بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد

          264-قوله صلعم : (يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلَاثٌ...) الحديث(1). [خ¦6514]
          ظاهر الحديث أنَّ الميت يتبعُهُ الأهل والمال والعمل، فَما(2) يبقى معه إلَّا العمل(3)، ويرجع الباقي. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: الكلام على الاتِّباعية، كيف هي(4)؟ ومَا الحكمة في الإخبار بهذه الثلاثة(5)؟ ونَحن نعرف ذلك ونشاهده؟
          أمَّا قولنا / في الاتِّباعية كيف هي؟ فالتقسيم يقتضي أنْ نتكلَّم عَلى كلِّ واحد(6) مِن الثلاثة على حِدَة.
          فاتِّباع الأهل هو حملُهُم جنازته، وصيغة اللَّفظ تقتضي أن يكون الماشون مع الجنازة خلفها، والسُّنَّة أن يكون الماشون مع الجنازة أمامَها. وقد كان عمر بن الخطاب ☺ يضرب النَّاس بالدِّرة على المشي خلْفَها ويقول: إنَّما أنتم شفعاءُ لها، والشفيع يكون أمام المشفوع له(7). أو كما قال ☺.
          والجمع بين ذلك أنَّ نقول: إنَّ الذي يخرج مِن أجل شخص حيَّاً كَان أو ميتاً فإنَّما هو تابع له، وإن كان يمشي أمامه، ألَا ترى أنَّه ليس له اختيار أن يقصد موضعاً إلَّا الموضع الذي يقصد الذي خرج معه، فهو تابع له، فلمَّا كان خروج الميت ومشيه إلى قبره فمشي أهله معه إلى القبر إنَّما هُو مِن أجله، فإنَّهم لا حاجة(8) لهم في القبر نفسه، فهم في مشيهم _وإنْ كانوا أمامه_ تابعون له حيث كان قبره مشَوا معه إليه، فبان في حقِّهم اسم التَّبعية له، وتقدُّمهم أمامَه اتِّباعاً لسنَّة نبيِّهم صلعم.
          وأمَّا اتِّباع المال ففيه بحث: وهو أنَّ الميت عند خروج نَفْسه رجع المال لغيره، فكيف يصحُّ أن تقول: إنَّ مالَه تَبِعَهُ، وَهو لغيره؟ وَماذا مِن المال يتبعه إلى قبره؟ فمَن كانت له دُور أو بهائم أو عَيْن كيف تتبعُهُ إلى قبره؟
          والجواب: أنَّ ذلك الزمان الذي بيْنَ دفنه وخروج الرُّوح: المالُ فيه مضافٌ إليه، لأنَّ السنَّة أحكمت ألَّا يُقْتَسَمُ(9) مالُه إلَّا بعدما يُخَرج منه كفنُه / وما يُحتاجُ إليه مِن جهازه إلى قبره، ووصيَّتُه(10) ودينٌ إن كان عليه، وبعد ذلك إنْ فَضَل مِن المال فضل اقتسمته الورثة بمقتضى ما فُرِضَ لهم.
          والسُّنَّة تعجيل دفن الميت كما قال صلعم : «إنَّما هو خَيرٌ تقدِّمُونَه إليه، أو شرٌّ تَضَعُونَهُ عن رقابِكُم» أو كما قال صلعم. فبان أن يُقال: (مَالُه) فإنَّ أَمْرَهُ فيه عامل، وهو إليه في الوقت مضاف مِن أجل أنَّه إنَّما يُكنى عن المال في الوقت بـ «تركة فلان» الذي هو الميت، ولم تحصل يد أحد ممَّن له فيه حقٌّ على شيء منه بعدُ.
          وأمَّا قولنا: مَاذا يتبعُهُ مِن ماله؟ فإنَّ العرب تُسمِّي البعض باسم الكلِّ، والكلَّ باسم البعض، فيتبعه مِن ماله عبيد إن كان له، وما يُحمل عليه، وما يُحفر به قبره مِن الآلة، وما يشبه(11) ذلك، فيصحُّ أن يُطلق عليه اسم (مَالِه). ومِن جهة المعنى إذا رجعوا مِن دفنه إنَّما يأخذون في تقسيم المال إلى مَن له حقٌّ، فيرجع(12) الاسم معهم إلى وقت وصولهم إلى منزله وَتوزيعه عَلى(13) مَن له فيه شيء، فعند ذلك رجع اسم المال لِمَنْ(14) حصل له بعدُ فصحَّ أن يُقال: تَبِعَه مالُه مِن جهة الحسِّ ومِن جهة المعنى.
          وأمَّا اتِّباع عمله له(15) ففيه بحث أيضاً، وهو: أنَّ عمله قد رُفع وكُتب، وموته جاء(16) بعد نفاد عمله ورفعه، فكيف يكون المتقدِّم تابعاً للمتأخِّر؟ فالجواب(17): أنَّه لَمَّا كان العمل _وإن كان قد رُفع_ فصاحبه به مطلوب، وبه مأخوذ، لَا يمنعه عنه مانع حيث كان، فصحَّ أن يُقال(18) عنه: «تابع له». /
          وكذلك(19) قال صلعم في غير هذا الحديث: «إنْ كانَ صالحاً لم يَأْنَسْ(20) إلَّا به، وإن كانَ سَيِّئاً لم يَسْتَوحِش إلَّا مِنْهُ» أو كما قال صلعم.
          وقد جاء أنَّ العمل إذا كان صالحاً دخل على المرء في قبره في(21) صورة شخصٍ حسنِ الصورة، طيِّبِ الرائحة، نُورِي، فيأنسُ به مِن وَحشة القبر فيقول له: مَن أنت الذي قد منَّ الله عليَّ بك؟ فيقول له(22): أما تعرفني؟ فيقول له: لا(23) أعرفك. فيقول له: أنا(24) عملك الصَّالح في دارِ الدنيا(25) لا أفارقك. وإن كان العمل سيئاً دَخل عليه في صورة وَحِشة منتنة وظلمة(26)، فيستوحش منه زيادة لوحشة القبر وضيقِهِ(27)، فيقول له: مَن أنت الذي روَّعتني؟ فيقول له: أمَا(28) تعرفني؟ فيقول له(29): لا أعرفُكَ. فيقول له: أنا عملُكَ السيِّئ في دار الدُّنيا لا أفارقُكَ، أو كما ورد. عافانا الله مِن سيِّء الأعمال بمنِّه(30).
          وأمَّا قولنا: مَا الحكمة في الإخبار بهذا، ونحن نشاهده ونعرفه؟ فالحكمة في ذلك مِن وجوه:
          منها: أنَّه إنَّما نعاين مِن جهة الإدراك بالحواسِّ رُجوعَ الأهل والمال، والعمل إنَّما يُعرف مِن طريق الإيمان بما أُخْبِرنا مِن ذلك، فإعادته هنا بعد العلم به لأنَّ ذلك مِن لازم الإيمان، فهو تأكيد في الإخبار حتَّى يرجع أمر الغيب عندنا في ذلك مثل الَّذي نشاهده حسَّاً مِن الأهل والمال.
          ومنها: التَّنبيه عَلى الاهتمام بتحسين العمل وإيثار الاشتغال به، إذ هو الذي يبقى معنا، وغيره يرجع عنَّا، فتقديم مَن يبقى معك على مَن يرجع / عنك ضروري إن عقلتَ، ولذلك قال صلعم : «الويلُ كلُّ الويلِ لِمَن تَرَكَ عِيَالَهُ(31) بخيرٍ، وقَدِم على ربِّه بِشَرٍّ» أو كما قال صلعم.
          ومنها: التنبيه على الزُّهدِ في دارٍ أنت خارج منها على هذه الحالة لا محالة(32)، والإقبال عَلى دار ليس لك فيها إلَّا مَا قدَّمته مِن هذه الذَّاهبة عنك، فاغتنم زمان المهلة قبل وقت النَّدم، ولا ينفع، وتطلب(33) الرجوع لتجبر فيُقال لك: «الصَّيفَ(34) ضَيَّعْت اللَّبنَ».
          وفيه دليل على جواز اتِّخاذ الأهل والمال، ولا يضرَّان(35) إذا كان العمل صالحاً. يُؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (يَتْبَعُهُ مَالُهُ وَأَهْلُهُ) فلو لم يكن ذلك جائزاً مَا جعله مِن التابعين له.
          ويترتَّب عليه مِن الفقه أن يذكَّر الإنسان بالخير، وإن كان يعلمه، ويحذَّر مِن الشَّرِّ(36)، وإن كان يعرفه، فإنَّ الغفلة غالبة علينا، وَلذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا تلاقوا يقول بعضهم لبعض: «تَعَالوا(37) نُؤْمِن» أي: نتحدَّث في الإيمان(38) وأنواعِ تكليفاته، لأنْ يذكِّر بعضهم بعضاً فيقوى إيمانهم، فيكون ذلك مِن باب التعاون على البرِّ والتقوى، كما قال جلَّ جلاله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى(39)} [المائدة:2].
          وفي هذا دليل لأهل السلوك فإنَّ هذا شأنهم، إذا اجتمع أحد(40) منهم مع صاحبه لم يكن أخذُهم(41) إلَّا في الإيمان وأنواع الأعمال والأحوال، فإن(42) افترقوا اشتغلوا بما به تحدَّثوا. أولئك الذين فهِموا معاني الكتاب والسنَّة.
          جعلنا الله مِن التَّابعين لهم بإحسان / بفضله وبمنِّه(43).


[1] في (ب): ((عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ)).
[2] في (م): ((فلا))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((عمله)).
[4] قوله: ((هي)) ليس في (ب).
[5] زاد في (ب): ((كيف هي)).
[6] في (ب): ((واحدة)).
[7] قوله: ((له)) ليس في (ب).
[8] قوله :((حاجة)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((يقسم)).
[10] في (ب): ((ووصية)).
[11] في (ب): ((أشبه)).
[12] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((فرجع)).
[13] في (ج) و(ب): ((إلى)).
[14] في (ب) و(م): ((من)).
[15] قوله: ((له)) ليس في (ب).
[16] قوله: ((جاء)) ليس في (ب).
[17] في (ب): ((والجواب)).
[18] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((نقول)).
[19] في (ب): ((ولذلك)).
[20] في (ج) و(ت): ((تتأنس)). و في (ب): ((يتأنس)).
[21] قوله :((في)) زيادة من (ب) على النسخ. وفي (ت): ((على المرء في قلبه)).
[22] قوله: ((له)) ليس في (ب).
[23] في (م): ((ما))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] زاد في (م): ((خلقك أو)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] قوله: ((في دار الدنيا)) ليس في (ت) و(ج) و(م).
[26] في (ج) و(ب): ((ذو ظلمة)).
[27] قوله: ((وضيقه)) ليس في (ب).
[28] في (ت): ((لا)).
[29] قوله: ((له)) ليس في (ب). وقوله: ((مَن أنت الذي روَّعتني؟ فيقول له: أما تعرفني؟ فيقول له)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[30] قوله: ((بمنه)) ليس في (ب).
[31] في (ب): ((عائلته)).
[32] في (م): ((لا محل له)).
[33] في (ب): ((تطلب)). وقوله :((وتطلب)) ليس في (م) و(ت) والمثبت من (ج).
[34] في (ب): ((لك: في الصيف)).
[35] في (م): ((يضران ذلك)).
[36] في (ب): ((من الشيطان)).
[37] في (ج): (تعال))، في (ت): ((تعالى)).
[38] في (ب): ((تعالوا نتحدث في الإيمان)).
[39] قوله :((كما قال جلَّ جلاله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)) زيادة من (ج) على النسخ الأخرى.
[40] قوله: ((أحد)) ليس في (ج).
[41] في النسخ و(ت): ((أخذهم))، والمثبت هو الصواب وهو موافق للمطبوع.
[42] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((فإذا)). و قوله: ((والأحوال)) ليس في (ب).
[43] في (ج): ((ومنه)). و في (ب): ((بمنه وفضله)).