بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إن وجدتم فلانًا وفلانًا فأحرقوهما بالنار

          151- قوله: (قالَ رَسُولُ اللهِ صلعم بَعْدَ مَا كَانَ أَمَرَ بِحَرْقِ فُلَانٍ وفلانٍ...(1)) الحديث. [خ¦3016]
          ظاهر الحديث(2) يَدُلُّ عَلَى أنَّ العقاب والحدود لا تكون بالحَرق، وإنَّما تكون بغيره، وإن كان قد ورد عن أبي بكر(3) ☺ أنَّه أحرق(4) لوطيًّا، لكن كان(5) ذلك منه مرَّة واحدة ولم يفعله بعد، ولعلَّه فعل ذلك لعدم بلوغ الحديث إليه، ورجع عنه ببلوغه إليه، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأَوَّل(6): أنَّه يجوز للمجتهد إذا حكم بحكم ثم ظهر له غير ما اجتهد فيه أن ينزع عن اجتهاده ذلك إلى غيره إذا كان الحكم باقيًا(7) لم يمضِ، لأنَّ النَّبيَّ صلعم قد كان أمر بحرق هذين ثم نزع عن ذلك، وقال: (فَإِنْ(8) وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا).
          الثَّاني: أنَّ المجتهد إذا حكم بحكمٍ ثم ظهر له غيره أن يذكر العِلَّة الموجبة لتغيير الحكم، لأنَّ النَّبيَّ صلعم بيَّن العذر الذي لأجله رجع بِقَوْلِهِ ╕: (إِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللهُ ╡ ).
          الثالث: جواز النيابة في الأحكام، لأنَّ النَّبيَّ صلعم أمر بقتل هذين ولم يأمر بأن(9) يؤتى إليه بهما.
          الرَّابع: أنَّ(10) مَن سَبَّ الله ╡ ورسوله صلعم قُتِل ولم يُسْتَتب، لأنَّ فلانًا وفلانًا المذكورين في الحديث قد سُمِّيا في / حديث غير هذا، وقيل: كان سبب ذلك أنَّهما كانا يؤذيان الله ورسوله.
          الخامس: أنَّ إطالة الزمان لا توجب رفع العقاب(11)، لأنَّ النَّبيَّ صلعم أمر بقتل هذين حين رجا القدرة عليهما، وقَبلَ ذلك حين(12) كانت الإذاية(13) منهما صادرة، وَلَمْ(14) تُرْجَ القدرة للمسلمين عليهما لم يأمر فيهما بشيء.
          ويترتَّب على هذا مِن التنبيه أن مَن وقع في شيء يوجب العقاب فستر(15) الله ╡ عليه وأسبغ نِعَمَه(16) وأمهله فلا يَغتَرَّ(17) بذلك ويَدومَ على المخالفة ويقول: أرجو العفو لِمَا ظهر مِن صفة الرحمة مِن دوام الستر وإدرار النعم، وليبادر إلى التوبة والإقلاع قبل مفاجأة المنايا أو النقم(18)، لأنَّ الله ╡ يقول في كتابه العزيز(19): {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ.مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205-207] وقال تعالى(20): {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] والغَرور(21) هو الشيطان، والغُرور _بضم الغين_ هو ما يلقيه مِن تسويلاته وتخيلاته مِن(22) ترك الخوف والطمأنينة بما أظهر ╡ (23) مِن إمهاله وادرار إنعامه وقال النَّبيُّ صلعم : «إنَّ اللهَ يُمْهِلَ الظَّالمَ حَتَّى(24) إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» والتنبيه هنا لكلِّ نوعٍ مِن نوعه لأهل الظاهر مِن نوعه، ولأهل الباطن مِن مشربهم(25)، فتنبَّهْ إن كنت لبيبًا وما يتذكَّر إلا مَن ينيب، والله حسبنا وكفى.


[1] في (ج): ((قوله: قال رسول الله صلعم : إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا)).
[2] في (م): ((وعلى هذا فقس عن أبي هريرة قال: قال رسول صلعم أني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإذا لقيتموهما فاقتلوهما ظاهر الحديث)).
[3] زاد في (ج): ((الصديق)).
[4] في (م): ((حرق)).
[5] قوله: ((كان)) ليس في (م).
[6] في (ج): ((أحدها)).
[7] في (ط): ((باق)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (ج) و (م): ((إن)).
[9] في (م): ((أن)).
[10] في (م): ((أنه)).
[11] في (م): ((الخامس لأن إطالة الزمان لا ترفع العقاب)).
[12] في (م): ((وقبل ذلك كان حين)).
[13] في (ط): ((الأذاة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[14] في (ج): ((ولو لم)).
[15] في (م): ((فيستر)).
[16] في (ج) و (م): ((وأسبغ عليه نعمه)).
[17] في (م): ((وأمهله ولا يغتر)).
[18] في (م): ((المنايا والنقم)).
[19] قوله: ((العزيز)) ليس في (ج) و (م).
[20] قوله: ((وقال)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] قوله: ((الغرور)) ليس في (ج).
[22] قوله: ((هو الشيطان والغُرور... تسويلاته وتخيلاته من)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[23] في (ج): ((بما أظهر منه ╡)).
[24] قوله: ((حتى)) ليس في (م).
[25] قوله: ((من مشربهم)) بياض في (ط)، وفي (ج): ((ولأهل الطريق من مشربهم)) والمثبت من (م)، وفي (المطبوع): ((بمشربهم)).