[34] قوله: ((والزهد)) زيادة من (م) على باقي النسخ.
[35] في (ج): ((تبلغه))، وفي (ب): ((يبلغه)).
[36] في (ب): ((يضاهيه)).
[37] في (ت) و(ب): ((من إنزال)).
[38] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((مباركاً)).
[39] في (ب): ((وقته)).
[40] في النسخ و(ت): ((يمر))، ولعل المثبت هو الصواب.
[41] في (ب): ((وكان)). وقوله: ((ويكون)) ليس في (ج).
[42] زاد في (ب): ((لما شاءت)).
[43] في (ب): ((تردد)).
[44] في (ج): ((قربت)).
[45] في (ج): ((جواز أكل دوام)).
[46] في (ج) و(ب): ((دوامهم للانتباذ)).
[47] في (م): ((من اللحم والطعام))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[48] في (م): ((منهم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[49] قوله: ((به)) ليس في (ج).
[50] في (ج): ((إنها)).
[51] في (ج): ((بالمال)).
[52] قوله: ((النفريت)) ليس في (ب).
[53] قوله: ((أو كما قال صلعم)) ليس في (ت).
[54] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((نحب))، في الموضعين.
[55] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((لتكفير)).
[56] في (ب): ((لحال)).
[57] في (ج): ((القوم أين هي حال))، في (ت): ((القوم أين هي من حال)).
[58] في (م) و(ت): ((لك الحالين)) والمثبت من (ج). وفي (ب): ((يبن لك الخبر)).
[59] قوله: ((وكرمه)) ليس في (ج) و(ت).
[60] في (م): ((بمن الرب سواه)).