بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة

          278- قوله صلعم : (مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ...) الحديثَ(1). [خ¦6993]
          ظاهر الحديث يدلُّ على حُكْمَين:
          أحدهما: أنَّه مَن رآه صلعم في النَّوم فسيراه في اليقظة.
          والثَّاني: الإخبار بأنَّ الشيطان لا يتمثَّل به ╕. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: هل هذا على عمومه في حياته صلعم وبعد مماته، أو هذا كان في حياته ليس(2) إلَّا؟ وَهل يتمثَّل بغيره مِن الأنبياء / والرُّسل(3) صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، أو هذا مِن الأمور الخاصَّة به(4) ╕؟ وَهل ذلك لكلِّ مَن رآه مطلقاً، أو خاصَّاً لمن فيه الأهليَّة والاتِّباع لسنَّته ◙ (5)؟
          أمَّا قولنا: هل هو على العموم في حياته ◙ وفي مماته، أو في حياته(6) لا غير؟ اللَّفظ يعطي العموم، وَمَن يدَّعِي الخصوص فيه بغير مخصِّص مِنه صلعم فمتعسِّف، وَقد وقع مِن بعض النَّاس عدم التَّصديق بعمومه، وقال على مَا أعطاه(7) عقله: وكيف يكون مَن هُو في دار البقاء يُرى في دار الفناء؟ وفي هذا القول مِن المحذورِ وجهان خطران:
          أحدهما: أنَّه قد وقع(8) في عدم التَّصديق لعموم قول الصَّادق ╕ الذي لا ينطق عَن الهوى.
          والثَّاني: الجهلُ بقدرة القادر وتعجيزها، كأنَّه لم يسمع في سورة البقرة قصَّة البقرة، وكيف قال الله ╡ : {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] فضُرِب قبرُ(9) الميت، أو هو نفسُه ببعض البقرة فقام حيَّاً سَوِيَّاً، وأخبرهم بقاتلِهِ، وذلك بعد أربعين سنة عَلى ما ذكره أهل العلم(10)، لأنَّ بني إسرائيل تأخَّر أمرهم في طلب البقرة عَلى الصِّفة التي نُعتت لهم أربعين سَنَةً، وَحينئذ وجدوها. وَكما أخبر أيضاً في السُّورة نفسها في قصَّة العُزَيْرِ وقصَّة إبراهيم ◙ في الأربع مِن الطَّير وكيف قصَّ علينا في شأنها(11).
          فالذي جَعَلَ ضرب الميت ببعضِ البقرة سبباً لحياته، وَجعل دعاء إبراهيم ◙ سبباً / لإحياء الطيور، وجعل تعجُّب العزير سبباً لإحيائه وإحياء حماره بعد بقائه مئة سنة ميتاً، قادرٌ على(12) أن يجعل رؤيته صلعم في النَّوم سبباً(13) لرؤيته في اليقظة.
          وقد ذُكر عَن بعض الصَّحابة _وأظنُّه ابن عباس ☻_ أنَّه رأى النَّبيَّ صلعم في النَّوم، فتذكَّر هذا الحديث، وبقي مفكِّراً(14) فيه، ثمَّ دخل عَلى بعض أزواج النَّبيِّ صلعم _وأظنُّها ميمونة_ فقصَّ عليها قِصَّته، فقامت وأخرجت(15) له جُبَّة ومِرآة، وَقالت له: هذه جبَّته وَهذه مِرآته صلعم. قال ☺: فنظرتُ في المرآة فرأيتُ صورةَ النَّبيِّ صلعم، ولم أَرَ لنفسي صورةً.
          وقد ذُكر عَن السَّلف والخلف(16) إلى هلمَّ جرَّاً عن جماعة ممَّن كانوا رَأَوْهُ صلعم في النَّوم، وكانوا ممَّن يحملون هَذا الحديث على ظَاهره، فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عَن أشياء كانوا منها متخوِّفين، فأخبرهم بتفريجها، ونصَّ لهم عَلى الوجوه التي(17) منها يكون فَرَجُها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة وَلا نقص.
          والمنكِر لهذا لا يخلو أن يُصدِّق بكرامات الأولياء أو يكذِّب بها، فإن كان ممَّن يكذِّب بها فقد سقط البحث معه، فإنَّه يُكذِّب مَا أثبتته السُّنَّة بالدَّلائل الواضحة، وقد تكلَّمنا على هذا أوَّل الكتاب وبيَّنَّاه بما فيه / كفاية بفضل الله تعالى، وإنْ كان مصدِّقاً بِها فهذه مِن ذلك القبيل، لأنَّ الأولياء يُكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمَين العلويِّ والسُّفليِّ عديدة، فلا نُنْكِرُ هذا مع التَّصديق بذلك.
          وأمَّا قولنا: هل جميع الأنبياء والرُّسل ╫ مثله ◙ (18) في ذلك لا يتمثَّل الشَّيطان على صُورهم، أو هذا(19) خاصٌّ به صلوات الله وسلامُهُ عليه وعليهم أجمعين؟ فليس في الحديث مَا يدلُّ على الخصوص قطعاً، وَلا على العموم قطعاً(20)، وَلا هذه الأمور ممَّا تُؤخذ بالقياس ولا بالعقل(21)، وما يُعْلَم مِن علوِّ مكانتهم عند الله تعالى يُشعِر أنَّ العناية تعمُّهم أجمعين، لأنَّهم(22) صلوات الله عليهم أتوا إلى إزالة الشَّيطان وخِزْيه، فأشعَرَ ذلك أنَّ الشيطان لا يتمثَّل بصورهم المباركة، كما أخبر ◙ في كرامته وكرامتهم: «أنَّ لحومَهُم عَلى الأرضِ حَرَامٌ» حتَّى يُخْرِجَهم كما جُعِلوا(23) فيها، كذلك تساويهم في هذه الكرامة، والله أعلم.
          وأمَّا قولنا: هل ذلك عَلى عمومه لكلِّ مَن رآه ╕ أو خاصٌّ؟ فاعلم: أنَّ الخيرَ كلَّه المقطوعَ به، والمنصوصَ عليه، والمشارَ إليه بأدلَّة الشَّرع وقواعده إنَّما هُو(24) لأهل التَّوفيق.
          ويبقى في غيرهم عَلى طريق الرَّجاء، للجهل(25) بعاقبتهم؛ فلعلَّهم ممَّن قد سبقتْ لهم(26) سعادةٌ في الأزل، فلا يقطع(27) عليه باليأس مِن الخير، لا سيما مع قوله ◙ : «إنَّ أحَدَكُم / ليَعْمَلُ بِعَملِ أهلِ الجنَّة حتى لم يَبْقَ بينَهُ وبينَ الجنَّة إلَّا شِبْرٌ أو ذِراعٌ، فيسبقُ عليه الكِتابُ فيعملُ بعمل أهل النَّار، وإنَّ أحدَكُم ليَعْمَلُ بعملِ أهل النَّار حتى لم يبقَ بينَه وبينَ النَّار إلَّا شِبْرٌ أو ذِراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعملِ أهل الجنَّة فيدخلها(28)».
          لكن كيف يراه مَن لا يصدِّق بقوله؟ هَذا مِن طريق الأدلة بعيدٌ، وأمَّا مَن فيه مخالفة لسنَّته ◙ فاختلف العلماء في رؤياه له صلعم، إذا ادَّعى أنَّه رآه(29)، هَل هي حقٌّ أم لا؟ وقد تقدَّم البحث عَلى هذا في الكتاب، فكيف تكون الرؤية في اليقظة مع عدم التسليم في رؤيا النوم؟ هذا فيه ما فيه.
          وفي(30) الحديث إشارة وَهي: أنَّه لَمَّا أخبر صلعم أنَّ في آخر الزمان مِن أمَّته مَن يودُّ أنه خرج عن أهله وماله بأن يكون رآه، أبقى لَهُم(31) هذا التأنيس العظيم، بأنَّه مَن رآه في النوم فسيراه في اليقظة، فطَمِعت لذلك نفوسُ المحبِّينَ(32) الصَّادقين المصدِّقين، فرأوا مَا به أُخبروا كَما به أخبروا. لكن صاحب الشكِّ لا يثبتُ له في خيرٍ(33) قدم.
          وإذا تتبَّعت أحوال الَّذين رُوي عنهم أنَّهم رأوه صلعم تجدهم مع التَّصديق بهذا الحديث، محبِّين فيهِ صلعم حبَّاً يزيدون فيه على غيرهم، وقد صحَّ عندي عن بعض الأشخاص الَّذين ذكرتهم قبلُ في أوَّل الكَلام(34) على الحديث، أنَّه صحَّ عنده مِن طريقٍ لا شكَّ فيه أنَّه لَمَّا رآه / في(35) بعض مرائيه أقبلَ عليه صلعم إقبالاً عجيباً، فقال له: يا رسولَ الله بِمَ استوجبتُ أنا هذا؟ فقال له صلعم : «بحبِّك فيَّ» فلم يجعل له سبباً إلى رفع منزلته غير حبِّه له.
          وهنا إشارة لَو عرفها المنكِر ما أنكر، وذلك أنَّ المحبَّ فيمن أحبَّه فانٍ، قد أخرجه الاشتغال بمن أحبَّ عَن هذه الدار وأهلها، فلمَّا(36) كان معدوداً في الفانين لحق بأهل دار البقاء، برؤية أهلها والتنعُّم(37) بمشاهدتهم، وكانت جثَّته في هذه الدَّار كظاهر القبر في الدُّنيا وباطنه في الآخرة(38)، لأنَّه أوَّل منزل مِن منازل الآخرة، وقد تلوح مراراً عَلى ظاهر القَبر علامات ممَّا هو دَاخله مِن خيرٍ أو غيره، وهذا مِن الشُّهرة بينَ(39) النَّاس، خلفاً(40) عَن سلف، مِن حيث لا يحتاج أن يُذكَر له حكايةٌ ولا خبر.
          وفيه دليلٌ على عظيم قدرة الله تعالى، كيف جعل للشَّيطان القدرة عَلى أن يتصوَّر في أيِّ صورة شاء، ويتشبَّه بمَن شاء؟ يُؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي)، فدلَّ عَلى أنَّه يتمثَّل بغيره، ومثل ذلك جاء(41) عَن الملائكة ‰ أنَّ الله ╡ أعطاهم التَّصوير(42) يتمثَّلون على أيِّ صورة شاؤوا، فانظر إلى ما بين حالة الملَك وحالة الشَّيطان، وقد أُعطيا(43) معاً هذه الحالة العجيبة.
          فمِن أجل هذا لم يلتفت أهل التوفيق إلى الكرامات بخرق العادات، وطلبوا التَّوفيقَ لِمَا به أُمروا، ولطفَ الله بهم في الدنيا والآخرة، لأنَّ خرق العادة قد يكون للصِّدِّيق والزِّنديق، وهي للزِّنديق مِن طريق الإملاء والإغواء، وإنَّما تقع التَّفرقة بين مَا هو / مِنها كرامة أو بلاء وإغواء بالاتِّباع للكتاب والسُّنَّة، وقد تقدَّم مِن الكلام في هذا في أول(44) الكتاب مَا فيه شفاء، والحمد لله.


[1] في (ب): ((عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي)).
[2] في (م) و(ت): ((وليس)) والمثبت من (ج) و(ب).
[3] قوله: ((والرسل)) ليس في (ب).
[4] في (ج): ((من الصالحة به)).
[5] قوله: ((وَهل ذلك لكلِّ مَن رآه مطلقاً، أو خاصَّاً لمن فيه الأهلية والاتِّباع لسنَّته ◙)) ليس في (ج).
[6] قوله: ((أو في حياته)) ليس في (ب).
[7] في (ت): ((أعطله)).
[8] في (ت): ((يقع)). و قوله: ((وقع)) ليس في (ب).
[9] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((فضرب في)).
[10] في (ب): ((ذكره العلماء)).
[11] في (ب): ((شأنهما)).
[12] قوله: ((على)) ليس في (ت).
[13] قوله :((سبباً)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[14] في (ج) و(ب): ((متفكراً)).
[15] في (ب): ((فأخرجت)).
[16] في (م): ((عن الخلف والسلف)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] في النسخ: ((الذي))، والمثبت هو الأولى، وهو موافق للمطبوع.
[18] قوله: ((مثله ◙)) ليس في (ب).
[19] في (م): ((وهذا))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] قوله: ((قطعاً)) ليس في (ب).
[21] في (ج): ((العقل)).
[22] في (ب): ((فإنهم)).
[23] في (ج): ((فعلوا)).
[24] في (ب): ((قواعد إنما هي)).
[25] في (ج): ((على طريق الجهل)).
[26] في (ب): ((للجهل بمن قد سبقت له)).
[27] في (ج): ((الأزل انقطع)).
[28] قوله :((فيدخلها)) ليس في النسخ، والمثبت من الحديث الصحيح.
[29] في (ج): ((رأى)).
[30] في (ج): ((في)). و في (ب): ((وفي هذا)).
[31] كلمة: ((لهم)) ليست في (م).
[32] في (ب): ((المحسنين)).
[33] في (ج) و(ت): ((حين)). وكتب في هامش (ت): ((في خير)).
[34] في (ج) و(ت): ((الكتاب)).
[35] قوله: ((في)) ليس في (ج).
[36] في (م): ((فما)) والمثبت من (ج) و(ت).
[37] في (ت): ((والمنتعم)).
[38] في (ج): ((وباطنه أخرى)).
[39] في (ت): ((من)).
[40] في (م) و(ت): ((خلف)) والمثبت من (ج).
[41] قوله: ((جاء)) ليس في (ج).
[42] في (ت): ((التطوير)).
[43] في (ت): ((أعطينا)).
[44] قوله: ((أول)) ليس في (ت).