بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث أنس: أن رسول الله دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر

          152- قوله: (أَنَّ رَسُولَ(1) اللهِ صلعم دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ(2)...) الحديث. [خ¦3044] /
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى أن الحَرَم لا يجير مِن الحدود، والكلام عليه مِن وجوه(3):
          الأَوَّل:(4) قوله (دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ) إنَّما أبهم الفتح ولم يبيِّن أي فتحٍ كان، للعلم به ولشهرته(5) وللقرينة التي قارنته في الحديث تبيِّن أيَّ فتح كان، وهو مِن الفصيح في الكلام حذف الألفاظ للعلم بالمعنى(6).
          وفيه دليل لمن ذهب مِن الفقهاء أنَّ مكة دُخِلَت عَنوة، لأنَّ المِغفر مِن السِّلاح التي(7) لا تُتخَذ عند الأمن، وأيضًا فلو كان دخوله لها صلحًا لم يكن ابن خَطَل ليهرب منه ويستجير بالحرم، إذ إنَّ الصلح مجير له، ولم يكن النَّبيُّ صلعم ليأمر بقتله وهو(8) قد صالحهم، وقد جاء بالنص ما يردُّ قول مَن ذهب لدخولها صلحًا(9) وهو قَوْلُهُ ╕: «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ(10)، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا لِأَحَدٍ(11) بَعْدِي» وهذا نصٌّ في موضع الخلاف.
          الثَّاني(12): جواز لبس السلاح في حال الإحرام إذا كان ذلك لضرورة(13) مثل الخوف مِن اللُّصوص وما أشبهه، لأنَّ النَّبيَّ صلعم لبس السلاح في حال إحرامه لضرورة القتال.
          الثَّالث(14): لبسه ╕ للسلاح(15) فيه دليل على أنَّ مَن بلغ في الحقيقة والتوحيد المنتهى فالخطاب له بامتثال الحكمة لم يزل؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم أرفع النَّاس منزلة في الحقيقة، ومع أنَّه قد وعده الله ╡ بالنُّصرةِ والعِصْمةِ، / فقال(16) تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ولكن مع هذا كله لم يترك امتثال الحكمة(17) في كل أجزاء أعماله مثل ما نحن بسبيله مِن لبس السلاح وغيره. يوفي في الظاهر مِن طريق الحكمة المجهود(18) وفي الباطن ما يجب مِن التوحيد بردِّ الحَول والقوة لله والخروج عن رؤية أعماله.
          الرَّابع(19): أنَّ الحدود لا تجب(20) إلا بإذن مِن الإمام، لأنَّ مَن أبصر هذا الرجل متعلِّقًا بأستار الكعبة لم يقتله حتَّى استأذن النَّبيَّ صلعم فيه(21)، ولأن بحضور الإمام لا يجوز الحكم لغيره وإن علم مقتضاه.
          الخامس(22): جواز النيابة في الأحكام والحدود، لأنَّ النَّبيَّ صلعم أمر بقتله ولم يأمر بإحضاره بين يديه.
          السَّادس(23): أنَّ الرعية لا يجوز لهم أن يخفوا عن راعيهم شيئًا مِن أمورهم ولا يفعلوا(24) شيئًا حتَّى يشير به عليهم، لأنَّ هذا الصحابي ☺ لم يكتم شأن ابن خطَل حين رآه، وما وَسِعه إلا أن يخبر به النَّبيَّ صلعم، فكذلك(25) جميع الرعاة يجب عليهم أن لا يخفوا مِن أمورهم شيئًا عن راعيهم(26) إذا كان عدلًا، لأنَّ إخبارهم له بذلك تترتب عليه(27) مصالحه ومصالحهم، وقد قال ╕: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال:(28) لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ولِولَاةِ الْمُؤْمِنينَ ولِخَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ(29)» والإخبار له بما لا يعلم مِن باب النصيحة.
          ثمَّ هذا الوجه يحتاج فيه إلى (بحث)(30)، وهو: أنَّه هل تتعدَّى علَّته أم لا؟
          فعلى القول بأنَّها غير / متعدِّية فلا بحث(31) وعلى القول بأنَّها(32) متعدِّية وهو الأظهر لِمَا بينَّاه في الأحاديث قَبْلُ لكثرة الفوائد في كلام الشَّارع ╕، لأنه ◙ (33) قد قال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» فيجب على كلِّ مَن كان مسترعيًا أن يخبر راعيه بأجزاء أموره حتَّى لا يكون منه فعل إلا بأمر راعيه ومشورته، وكل أحد بالنسبة إلى حالة راعيه(34)، فالسيد في قومه راعٍ عليهم، والرجل في بيته كذلك.
          ومَن كان عَريًّا عن القبيلة والأهل فهو أقل وظيفة مِن غيره، لأنَّه لم يبق عليه(35) غير وظيفة الجوارح وهي مسترعية إلى النظر فيها بالعقل والشرع(36) هذا في حكم الظاهر، وكذلك يجب أيضًا في المعاني، وهو حكم الباطن، وهو(37) ما يخطر مِن(38) الخواطر النفسانية والشيطانية والهوائية فكلُّها مسترعية وراعيها هو العقل، والحاكم على الجميع هو(39) الشرع(40).
          فإذا خطر للمرء خاطر أو وقع له واقع فليعرضه أوَّلًا على العقل، والعقل إذ ذاك ينظر بمقتضى الأمر(41) والحكمة، فإن كان فيه مصلحة أجازه وإلا منعه، وإن كان المرء ممَّن أُمِدَّ بالتوفيق وكانت شهواته(42) وخطراته في مَرْضاةِ ربِّه فهذه قاعدته أبدًا، وليحذر مِن الغفلة عنها، لأنَّ بها قِوام أمرٍ، لأنَّه إذا لم يكن على هذا الحال وإلا قد(43) تستفزُّه(44) النفس في مرة ما وهو لم يشعر.
          ومثل هذا ما حُكي عن زكريا ╕(45) حين لقي إبليس اللعين(46) فسأله: هل قَدَر عليه قَطُّ أو نال منه شيئًا؟ / فقال اللعين: نعم ليلة أَحضَرتَ بين يديك عَشَاءَك فشَهَّيْتُكَ الطعامَ حتَّى زدتَ فيه على العادة فنمتَ بسبب ذلك عن وِردك، فقال: والله لا أشبع بعدها أبدًا.
          فإذا كان المرء يستعمل نظره أبدًا على القاعدة التي قررناها كان أكله ونومه ويقظته مضبوطًا بلسان العلم، وأيضًا فإنَّه بنفس نظره إلى تلك القاعدة كان له مِن الأجر ما لا يكون للصائم القائم الغافل عنها، لأنَّه لا يحمله على هذه المحاسبة والمراقبة إلا الخوف مِن الله ╡ والإجلال له وقوة اليقين(47)، ولهذا المعنى كان بعض الفضلاء يقول: يحتاج العاقل أن يكون محاسبًا ومراقبًا، ومعنى المحاسب هو الذي يحاسب نفسه فيما مضى من عمره، فإن كان بقي عليه شيء فليخلِّص نفسه مادام في هذه الدار.
          والمراقبة هي: كلَّما(48) خطر له خاطر عرضه على العقل ونظره بلسان العلم فما حسن منه(49) فعل، وما قبح منه ترك ولم يفعل، وإلا كان كالتاجر ينفق ولا يعرف حتَّى يفلس، وقد قال ╕: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا».
          ولأجل ترك النظر إلى هذه القاعدة أو الجهل بها وقع كثير مِن الخلل والفساد عند بعض المدَّعين للطريق المنتسبين إليه، لأنَّه يخطر لأحدهم التصرف في مرضاةِ نفسه وما يشير به عليه هواه، وقد يسمع وسوسة(50) مِن الشيطان فيأخذ ذلك / مِن حينه على الإطلاق مِن غير أن يلحظ القاعدة التي قررناها فيضلَّ مع الضالين(51)، وهو يحسب أنَّه يحسن صنعًا فيقول: قيل لي، وقلتُ، وخطر لي، ووقع لي، وهيهات هيهات ليس التعبُّد بالخواطر ولا بالشهوات وإنَّما هو بالامتثال، والامتثال لا يتصوَّر وجوده إلا مع العلم، والعلم قد شاء ╡ وسبقت إرادته أنَّه(52) لا يؤخذ إلا بالتَّعَلُّم لقَوْله ╕: «إِنَّمَا(53) العِلْمُ بالتَّعَلُّمِ» والمراد بهذا التعلم هو علم النقل وهو الأمر والنهي، لأنَّه لا يؤخذ بصفاء القلب ولا بغيره، وإن أخذ بصفاء القلب ولا بغيره وإن أُخِذَ بصفاء القلب فلا يجوز التعبُّد به حتَّى يكون نقلًا، وإنَّما يكون بصفاء القلب العلم اللَّدني(54) ومع ذلك فالعلم المنقول لا بدَّ منه فيه، لأنَّ(55) به يختبر صحتَه مِن سقمِه.


[1] في (م): ((وكفى بالله حسيبا عن أنس بن مالك أن رسول)).
[2] زاد في (م): ((فلما نزعه جاءه رجل فقال إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال أقتلوه)).
[3] في (ج): ((السادس أن رسول الله صلعم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر الحديث يدل على أن الحرم لا يجير من الحدود والكلام عليه من وجوه)).
[4] في (ج): ((السابع)).
[5] في (ج) و (م): ((وشهرته)).
[6] في (م): ((الالفاظ للمعنى)).
[7] في (م): ((الذي)).
[8] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[9] في (م) و(ج): ((قول أن دخولها كان صلحًا)).
[10] في (م): ((النهار)).
[11] زاد في (م): ((من)).
[12] في (ج): ((الثامن)).
[13] في (ج): ((الضرر)).
[14] في (ج): ((التاسع)).
[15] في (م): ((السلاح)).
[16] في (ج): ((وقال)).
[17] قوله: ((ومع أنَّه قد وعده الله ╡ بالنصرة... لم يترك امتثال الحكمة)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] في (ج): ((الموجود)) وفي (م): ((المحمود)).
[19] في (ج): ((العاشر)).
[20] في (ج) و (م): ((لا تجوز)).
[21] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[22] في (ج): ((الحادي عشر)).
[23] في (ج): ((الثاني عشر)).
[24] في (ط): ((ولا يفعلون)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] في (ج) و (م): ((وكذلك)).
[26] في (م): ((عن راعيهم شيئا من أمورهم)) بتقديم وتأخير.
[27] في (ط): ((بذلك عليه تترتب))، وفي (م): ((بذلك ◙ تترتب)) والمثبت من (ج).
[28] زاد في (ط): ((النصيحة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] في (ج): ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)) وفي (م): ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
[30] في (م): ((ثم هذا يحتاج إلى بحث)).
[31] في (م): ((يجب)).
[32] في (م): ((أنها)).
[33] قوله: ((لأنه ◙)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى. وقوله بعدها: ((قد)) ليس في (م).
[34] في (ج) و (م): ((وكل أحد بالنسبة إلى حاله راعٍ)).
[35] في (ط): ((عليهم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[36] قوله: ((والشرع)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[38] في (ج) و(م): ((في)) وكتب فوقها في (م): ((من)).
[39] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[40] قوله: ((والحاكم على الجميع هو الشرع)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[41] في (م): ((الأمور)).
[42] في (ط): ((مشاهداته)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[43] في (م): ((فقد)).
[44] في (ط): ((تسترقه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] في (ج) و (م): ((حكي عن بعضهم)).
[46] في (م): ((إبليس لعنه الله)).
[47] في (ج): ((له ما هو قوة اليقين)).
[48] في (م): ((مهما)).
[49] زاد في (م): ((العقل)).
[50] في (ط): ((توسْوساً)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[51] في (ج): ((الضالة)).
[52] في (م): ((أن)).
[53] في (م): ((وإنما)).
[54] في (م): ((للعلم الديني)).
[55] في (م): ((لا بد منه لأنه)).