بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا

          161-قوله صلعم : (يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ...) الحديث. [خ¦3208]
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى حكمين: / (أحدهما): إظهار قُدرة الله تعالى في جميع خلق بني آدم في بطون أمَّهاتهم على نحو ما ذكر في الحديث.
          و(الآخر): سَبْقُ القَدَرِ(1) في الخلق بما شاء الله، وإظهار ذلك عند الموت، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ قدرة القادر لا يحجبها شيء مِن الأشياء، يؤخَذ ذلك مِن قوله ╕: (يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ) ولم يجعل لذلك عِلَّة الجِماع، لأنَّ المرء يجامع أهله مرارًا ولا يكون بينهما مولود حتَّى يشاء ذلك القادر سبحانه، ومعنى الجمع هنا: هو استقرار الماء الذي هو مِن اجتماع ماء الرجل وماء المرأة في الرحم، لأنَّ الشيء الكثيف إذا بقي وطال زمانُه كان أصلح له.
          ولذلك لَمَّا خلق الله ╡ الأرض والسماء خلق الأرض أوَّلًا ثم عَمَدَ إلى السماء وترك الأرض بغير فَتْق، لأنَّها كثيفة، وإبقاء(2) الكثيف بمقتضى الحكمة حَسَنٌ فيه وزيادةٌ معنوية، فلمَّا أنْ(3) خلق جلَّ جلاله السماء فَتقها(4) مِن حينها وقدَّر فيها أمورَها، لأنَّ السماء مِن العالم اللطيف، والشيءُ اللطيف لا يحتمل(5) البقاء، ثم بعد ذلك فتق الأرض لَمَّا أن(6) حَسُنت الصنعة فيها بإبقائها تختمر في ذينك اليومين.
          بيان ذلك مِن كتابه ╡ / قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فقال لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:9 - 12] وقال تعالى في آية أخرى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا.أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:27 - 31].
          فذكر في الآية الأولى أن خَلْقَ الأرض كان قبل خلق(7) السماء، وذكر في الآية الأخرى أن دَحْيَ الأرض كان بعد خَلق السماء وفَتقها، ويحصل الجمع بينهما بالمعنى الذي ذكرناه، ولو شاء ╡ أن يقول للكل: كونوا في لحظة واحدة لكانوا، ولكن لم يشأ الحكيم ذلك لا لعجزٍ تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، وإنَّما ذلك ليظهر مِن سرِّ الحكمة ما أبديناه(8)، ومِن عظيم القدرة ما قرَّرناه.
          وكذلك(9) فعل بآدم ╕ حين خَلَقَه عجَنَ الترابَ بالماء وبقي زمانًا حتَّى أنتَنَ(10) وصار(11) حَمأً مسنونًا، ثم صوَّرَه(12) وبقي جسدًا بلا روح ما شاء الله / تعالى، ثمَّ نفخ(13) فيه الروح فصار(14) خَلْقًا آخر، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
          وقوله: (ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ) أي: أربعين يومًا.
          وفيه دليل على عظيم قدرة الله تعالى كيف يبقى دمًا أربعين يومًا ولا يتغيَّر، ثمَّ في ساعة واحدة يصير عَلَقة، ثمَّ يبقى عَلقة أربعين يومًا أيضًا لا يتغيَّر، ثمَّ مِن حينه يعود(15) مُضْغَة والمضغة: قطعة لحم(16) تُمْضَغُ.
          وإشارة أخرى إلى(17) أنَّ الأشياء الرطبة إذا بقيت تتغيَّر(18)، وهذا الماء يبقى ذلك القدر مِن الزمان ثم يزداد صلابة بعد صلابة ضد ما جرت به العوائد، فدلَّ بهذا(19) أنَّ التأثير في الأشياء بالقدرة لا بغيرها، مثال ذلك ما أخبر ╡ في كتابه عن العُزَيرِ(20) حين قال له: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] أي: لم يتغيَّر، لأنَّ الطعام والشراب جرت العادة أنَّه إذا بقي يسيرًا مِن الزمان يلحقه التغيُّر والفساد، وهذا عصيرُ عنبِهِ(21) وفاكهتُه باقية مئة عام ولم تتغيَّر عن حالها، والعظام التي(22) فيها اليبوسة والصلابة تغيَّرت، فلمَّا تبيَّن له ما أشير(23) به إليه قال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259].
          وقوله: (ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ).
          هنا بحث هل الأربع كلمات شيء آخر خلاف الأربع المذكورة بعد؟
          احتمل الوجهين معًا، والأظهر / والله أعلم أنَّها مفسِّرة لذلك المجمَل بدليل أنَّ الحديث جاء على طريق الإخبار عن علم الغيب كي يُعلَم الأمر على(24) ما هو عليه فيُعتَبَر(25)، فلو كانت تلك الأربع كلمات خلافَ الأربعة المذكورة بعدُ لكان ╕ يخبِر مِن أيِّ نوع هي، هل ممَّا لا يُعلَم؟(26) أو هي ممَّا يُعلَم، أو يذكرها في موضع آخر، كما ذكر ╕ في نفس التصوير، لأنَّه سكت عنه هنا وذكر في موضع آخر(27)، وقد تقدَّم الكلام عليه بما فيه كفاية.
          وقَوْلُهُ ◙ : (ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ) فيه(28) بحث وهو أن يقال: هل هو على ظاهر اللفظ أن الروح لا يكون إلا بعد النفخ فيكون النفخ سببًا(29) له كما كان الماء سببًا للفَخَّارة، أو يكون معنى النفخ الجَعْل(30)؟
          احتمل الوجهين معًا، والظاهر أنَّه يكون بالنفخ، وأنَّ النفخ سببٌ له كما كان الماء سببًا للفخارة(31) بدليل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] فجاء رجوع الأرواح إلى الأجساد آخِرًا بالنفخ كما كان أوَّلًا بالنفخ(32)، وكما أن المَنِيَّ كان أوَّلًا سببًا للفَخَّارة كذلك ينزل المطر مثل مني الرِّجال أربعين يومًا تنبت به أجساد العالم لتصويرها(33)، وبعده يكون نفخ الأرواح {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} [الأنبياء:104] / وبدليل ما ذكر عن عيسى ╕ أنَّه كان مِن نَفْخِ جبريلَ ╕ في جيب أمِّهِ.
          وفي هذا(34) دليل على نفوذ الحكم بحسب ما اقتضته المشيئة لا تبديل فيه، فَلْيشكرْ صاحب الخير الذي مُنَّ به عليه فلعلَّه تعالى يُديمه له، ولْيضرع صاحب الشرِّ لعلَّ الكريم الحنان(35) يُحوِّله عنه، وهذه التي قطعت رقاب الرِّجال مع ما هم عليه مِن حسن الحال، مَنَّ الله علينا بحسن الخاتمة بفضله.
          وقَوْلُهُ ╕: (فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ(36) بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ)،فيه بحث، هل هذه الأعمال المذكورة على حقيقتها في الظاهر أعني أن الحسن منها(37) مقبول ثم لا ينفع أو ليس؟
          وكونه أيضًا ذكر الطرفين(38) أصحاب الجنَّة وأصحاب النَّار ولم يذكر الذين(39) خلطوا الخير والشر، وذكر أيضًا الذين تُبدَّل أعمالهم مِن الخير إلى ضده وعكسه، ولم يذكر الذين يدومون على الحالة الواحدة مِن الخير وضده.
          والجواب: عن الأَوَّل احتمل الوجهين معًا.
          فعلى (الوجه الأَوَّل): وهو أن يكون العمل مقبولًا ثمَّ لا ينفع، فالدليل لصحة هذا الوجه قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فدلَّ(40) أنَّ العمل كان / مقبولًا ثمَّ لَمَّا أن(41) جاء الشرك أزاله ولم ينتفع به.
          وأمَّا (الوجه الثَّاني): فالدليل عليه مِن قول عمر ☺ حين قال له ابنه عبدالله: هنيئًا لك يا أبتِ تصدَّقتَ اليوم بدينار، فقال له: والله يا بني، لو علمتُ أن الله قَبِل مني حسنة واحدة ما كان(42) عندي شيءٌ أحبَّ إليَّ مِن الموت. فدلَّ بهذا أنَّه لا يُقبَل العمل إلا ممَّن سَبَقت له السعادة إما كليةً أو(43) بعضِيَّة.
          ويقع الجمع بين هذين الوجهين بأن نقول: تكلَّم عمر ☺ على حقيقة الأمر وجاءت الآية على ظاهر الحكمة، لأنَّ عامل الخير في هذه الدار قد رأيناه فعل ما أمر به وقد وعد على ذلك الفعل بالخير فنحكم(44) له بظاهر الأمر حتمًا(45)، فإذا جاءت العاقبة بضده قلنا: حبط ذلك الخير الذي كان، و(مثل ذلك) ثمر التمرة يكون في رؤية العين حسنًا، وفي الغيب جائحة لا علم لنا بها، فإذا أتت على تلك الثمرة ذهب ذلك الخير الذي كان ظهر(46) بها، فجاء هنا كلام الشَّارع صلعم على مقتضى الحكمة.
          وأمَّا كونه ╕ ذكر الطرفين(47) ولم يذكر مختلط العمل، لأنَّ هذا هو موضع التخويف الذي هو تبديل الحال إلى حال آخر، لأنَّ المختلط قد بان بنفسه فلا يحتاج إلى ذكره، وكذلك تركه ╕ ذكرَ الذين يدومون على الحالة(48) الواحدة، وفيما / نحن بسبيله دليل على ظهور الأشياء على حقائقها.
          أمَّا الدليل على ظهورها فلكونه لا يخرج مِن هذه الدار حتَّى يشهد له عمله مِن أيِّ الدارين هو؟ وأمَّا إخفاؤه فهو كون العمل مِن الخير والشَّر(49) دائمًا، ولا يقطع لصاحبه بمقتضاه حتَّى إلى حين(50) الموت، وهو وقت يسير جدًا تظهر الحقيقة عنده كما أخبر ╕ بِقَوْلِهِ: (قَدْرَ ذِرَاعٍ) فكل عامل لا يهنأ له قرار لجهله(51) بحاله.
          وفيه أيضًا (بحث آخر) في قوله ╕: (ذِرَاعٌ) هل هي كناية عن المساحة في تلك الدار أو كناية عن قرب الأجل؟
          احتمل الوجهين معًا والأظهر أنَّها كناية عن قرب الأجل بدليل قوله ╕ في غير هذا الحديث: «إنَّ اللهَ تعالى يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» يعني بالغرغرة: بلوغ الروح إلى الحلقوم وهو الذي بقي له ويخرج مِن الجسد قدر الشبر.
          وفقه هذا الحديث بذكره الذراع: هو(52) الخوف مِن هذا الأمر الخطير(53)، والاستعداد له، وإطالة(54) الرغبة إلى المولى العظيم، لعلَّه يتعطف على العبد المسكين، جعلنا الله ممَّن تعطف عليه وأحسن خلاصنا بمنِّه إنه ولي حميد.


[1] صورتها في (م): ((القدرة)).
[2] في (م): ((وأبقى)).
[3] قوله: ((أن)) ليس في (ج) و (م).
[4] قوله: ((فتقها)) ليس في (ج).
[5] في (م): ((لا يحمل)).
[6] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[7] قوله: ((خلق)) ليس في (ط) و(م) وهو مثبت من (ج).
[8] في (ج): ((ابتديناه)).
[9] في (ج): ((اقتدرناه، وذلك)).
[10] في (ج): ((حتَّى أنتن زماناً)).
[11] زاد في (ج): ((ثم صُوِّرَ)).
[12] قوله: ((ثم صوره)) ليس في (ج) وفي (م): ((ثم صور)).
[13] في (ط) كتب فوقها: ((خلق)).
[14] في (م): ((فعاد)).
[15] في (م): ((يكون)).
[16] في (ج): ((شحم)).
[17] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[18] في (ج) و (م): ((تغيرت)).
[19] في (ج): ((به العادة فدل هذا)).
[20] في (ط) و(م): ((كتابه العزيز)).
[21] في (م): ((عينه)).
[22] في (ط): ((والطعام التي))، وفي (م): ((الطعام الذي)).
[23] في (ج): ((أشرنا)).
[24] قوله: ((على)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] في (ج): ((ونعتبر)) وفي (م): ((ويعتبر)).
[26] في (م): ((مما لا تعلم)).
[27] قوله: ((كما ذكر ╕ في نفس التصوير؛ لأنَّه سكت عنه هنا وذكر في موضع آخر)) ليس في (ج).
[28] في (م): ((وفيه)).
[29] في (ج): ((فتكون سبباً)) وفي (م): ((إلا بعد النفخ سببا)).
[30] في (م): ((الحمل)).
[31] في المطبوع: ((المال سبباً للتجارة)).
[32] قوله: ((كما كان أوَّلاً بالنفخ)) ليس في (ج).
[33] في (م): ((لتصويره)).
[34] في (م): ((ذلك)).
[35] في (م): ((المنان)).
[36] قوله: ((فيعمل)) ليس في (م).
[37] في (ط) و(ج): ((فيها)).
[38] في (ط): ((الطريقين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[39] في (ط): ((ولم يذكر المتلبطين الذين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[40] زاد في (م): ((على)).
[41] قوله: ((أن)) ليس في (ط) و (م).
[42] قوله: ((كان)) ليس في (م).
[43] في (م): ((وإما)).
[44] في (ج) و (م): ((فيحكم)).
[45] قوله: ((حتما)) ليس في (م).
[46] في (ج): ((يظهر)).
[47] في (ط): ((الطريقين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[48] في (ج) و (م): ((الحال)).
[49] في (م): ((أو الشر)).
[50] قوله: ((حين)) ليس في (ج) و (م).
[51] في (م): ((بجهله)).
[52] قوله: ((بذكره الذراع هو)) ليس في (ج) و (م).
[53] في (م): ((الخطر)).
[54] في (ج): ((إطالة)).