بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه...

          176- قوله صلعم : (يُجَاءُ بِالرَّجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّار...) الحديث. [خ¦3267]
          ظاهر الحديث الإخبار بسوء حال هذا الرَّجل(1) الذي يدخل النَّار، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، بعدما تندلق(2) أقتابه وهي الأمعاء وما دار بها، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: / ما فيه مِن الدَّليل على عظيم قدرة الله تعالى، يؤخذ ذلك مِن كون ما على أمعائه(3) مِن الجلد واللحم قد ذهب وهي باقية على حالها.
          ومنها: البحث على قوله ╕: (كَمَا(4) يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ)، هل ذلك بسائقٍ(5) يسوقه أو بغير سائق؟ احتمل الوجهين معًا، لكنَّ لفظ الحديث يعطي أنَّه بسَوقٍ(6) عنيفٍ وحالةٍ سيئةٍ، يؤخذ ذلك مِن تمثيله بالحمار، والمعلوم مِن الحمار أنَّه لا يكون منه الدَّوران برحاه إلَّا بالسَّوق والضَّرب، ومِن أجل ذلك شبَّهه ╕ بالحمار ولم يشبِّهه بغيره مِن الدَّواب التي(7) تُرَاض وقد تدور وحدها مثل البعير وغيره، وليس في الدَّواب أبلد مِن الحمار.
          وفيه تنبيهٌ على أنَّ صاحب المخالفة يوصف بالبلادة، وإن كان عند نفسه نبيهًا؛ لأنَّه ╕ قد(8) شبَّهه بأبلد البهائم، ومما يقوِّي ما قلناه قوله ╕: «الكَيِّس مَن دانَ نفسَه وعَمِل لِمَا بعدَ الموت، والعاجز(9) مَن أَتبَع نفسَه هواها وتمنَّى على الله»، لأنَّه(10) في الغالب لا يكون العجز إلَّا مع البلادة، وإذا اجتمعا هما سبب الحرمان.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ دخول النَّار لمن قُدِّر عليه بها لا(11) يكون إلَّا يوم القيامة، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
          وفيه دليلٌ: على تصرُّف(12) أهل النَّار فيها، واجتماع بعضهم مع(13) بعض، يؤخذ ذلك / مِن قوله ╕: (فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّار عَلَيْهِ)، ويعارضنا ما جاء أنَّ أهل النَّار يُعذَّب الشَّخص منهم ولا يرى أحدًا(14) حتَّى يظنُّ أنَّه لا يعذب في النَّار غيره، ويجتمع الحديثان بأن نقول: النَّار هي سبع طبقات، ولكلِّ طبقةٍ منها أمر يختصُّ بأهلها(15)، فيكون ما أخبر به ╕ في هذا الحديث هي نار المؤمنين التي هي أخفُّها، بدليل قوله ╕: فيقولون له: (كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانا(16) عَنِ الْمُنْكَرِ)، وهذا لا يكون إلَّا صفة للمؤمنين ويكون الخبر الثَاني عن الكفَّار أو مَن شاء الله منهم.
          وفيه دليلٌ: على إبقاء الميز والمعرفة(17) لأهل النَّار مع ما هم فيه مِن الأمر العظيم، يؤخذ ذلك مِن اجتماع بعضهم مع بعض، وكلام بعضهم مع بعض(18) ومراجعتهم(19) وسؤالهم.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ دخول أهل النَّارِ(20) النَّارَ يكون بعنف دون اختيارهم(21)، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (يُجَاءُ بِالرَّجل(22) يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّار)، ولولا ما هو كذلك لقال: يدخل النَّار.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ أعظم الأعمال الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، يؤخذ ذلك مِن تعجُّب أهل النَّار مِن دخول هذا الشَّخص النَّار، وهم يعرفونه أنَّه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لأنَّ أهل النَّار قد عاينوا الحساب / وثواب الأعمال، وأيُّ عمل أنفع لصاحبه؟ فلولا ما رأوا قدر رفعة(23) منزلة صاحب الأمر بالمعروف والنَّهيِ عن المنكر كيف هي؟ ما تعجَّبوا مِن دخول هذا(24) النَّار، وهو على ما كانوا يعلمون منه أنَّه مِن أهل ذلك الخير، وصحَّح هو لهم بحثهم بأن فضح نفسه بما كانت(25) سريرته، حتَّى تبقى القاعدة على ما هي عليه مِن الحقِّ، لأنَّ تلك الدَّار لا يمشي فيها الزُّور ولا يصحُّ.
          وهنا بحثٌ: وهو أنْ يُقال: هل كان دخوله(26) النَّار بتلك الحالة مِن أجل ما كان يُظهِر شيئًا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويفعل ضده؟ أو ذلك لِمَا اكتسب مِن الآثام؟ أو للمجموع(27)؟
          ظاهر الأمر أنَّه(28) لهما معًا، ولا يقع في النَّفس ما يقوله بعض الجهَّال أنَّه لا ينهى عن منكر حتَّى يكون هو(29) لا يفعله، ولا يأمر بمعروف(30) حتَّى يكون هو(31) ممَّن يفعله وإلاَّ لا يفعل، فهذا جهلٌ وعَمًى، نعم ذلك هو(32) صفة الكمال، وإنَّما هو مكلَّف(33) بالوجهين معًا، وهو أنْ يأمر بالمعروف ويفعله، فإذا ترك الأمر به(34) لكونه لم يوفَّق إلى فعله يكون عذابه على ذنبين، فإن(35) أمر به ولم يفعله يكون عذابه(36) على ذنبٍ واحدٍ.
          وكذلك في النَّهي عن المنكر هو أيضًا مأمور أنْ ينهى عنه وأن لا يفعله في نفسه، فإذا لم يَنْهَ(37) عن المنكر وفعله عُذِّب على ذنبين، وإن(38) نهى عنه وفعله(39) / عُذِّب على ذنبٍ واحدٍ، والعذاب وبالله العياذ(40) على ذنبٍ واحدٍ أقلُّ ممَّا هو على ذنبين.
          ومِن هنا وقع ناس كثيرون(41) في تضييع الأوامر والنَّواهي، يقولون: (لا تنهوا حتَّى تنتهوا، نحن(42) لا ننهى حتَّى ننتهي)، فيوجبون على أنفسهم عذاب ذنبين(43)، ومثله في الأمر بالمعروف، وهو غلطٌ عظيمٌ اللهُمَّ إلَّا أنْ يكون مثل هذا المذكور الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لأنَّه جمع(44) على نفسه ذنبين، وزاد لهم(45) الرياء لكونه أخفى وقوعه(46) في المنكر، وعدم فعل المعروف الذي(47) كان يتظاهر بأنَّه ممَّن يفعله، يؤخذ ذلك مِن تعجُّب أهل النَّار منه لِمَا كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهو يظهر أنَّه مثل ما يقول لهم، فلو علموا منه أنَّه كان حاله بخلاف ما كان يأمرهم به ما كانوا يتعجَّبون مِن دخوله النَّار.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ الذي(48) خلط عمله بالحسن والسَّيِّء أنَّه استحقَّ دخول النَّار بمقتضى العدل(49)، يؤخذ ذلك مِن كون هذا كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا مِن أكبر أعمال الخير كما تقرَّر(50) قبل، لكن لمَّا فعل مع ذلك الشرَّ ولم يفعل الخير استحقَّ دخول النَّار.
          وفيه دليلٌ: على أنَّه مَن كان له عمل خير وعمل شرٍّ، فإنَّه يقدَّم(51) أولًا الأخذ بعمل الشَّرِّ، وحينئذٍ / يتفضَّل عليه بما وعد مِن الخير، يؤخذ ذلك مِن كون هذا الشَّخص قد اجتمع له عمل خير وضدُّه، فقدَّم له المجازاة على الشَّر، والحكمة في ذلك والله أعلم أنَّه(52) لَمَّا كانت الجنَّة دار رحمةٍ، وأنَّه مَن دخلها لا يرى شيئًا يسوءه(53) بعد، فقدَّم الذي(54) له العمل المختلط دار العقاب، ويخرج منها بعد إلى دار الرِّضى، ولا يمكن العكس بمقتضى الحكمة الرَّبانيَّة.
          وفيه دليلٌ: على حياتهم في النَّار وهم فيها يقظانون، يؤخذ ذلك مِن كونهم يتكلَّمون ويجتمعون، ويعارضنا الحديث الذي ذُكر فيه أنَّهم يموتون(55) فيها، حتَّى قال بعض العلماء بظاهره وزعم أنَّ المؤمنين في النَّار موتى ولا يحسُّون مِن عذابها شيئًا، وهذا الحديث(56) ردٌّ على مَن(57) زعم ذلك.
          والجمع بين هذين الحديثين كما تقدَّم في يوم القيامة لأنَّه مواطن مواطن(58)، وكذلك النَّار أهلها فيها على أحوال يتلونون تارةً على نوعٍ وتارةً على آخر.
          وقد يكون له وجه آخر وهو أنْ تكون تلك الأمور التي أخبر بها في الأحاديث وهي مختلفة أنَّ كل حالة منها لقوم مختصِّين بها، يشهد لهذا المعنى نفس الحديث الذي نحن بسبيله، لأنَّه ╕ أخبر أنَّ ذلك الشَّخص مشغول يدور، وأنَّه ليس ينفك عنه ما هو فيه مِن تلك الحال، وأنَّ غيره(59) قد أتاه يسأله عن حاله لأنَّهم / قد اجتمعوا عليه، وكذلك ما تعدَّدت الأحوال على هذا الأسلوب، لأنَّ الأحاديث كلَّها التي قد جاءت صِحَاح(60) في هذا الشَّأن، وهي كلُّها أخبار، والخبر لا يدخله نسخٌ، فلم يبق إلَّا الجمع بطريق التَّأويل نحو ما تقدَّم، ويكون فائدة هذا الحديث التَّنبيه على توفية ما يجب على الشَّخص مِن الواجبات في نفسه وغيره، لأنَّها هي الطَّريقة المخلِّصة(61)، منَّ الله تعالى بها علينا بفضله.


[1] قوله: ((الرجل)) ليس في (ج) و (م).
[2] في (ج): ((يندلق)).
[3] في (ج): ((معائه)).
[4] قوله: ((كما)) ليس في (ج).
[5] في (م): ((سائق)).
[6] في (ج) و (م): ((سوق)).
[7] في (ج): ((الذي)).
[8] قوله: ((قد)) ليس في (ج).
[9] في (ج): ((والفاجر)).
[10] في (ج): ((فإنه)).
[11] في (ج): ((فلا)).
[12] في (الملف): ((تعرف)).
[13] في (ج): ((من)).
[14] في (ج): ((أحد)).
[15] في (ج): ((تختص بها)).
[16] في (ج) و (م): ((وتنهانا)).كالاصل.
[17] في (م): ((والحرفة)).
[18] قوله: ((وكلام بعضهم مع بعض)) ليس في (م).
[19] في (ج): ((ومن أخفتهم)).
[20] في (م): ((على أن دخول النار)).
[21] في (ج): ((اختبارهم)).
[22] في (ج): ((يجاب الرجل)).
[23] قوله: ((رفعة)) ليس في (ج).
[24] في (ج): ((أهل)).
[25] في (المطبوع): ((أكنَّت)).
[26] في (ج): ((دخول)).
[27] في (ج): ((للجموع)).
[28] في (ج) و (م): ((أنه)). كالأصل.
[29] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و (م).
[30] في (ج): ((بالمعروف)) وفي (م): ((ولا يأمرون بمعروف)).
[31] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و (م).
[32] في (م): ((فهذا جهل وعماهم ذلك هو)).
[33] في (م): ((يكلف)).
[34] قوله: ((به)) ليس في (ج).
[35] في (ج): ((وإن)).
[36] قوله: ((على ذنبين، فإن أمر به ولم يفعله يكون عذابه)) ليس في (م).
[37] في (ط): ((ينته)).
[38] في (ج): ((وإذا)).
[39] قوله: ((عذب على ذنبين وإن نهى عنه وفعله)) ليس في (م).
[40] في (ج): ((والعياذ بالله)) وقوله: ((وبالله العياذ)) ليس في (م).
[41] في (م): ((كثير)).
[42] قوله: ((لا تنهوا حتى تنتهوا نحن)) ليس في (ج) و (م).
[43] في (ج): ((بذنبين)).
[44] في (ط): ((أجمع)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] في (ج) و(م): ((لهما)).
[46] في (م): ((ووقوعه)).
[47] في (ج): ((التي)).
[48] قوله: ((الذي)) ليس في (م).
[49] في (م): ((العذاب)).
[50] في (ج): ((تقدم)).
[51] زاد في (ج) و (م): ((له)).
[52] في (م): ((إنَّما)).
[53] في (م): ((يسوء)).
[54] قوله: ((الذي)) ليس في (ج).
[55] في (م): ((يمزقون)).
[56] قوله: ((الحديث)) ليس في (ج).
[57] في (ط) و(ج): ((ما)) والمثبت من (م).
[58] قوله: ((مواطن)) ليس مكررًا في (م).
[59] في (ج): ((الحال وغيره)).
[60] في (ج): ((كلها صحاح التي قد جاءت)).
[61] زاد في (م): ((مِن الله)).