بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا نادى جبريل...

          294-قوله صلعم : (إنَّ اللهَ(1) إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ(2) فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ...) الحديثَ(3). [خ¦7485]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ الله ╡ إذا أحبَّ عبداً خَلَع عليه خِلَعَ العناية، فيأمر جبريلَ ◙ بأن يحبَّه، ثمَّ ينادي جبريلُ في أهل السماء: إنَّ اللهَ يحبُّ عبدَه فلاناً، ويأمرهم(4) بحبِّ ذلك العبد المحبوب عند مولاه، ويضعُ له في أهل الأرض القبول. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: مَا معنى حبِّ الله تعالى للعبد؟ وما معنى حبِّ جبريل ◙ له(5)، وحبِّ الملائكة؟ وما معنى القبول؟.
          فأمَّا قولنا: ما معنى حبِّ الله لعبده؟ فقد تقدَّم الكلام على هذا المعنى وما يشبهه، أنَّ حقيقة الحبِّ مِن الله / لعبده ليس كحبِّ العبيد بعضهم لبعض بالولوع به والأُنس(6) به وميل القلب إليه، وإنَّما معناه رضاه بحاله(7) ومَا هو عليه، وكثرة إحسانه، لقوله ╡ : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] أي: يحبُّهم(8) فيحسن إليهم عَلى حبِّهم له. فلكثرة(9) الإحسان منه ╡ عَبَّر ◙ عنه بالحبِّ، لأنَّه(10) ممَّا عرفنا بيننا أنَّ كثرة الإحسان منَّا بعضًا لبعض إنَّما بساطه الحبُّ مِن المحسن للذي(11) إليه الإحسان، ولذلك قال صلعم : «حبُّك الشَّيءِ يعُمْيِ ويُصِمُّ» أي: يعميك عمَّا سواه، وكذلك يصمُّك عمَّا سواه، فلا تكاد ترى ولا تبصر إلَّا هو، ويعميك أيضاً عَن عيوبه، وهذه صفة المحدَثين، وهي فِي حقِّ المولى جلَّ جلاله مستحيلة.
          وفي(12) تعبيره ◙ عن كثرة الإحسان بالحبِّ تأنيسٌ للعباد وإدخال مسرَّة عليهم، لأنَّ العبد إذا سمع عن مولاه أنَّه يحبُّهُ هو أعلى(13) السُّرور عنده، وتحقَّق بكلِّ خير ونعمة زائدة عَلى ذلك. وهذا الخطاب إنَّما هو لمن في طبعه فتوَّة ومروءة وعروبية وفضيلة وخير وإنابة، ولذلك قال ╡ : {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]. ومَن في نفسه شَراهة ورُعونة وَله شهوة غالبة فلا يردعه(14) إلا الضرب والزَّجر والتَّعنيف(15)، ولذلك(16) قال صلعم : «يَزَعُ اللهُ بالسُّلطان(17) ما لا يَزَعُ بالقرآن»، لأنَّ السُّلطان / هو الذي جُعل له الزَّجر والتعنيف بالضرب والقتل وغير ذلك.
          وأمَّا قولنا(18): ما معنى حبِّ جبريل ◙ ؟ فهو يحتمل وجهين: أن يكون حبَّ ولوع بالشخص؛ يخلقه الله فيه عند أمره له بحبِّ العبد، ويكون مِن جملة فوائد حبِّه له أن يكون(19) يواليه ويدعو له(20) بالخير، كما جاء: «إنَّ الملائكةَ تحبُّ صَاحِبَ العِلْم الذي هُوَ للهِ، وتَرْغَبُ في صُحْبَتِهِ وتَدْعُو(21) له، وبأجنحتِهَا تَمْسَحُهُ». وقد يحتمل أن يكون معنى حبِّه له تَرفعته(22) وتكرمته له(23)، لكونه له عند الله تعالى مكانةً حسنة، لأنَّ العبيد في الحبِّ والبغض للمولى(24) متَّبِعون، وَكذلك في الغضب والرَّحمة للمولى(25) متَّبعون أيضاً.
          ولذلك(26) جاء في حقِّ الزَّبانية أنَّه «إذا أَمَر اللهُ ╡ بالمجرمينَ أن يُقذَفُوا في النَّار فتأخُذَهُم الزَّبانية فيتمزَّقون فِي أيديهم، فيقولون لهم: أَلا تَرْحَمُوننا؟ فيقولون لهم: إذا كان أرحمُ الرَّاحمين لم يَرْحَمْكُم فكيفَ نَرْحَمُكُم نحنُ؟!» أو كما وَرَدَ. فالعبيد كلُّهم أهل العالم العُلويِّ والسفليِّ تابعون لِمَا به يؤمرون، إمَّا بالمقال وإمَّا بالموضع(27)، وَلذلك(28) لم يشتغل أهل العقول الوافرة إلَّا بالعمل عَلى رضا مولاهم، ولم يبالوا بغيره، حتَّى إن مِن كلام بعضهم:
فيـا(29) لَيْـَت مَـا بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ                      وَبَيْني وَبَيْـنَ العَالَمِيـنَ خَرَابُ
          ومثل: الجواب عن حبِّ جبريل ◙ ؛ الجوابُ عن حبِّ الملائكة ‰ بالسواء(30)، لكن في تقديم الأمر / لجبريل ◙ قبلَ غيره مِن الملائكة إظهارٌ لترفيع(31) منزلته عند الله(32) تعالى على غيره مِن الملائكة.
          وأمَّا قولنا: مَا معنى القبول؟ احتمل أن يكون عَلى ظاهره، وَهو معنى الترفيع له والإكرام. يُقال: أقبل فلان على فلان، إذا أكرمه ورحَّب به. وقَد جاء مِن طريق آخر في حديث غير هذا: «ويوضَع حُبُّه على الماءِ» فعلى هذا يكون جميع مَن في الأرض مِن إنس وجنٍّ وملائكة. وَقد جاء أنَّ «ما(33) مِن مَوْضِعِ شِبْرٍ في السَّماء(34) إلَّا ومَلَكٌ واضِعٌ جبهَتَه فيها سَاجدٌ لله تعالى» أو كما ورد، «ومَا من(35) حَيَوانِ على اختلافهم إلَّا يُقْبِلُ عليه».
          وقد جاء ما يفسِّر هذا في حقِّ صاحب العلم الذي هو لله أنَّه يستغفر له كلُّ شيء في الأرض حتى الطير في الهواء، والحوت في البحر وهَوَامُّه، وجميعُ الأنعام وحشراتُ الأرض، وشجرُها ومدرُها وكلُّ ما فيها. هؤلاء كلُّهم يدخلون تحت قوله هنا(36): (أَهْلِ الأَرْضِ) أي: كلُّ مَن(37) فيها، فإنَّه إذا جُمع مَن يعقل مع ما لا يعقل يُجمع بلفظ مَن يعقل، فقد يكون معنى ما ذكرناه في حقِّ العلم الذي هو لله، فإنَّ هذه المنزلة أرفع المنازل عند الله تعالى، لأنَّ هؤلاء السادة هم ورثة الأنبياء ‰، ويكون في(38) العالم في أهل جنسِهِ، وهو(39) تفسيرُ القبول الذي يُوضع له في(40) الأرض.
          وقد ذكر الإمام يُمْن بن رزق ☼ أنَّ الله تعالى لا يزال بعبده الصَّالح / حتى يحبِّبَه(41) لعباده، ويلقي خوفه في قلوبهم ويسهل عليه طاعته، ويرزقه حلاوتها، ويشهد لقول هذا الإمام هذا الحديث الذي نحن بسبيله، مع قوله صلعم : «مَن خَاف اللهَ خوَّفَ اللهُ مِنْهُ كلَّ شيءٍ» فإذا جمع الله في قلوب عباده الحبَّ والخوف جاء مَا قاله الإمام سواء بسواء، فلا يكون في هذه المنزلة إلَّا وهو قد خفَّت(42) الطَّاعة عليه وأَنِس بها، فيحصل له مِن ميراث: «أَرِحْنا بِهَا يا بِلَالُ» نسبةُ صدق الاتِّباع والتَّصديق.
          فيا مبصراً نَشْرَ رياحِ المحبوبينَ، هُزَّ أغصانَ ثمرةِ(43) فؤادك، هل تجد مِن تلك الرِّياح نسمةً تنعشُ بها أسماعَ قلوب المشتاقين، ولو نسمةً مَا يرتاحون إليها؟.
          كان بعض أهل الصِّدق والتصديق والتَّوفيق إذا كان عند انشقاق الفجر وهو تحت السَّقف بين الجدران، يقول لمن حَضَره: قد طلع الفجر فيخرجون فيبصرون الفجر كما انشقَّ رَتق جوِّه، لأنَّه جاء(44): «إذا كان عند السَّحر يُرْسِلُ الله ╡ مِن تحتِ العَرْشِ ريحاً عَطِرةً، تنوِّر وجه كلِّ مَن كان يَقْظَان(45) في طاعةِ مَوْلَاه».
          ويُؤخذ بقوة(46) الكلام مِن مفهوم هَذا الحديث النَّدبُ إلى(47) توفية أفعال البرِّ عَلى اختلاف أنواعها، مِن فرض وسنَّة وندب إِلى غير ذلك مِن أنواعه، إذ إنَّ بذلك يحصل للعبد بفضل الله هَذه المنزلة الرفيعة.
          ويُفهم منه أيضاً كثرةُ الحذر وشدَّة النَّهي عن المعاصي والبدع / التي بهما يُحرم العبد هذه المنزلة الجليلة، فمَن فهم أنابَ لِمَا صَفَتِ القلوب. تلمَّحُوا روائحَ القُرْب، وإن كَثُفَتْ حُجُب الجدران(48).
علِّلا(49) قَلْبِي بذكراهم                     فالقلبُ لهم واللهِ مُشْتَاقُ


[1] قوله: ((إنَّ الله)) ليس في (م)، والمثبت من (ج) و(ت).
[2] في (ج): ((قد أحب)). في (ت): ((جبريل ◙ إن الله قد أحب)).
[3] في (ب): ((عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم : (إنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ ◙: إِنَّ اللَّهَ قد أحبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في أهل الأرض)).
[4] في (ج) و(ت): ((السماء بحب الله عبده ويأمرهم)). و في (ب): ((السماء بحب الله عبده وبأمر)).
[5] في (ت): ((حب الله سبحانه للعبد وما معنى حب جبريل له)).
[6] في (ج): ((وأنس)).
[7] في (ت) و(ب): ((حاله)).
[8] في (ت): ((يحبونه)).
[9] في (ج): ((فبكثرة)).
[10] في (ج): ((لأهله)).
[11] في (ج): ((الذي)).
[12] في (ج): ((أو في)).
[13] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((أغلى)).
[14] في (ت) و(ب): ((فلا يرده)).
[15] في (ب): ((إلا الزجر والضرب والتعنيف)). وفي (ت): ((والتعنيت)) كذا في الموضع الآتي. وبعدها في (ج): ((وكذلك)).
[16] في (ج): ((وكذلك)).
[17] في (ج): ((بالشيطان)).
[18] في (ج): ((قوله)).
[19] قوله :((أن يكون)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] قوله: ((ويدعو له)) ليس في (ب).
[21] في (ت): ((تدعوا)).
[22] في (ب): ((ترفيعه)).
[23] قوله: ((له)) ليس في (ج).
[24] قوله: ((للمولى)) ليس في (ب).
[25] قوله: ((للمولى)) ليس في (ج).
[26] في (ج): ((وكذلك)).
[27] في (ج): ((الوضع))، في (ت) و(ب): ((بالوضع)). وبعدها في (ج): ((وكذلك)).
[28] في (ج): ((وكذلك)).
[29] في (ت) و(ج) و(م): ((يا)).
[30] قوله: ((بالسواء)) ليس في (ب).
[31] في (ج): ((لرفيع)).
[32] قوله :((عند الله)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[33] قوله :((ما)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] في النسخ: ((الأرض))، والمثبت هو الصواب والله أعلم.
[35] في (م) و(ت): ((ورد ومن))، والمثبت من (ج) و(ب).
[36] قوله: ((هنا)) ليس في (ب).
[37] في (ب): ((ما)).
[38] زاد في (ج) و(ب): ((غير)). وفي (المطبوع): ((ويكون في غير العالم في غير أهل جنسه)).
[39] في (ت) و(ج) و(م): ((هو)).
[40] زاد في (ت): ((أهل)). و قوله: ((له)) ليس في (ب).
[41] في (م): ((يحبه))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[42] في (ج) و(ت): ((خففت)). و في (ب): ((إلا وقد خفف)).
[43] في (ب): ((ثمرة أغصان)).
[44] قوله :((جاء)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] في (ج) و(ب): ((يقظاناً)).
[46] في (ب): ((من قوة)).
[47] كذا في (ج)، وفي باقي النسخ: ((على)).
[48] في (ب): ((الجدارات)).
[49] في (ب): ((علل)).