بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: ما خير رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما

          195- قولها: (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلعم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اختار أَيْسَرَهُمَا...) الحديث. [خ¦3560]
          ظاهر الحديث أخذُه ╕ بأيسر الأمرين إذا خيِّر بينهما، وبُعْده ╕ مِن الإثم، وهل هذا التخيير(1) على عمومه؟ أعني تفضيله ╕ الأيسر مِن الأمرين أم لا؟
          والجواب: أنَّ أخذه ╕ الأيسر مِن الأمرين إذا خُيِّرَ على العموم موجود بما(2) استُقرىء مِن سُنَّته ╕، ويحتاج إلى تقسيم، لأنَّه لا يخلو أنْ يكون ما يخيَّر فيه مِن(3) أمور الدنيا أو(4) أمور الآخرة، فإن كان مِن أمور الدنيا فاللفظ على عمومه: ما خُيِّر(5) صلعم بين شيئين مِن أمور الدنيا إلا أخذ أيسرهما، وكفى في ذلك أنْ خُيِّرَ صلعم أنْ يكون مَلِكًا نبيًا ويكون له مثل جبال تهامة فضة وذهبًا(6) تسير معه حيث سار، أو يكون نبيًّا عبدًا فاختار ╕ أنْ يكون نبيًّا عبدًا، فقال: «أجوع يومًا فأضرع، وأشبع يومًا فأشكر».
          وقد جاء عنه صلعم أنَّه أُتي يومًا(7) بثوب يلبسه فطالت كمَّاه على يديه الكريمتين فأخذ يقطعهما فلم يجد في الوقت إلا سكينًا فجمعهما وقطعهما بالسكين(8)، ولم يكلِّف أحدًا أنْ يأتيه بمقصٍّ وبقي دور الأكمام / داخلات وخارجاتٍ(9) وربما تساقطت الخيوط مِن بعضها ولم يعدِّلهما(10) بعد، ولا عمل لهما(11) عطفًا حتى تقطَّع(12) الثوب وهو على ذلك الحال.
          وأمَّا أمر الآخرة فما كان يحتاج(13) فيه فيما يخصُّه ╕ إلا الأرفع والأقرب إلى الله تعالى، كما فعل ╕ في تعبُّده الذي قام حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: يا رسول الله تفعل(14) ذلك والله قد غفر لك ما تقدَّم مِن ذنبك وما تأخَّر؟ فقال صلعم : «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟».
          وإذا كان الأمر في حقِّ أمَّته أخذ ╕ لهم ما هو الأيسر والأقرب رحمة بهم، كما فعل صلعم في قيام رمضان حين(15) كثر النَّاس فقاموا معه فجعل يقعد(16) ثمَّ قال لهم: «إنَّما قعدت(17) لئلا يكتب عليكم فلا تطيقون» أو كما قال ╕.
          وكما فعل ╕ معهم(18) في شأن الوصال الذي(19) ينهاهم عنه ويواصل ╕ حتى كان يربط على بطنه ثلاثة أحجار مِن شدة الجوع والمجاهدة صلعم، فقيل له: تنهانا عن الوصال وأنت تفعله فقال: «إنِّي لستُ كهيئتكم، إنِّي أبيتُ يطعمُني ربي ويسقيني» وكان ╕ يقول لهم: «اكلَفوا مِن العمل ما تطيقون، فإنَّ الله لا يملُّ حتى تملوا»، والأحاديث في هذا الشأن كثيرة فعلى هذا فيكون عامًّا فيما كان مِن أمور الدنيا، ويكون خاصًّا فيما كان مِن أمور الآخرة.
          وقد يحتمل أنْ يكون عامًّا في أمور الآخرة بوجه ما / وهو مثل أنْ يخيَّر بين عملين: أحدهما يكون في الوقت الوصول إليه قريب، والذي الوصول إليه أبعد يكون(20) أرفع، فيختار الأيسر اغتنامًا منه ╕ للطاعة والمبادرة للخدمة وخوف الفوت أنَّه لا يدرك الذي هو أرفع، فإن أدركه لم يتركه كما كان أبو بكر ☺ يفعل في وتره يقدِّمه أوَّل اللَّيل، وقد صحَّ من السُّنَّة أنَّ الأفضل في الوتر آخر الليل، فكان أبو بكر ☺ فهم عن النَّبي صلعم هذا الذي أشرنا إليه فعمل عليه فأقرَّه النَّبي صلعم على ذلك وقال له: «أخذتَ بالحزم» وهي المبادرة.
          وفي هذا إشارة إلى طريق القوم الذين يقولون: «الوقت سيف إنْ لم تقطعه قطعك»، معناه عندهم: إن لم تقطعه بالعمل قطعك بالتسويف، والاشتغال بتعمير الوقت وترك الالتفات إلى الماضي والمستقبل فائدته ربح الدنيا والآخرة، مَنَّ الله علينا به بفضله.
          وأما قولنا: كيف يُخَيَّر هو(21) صلعم بين الإثم وغيره؟ فقد يقع ذلك جهلًا مِن المخبر له أنَّ ذلك إثمٌ(22) كما فعل صاحب الخمر الذي أهداه للنبي صلعم بعد ما حُرِّمت الخمر، فلطف ╕ به في المراجعة، ثمَّ أمر بها، فأُرِيقت، وأشياء مِن هذا النوع عديدة، وفي هذا النوع منه ╕ ما يدلُّ على حُسن خُلُقه وتواضعه صلعم. /
          ولأجل هذا النوع وما كان فيه صلعم أثنى الحقُّ سبحانه على حسن خلقه، فقال ╡ : {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وقد قيل فيه ╕: (مَن عظَّم الله خُلُقه، كيف يحصي مدَّاحٌ ثَنَاءَهُ)(23).
          وفيه دليل: على حسن فهمِ(24) هذه السيِّدة لأنَّها فهمت مع صغر سِنِّها مِن حقيقة طريقته ╕ ما فهم(25) أبوها على كِبَر سنِّه ورفعته في قوَّةِ إيمانه وصدقه حتى قال عنه صلعم : «ما فَضَلكم أبو بكر بكثير(26) صوم ولا صلاة، ولكن بشيء(27) وقرَ في صدره»، فبِحُسْنِ أصلها نجح(28) فرع فهمها.
          وفيه مِن الفقه أنَّ كلام المرء عنوان على عقله، وأفعاله دالة على تحقيق حاله، ولذلك قال علي ☺ حين قيل له: في كَم تعلم حال الشخص؟ فقال: (إنْ تكلم فمِن حينه، وإن صَمَتَ فمِن يومه)، فمَن اشتغل بتخليص صحة حُسْنِ حاله حَسُنَ فعله ومقاله.


[1] في (ج): ((التخير)).
[2] في (ج): ((فيما)).
[3] قوله: ((من)) ليس في (م).
[4] زاد في (ج): ((من)).
[5] قوله: ((خير)) ليس في (م).
[6] زاد في (ج): ((صلعم)).
[7] صورتها في (م): ((بيوما)).
[8] زاد في (ج): ((صلعم وزده يا رب شرفا وكرما)).
[9] في (ج): ((دخلات وخرجات)).
[10] في (ج): ((يعدلها)).
[11] في (ج): ((لها)).
[12] في (ج): ((يقطع)).
[13] في (ج) و (م): ((يختار)).
[14] في (م): ((يا رسول تفعل)).
[15] في (م): ((حتى)).
[16] في (المطبوع): ((يتخلف)).
[17] في المطبوع: ((تخلفت)).
[18] قوله: ((معهم)) ليس في (ج).
[19] زاد في (ج) و (م): ((كان)).
[20] قوله: ((في الوقت الوصول إليه قريب والذي الوصول إليه أبعد يكون)) ليس في (م).
[21] قوله: ((وأما قولنا: كيف يُخَيَّر هو)) ليس في (ج).
[22] في (ط): ((من المخبر له أن ذلك إثمًا)).
[23] قوله: ((فقد يقع ذلك جهلًا... يحصي مداح ثناه)) ليس في (ج)، وقوله: ((وأما قولنا كيف يخير هو...يحصي مداح ثناه)) ليس في (م).
[24] في (ط): ((على فهم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] في (م): ((فافهم)).
[26] في (ج) و (م): ((بكثرة)).
[27] في (م): ((لشيء)).
[28] في (ج): ((ينجح)).